مثّل تدشين الصين لحاملة طائراتها الثالثة “فوجيان” Fujian رسمياً نقطة تحول كبرى في التنافس المحتدم بين واشنطن وبكين، التي لا تخفي طموحها خاصة في القطاع العسكري.

وتُعتبر “فوجيان” درة تاج التقنيات العسكرية الصينية في القطاع البحري، وإثبات جديد أن لدى بكين صناعات عسكرية متقدمة، خاصة بعد تدشينها حاملتَي طائرات سابقتين، هما CNS Liaoning في 2012، ثم CNS Shandong في 2019.

لكن الصين التي بدأت تدشين أولى حاملاتها اعتماداً على تقنيات سوفييتية قديمة، قفزت خطوات عملاقة للأمام في وقت قياسي، بإطلاق “فوجيان” التي تعتمد على منجنيق كهرومغناطيسي سيمثّل طفرة في قدرات الحاملة الصينية الأكثر قدرة وتطوراً، لتصبح ثاني دولة في العالم تستخدم هذه التقنية، والتي تستخدمها حاملة الطائرات النووية الأحدث والأقوى لدى الولايات المتحدة، USS Gerald R. Ford (CVN-78).

ورغم أن الولايات المتحدة، تملك بالفعل هذه التقنية الحديثة، وإن كانت في حاملة طائرات واحدة، إلا أن وصول الصين السريع لها، شكّل قلقاً من تغير قواعد اللعبة في البحار المفتوحة، فلماذا قد تشعر واشنطن بالقلق من هذا التطور الصيني؟

منجنيق الإقلاع.. ثورة حاملات الطائرات

كانت القوة البحرية لكل من الولايات المتحدة وبريطانيا، بمثابة رأس الحربة في الحرب العالمية الثانية، خاصة أمام قوى بحرية صاعدة وقوية مع قاعدة صناعية هائلة في ألمانيا النازية واليابان.

ولمئات السنين كان دور السفن مستقراً في المدافع التي تهاجم المناطق الساحلية، أو القتال السطحي مع السفن، لكن وجود طائرات يمكن إطلاقها من منصة متحركة في البحار، مثَّل ثورة غير مسبوقة غيّرت وجه المعارك للأبد.

وفي الحرب العالمية الثانية، استخدمت البحرية الأميركية معززات إطلاق، لتوفير قوة دفع هائلة تُغني الطائرات عن المسار الطويل المفترض في المطارات، لتمكنها من التحليق من على متن أسطح حاملات الطائرات التي انتشرت خصوصاً لمواجهة الأساطيل اليابانية.

واعتمدت الفكرة في البداية على قوة دفع ميكانيكية تولّدها حاملات الطائرات لدفع الطائرة بسرعة كبيرة على مدرج قصير نسبياً، لتعويض هذا القصر، وطورت البحريتين الأميركية والبريطانية عدة أشكال لتوفير “معزز إقلاع” ينتج قوة أكبر، وصولاً للمنجنيق البخاري.

ومع تطور الطائرات الحربية، واحتياجها إلى حمولة تسليح أقوى وكمية وقود أكبر لتمكينها من تنفيذ مهام أبعد، بدأت بريطانيا استثمار التجارب التي جرت في أواخر الأربعينيات، ثم بدأت أول اختبار عملي لاستخدام منجنيق بخاري، يُطلق قوة دفع كبيرة في 1950، ثم طورت الشركات الأميركية مجانيق أكثر استقراراً وقوة في 1955، وبدأت بالعمل بها على حاملات الطائرات الأميركية.

تقوم فكرة المنجنيق البخاري، على إطلاق البخار المحكم في خزانات مضغوطة Steam Accumulators عبر أسطوانات مجهزة لإنتاج القدرة Power Cylinders، عبر مكبس مخصص موصول بعربة إطلاق shuttlek تدفع هذه التقنية الطائرة بقوة هائلة على سطح حاملة الطائرات، ما يمكّن المقاتلات من الإقلاع بسرعة كبيرة ولارتفاعات مناسبة لاستكمال الطيران معتمدة على محركاتها القوية.

مع وجود هذه التقنية، أصبحت حاملات الطائرات، أكثر قدرة بكثير على حمل طائرات مقاتلة ثقيلة، وتسليحها وتزويدها بكميات أكبر من الذخائر والوقود، مما حوَّل حاملات الطائرات إلى مطار متكامل عائم يجوب العالم تقريباً، ويحمل قوة جوية حاسمة في أي صراع.

وطوّرت الدول نماذج مختلفة من هذه المجانيق، منها الطراز الفرنسي c13-3 العامل على حاملة الطائرات الفرنسية “شارل ديجول” (Charles de Gaulle)، عبر دمج منجنيقين بخاريين، مما يمكنها من إطلاق طائرة كل دقيقة.

فيما استخدمت الولايات المتحدة عدة نسخ من عائلة C-13 كمنجنيق بخاري موثوق في حاملاتها من فئة Nimitz، مستفيدة من امتلاكها 11 حاملة طائرات، وجميعها تعمل بالطاقة النووية، ما يجعلها قادرة نظرياً على العمل لسنوات طويلة، وتمثّل العمود الفقري للبحرية الأميركية، فضلاً عما توفره لواشنطن من قواعد عسكرية عائمة تجوب العالم كله.

المنجنيق الكهرومغناطيسي EMALS

يعتمد المنجنيق الكهرومغناطيسي على محركة خطي، يتكون من منظومات لتوليد الطاقة Motor Generators، ومنظومة لتحويل الطاقة إلى قدرة Power Conversion مع وحدات دفع على طول مسار الإطلاق، مع نظام رقمي للتحكم في منحنى التسارع المطلوب وحسابه بدقة كبيرة حسب وزن وحمولة كل طائرة.

كانت الفكرة تقوم على الاستعاضة عن الدفع البخاري بقدرة أكبر وأحدث، تجعل عملية الإقلاع أكثر سلاسة، وتسمح للحاملات بإطلاق طائرات أكثر ضخامة مثل طائرات الإنذار المبكر.

وفي عام 1999، وقّعت البحرية الأميركية عقداً مع “جنرال أتوميكس” General Atomics لتحويل تلك الفكرة الهندسية إلى منظومة منجنيق كهرومغناطيسي. وبحلول يوليو 2017، نجح إطلاق أول مقاتلة من على متن حاملة الطائرات الأميركية “فورد”، باستخدام المنجنيق، لتصبح الأولى في العالم، تشغّل منظومة EMALS لإطلاق الطائرات.

ويُعد المنجنيق EMALS خطوة هائلة للأمام، إذ يوفر التحكم في منحنى تسارع مبرمج، مما يقلل معدلات الإجهاد وضغط الجاذبية الأرضية على هيكل المقاتلات أثناء الإقلاع، وهي مسألة شديدة الخطورة؛ إذ يمكن أن تتسبب في فوضى عارمة على متن الحاملة إذا فشل الإطلاق، أو عدم اتزان المقاتلة بعد الإطلاق.

كما أضاف المنجنيق الجديد نطاقات أكبر لأوزان وحمولات الطائرات التي يمكنها الانطلاق من على متن حاملات الطائرات عبر هذا الدفع الكهرومغناطيسي، إذ يمكن التحكم في المنظومة ليس فقط لإطلاق مقاتلات ضخمة وثقيلة فقط، لكن أيضاً يمكن ضبطه لإطلاق طائرات خفيفة جداً، ما يفتح المجال لإطلاق مسيّرات كذلك.

ومقارنة بنظام البخار الذي يتطلب بنية تحتية معقدة ومعالجات حرارية وصيانة مكلفة للمكابس وأجزاء النظام الذي يمتد تحت سطح الحاملة، فإن النظام الكهرومغناطيسي يستبدل كل ذلك بمنظومة تخزين وتحويل الطاقة الكهربائية، ما يقلل الأثر الحراري والميكانيكي على الحاملة.

ورغم وجود أنظمة دفع أخرى على بعض السفن مثل منظومة STOVL المعروفة باسم دفع القفزة المنحنية، ومنظومة STOBAR للإقلاع القصير، لكنها لا تُعتبر ضمن المجانيق؛ كونها تُستخدم لحاملات المسيّرات وحاملات الطائرات الخفيفة، فضلاً عن منصات القفز التي تعتمد على شكل المدرج لإعطاء دفعة بداية معقولة للمقاتلات مثل حاملة الطائرات الروسية كوزنيتسوف.

منظومات الهبوط.. مشكلة أخرى

لا تمثّل عمليات الإقلاع سوى 50% من القدرات التي تحتاجها حاملات الطائرات، إذ لا بد أن تتحمل هبوط المقاتلات القادمة بسرعات عالية، وذلك في مسارات ضيقة ومدرج قصير، ودون الاصطدام ببدن الحاملة أو بالمقاتلات الأخرى.

لذلك تعمل “فورد” الأميركية وكذلك “فوجيان” الصينية، بمنظومة CATOBAR/EMALS وهي اختصار لمفهوم (Catapult Assisted Take-Off, But Arrested Recovery) أو الإقلاع بمساعدة منجنيق، لكن الهبوط بواسطة أسلاك الإيقاف.

يستخدم هذا النظام سواء في حاملات الطائرات التي تستخدم منجنيق بخاري أو كهرومغناطيسي، إذ يجري “الإمساك” بالمقاتلة فور هبوطها عبر سلك شد قوي يتعلق بخطاف مخصص يهبط مع معدات هبوط المقاتلة على سطح حاملة الطائرات.

ماذا تضيف “فوجيان” للصين؟

تملك الصين بالفعل حاملتَي طائرات، لكنهما تصلحان للعمليات القريبة من السواحل، وكذلك عمليات التدريب. أما “فوجيان” فهي مصممة للمهام بعيدة المدى، وهو ما يزيد قدرة الصين على مراقبة وحماية خطوط الملاحة والطاقة في المحيطين الهندي والهادي، فضلاً عن القيام بدوريات طويلة المدى والزمن. وكذلك الإبحار بعيداً عن البر الصيني الرئيسي في مهام متعددة رفقة مجموعة من قطع السطح والأعماق الصينية.

وبخلاف ذلك، يمكن لحاملة الطائرات الصينية الأكثر قدرة تشغيل طائرات إنذار مبكر بحرية، وهي أحد أبرز مكاسب الصين من حاملة الطائرات الجديدة، خاصة الطائرة من طراز kj-600 وهي النظير الصيني لطائرات (AWACS) الأميركية.

توفر هذه الخصائص مدى رصد وكشف راداري أطول بكثير فوق البحر، فضلاً عن سيطرة معلوماتية بحرية وجوية محكمة، وقدرة متكاملة على قيادة عمليات جوية واسعة النطاق وحاسمة.

بخلاف الإنذار المبكر، تأتي “فوجيان” مع قدرات إطلاق كبيرة تجعل بكين قادرة على إطلاق طائراتها من الجيل الخامس من على متنها، مثل المقاتلة الشبحية حاملة القنابل J-35، التي نفّذت بالفعل تجارب الإطلاق من على متن الحاملة.

كما يمكن للصين استخدام حاملة “فوجيان” كمنصة لنقل وإطلاق النسخة المطورة من مقاتلتها J-15T وهي نسخة محدثة من المقاتلة الصينية المصممة خصيصاً للمهام البحرية، إذ تستطيع حمل ذخيرة أكبر من النسخ السابقة، وجرى اختبارها أيضاً على متن “فوجيان”.

أما طائرة الحرب الإلكترونية J-15D المصممة لمهام التشويش والحرب الإلكترونية ودعم المجموعات المقاتلة، فقد تكون من أبرز المستفيدين من وجود منظومة EMALS التي تسمح لها بحمل أجهزة حرب إلكترونية ثقيلة، وأن تصبح الجناح المحتمل للحاملة الصينية الأحدث.

توفر الحاملة “فوجيان” لبكين القدرة على تنفيذ طلعات جوية أكثر، مع أعطال ميكانيكية أقل بكثير من المنجنيق البخاري. فضلاً عن عمليات تحضير أكثر سرعة بين كل إقلاع وآخر.

مع “فوجيان” تقطع الصين منطقة حاسمة، وبسرعة كبيرة، لتقليص الفجوة التقنية مع الولايات المتحدة، إذ سبقت الصين دولاً مثل روسيا والهند وكوريا وفرنسا وبريطانيا في أن تصبح الثانية عالمياً التي تستخدم تقنية EMALS، كما استطاعت أن تدمج مفهوم بحري حاسم في المعارك، وهو مفهوم مجموعة القتال المتكاملة لحاملة طائرات، إذ لا تتحرك حاملات الطائرات منفردة، لكنها تبحر وسط مجموعة شديدة التنوع من المدمرات والفرقاطات والغواصات حسب كل مهمة، إذ تمثّل الحاملات مراكز قيادة وسيطرة وقوة ضاربة بحرية – جوية.

منافسة هيمنة واشنطن البحرية

تُعتبر البحرية الأميركية الأكثر تطوراً وتنوعاً بين القوى البحرية في العالم، وتجوب حاملاتها رفقة مجموعات قتال متكاملة، غالبية البحار والمحيطات حول العالم.

ومع تنامي القدرات البحرية الصينية، والتوتر المستمر بين الصين وتايوان، وكذلك بين بكين وبعض جيرانها مثل الفلبين، قد تصبح الصين ثاني أحدث قوة عسكرية بحرياً، ما قد يهدد “الهيمنة” البحرية الأميركية، خاصة في المناطق التي تعمل فيها بحرية الصين المتنامية بكثافة كماً وكيفاً.

ورغم الخطوة الصينية الكبيرة في التوصل لتكنولوجيا EMALS، إلا أن القدرات الأميركية المنافسة لا تزال أكبر بكثير، فإذا تماثلت “فوجيان” مع حاملة الطائرات الأميركية الأحدث “فورد” في منظومة الإقلاع والاسترداد، إلا أن الأخيرة تعمل بمحرك نووي، مثل جميع حاملات الطائرات الأميركية وعددها نحو 4 أضعاف عدد حاملات الطائرات الصينية.

كما تملك دول غربية حليفة للولايات المتحدة حاملة طائرات نووية الدفع مثل حاملة الطائرات الفرنسية “شارل ديجول”.

وتركز الصين حالياً على بناء قدرات صناعة وصيانة وتشغيل حاملات الطائرات أولاً، ثم تطوير مفاعلات بحرية مناسبة للحجم والقدرة، كما لا تزال بكين تحتاج إلى استيعاب عقيدة العمليات بعيدة المدى وتعقيداتها قبل الانتقال لاستخدام الدفع النووي.

في المقابل، تتفوق بكين بمسافة كبيرة على وتيرة التصنيع العسكري البحري الموجود لدى الولايات المتحدة، إذ تنتج الصين مدمرات Type055 وفرقاطات Type 054A/B وسفن إنزال وحاملات مروحيات وغواصات تعمل بالديزل أو الكهرباء أو الطاقة النووية، بمعدلات أسرع بكثير من الولايات المتحدة.

ونجحت الصين خلال نحو 12 عاماً فقط، في إنتاج 3 حاملات طائرات، بينهم حاملة طائرات تضاهي “فورد” الأميركية من الناحية التقنية.

وتندفع الصين لمراكمة قوة عسكرية حديثة وشاملة لتعزيز النفوذ في غرب المحيط الهادئ وبحر الصين الجنوبي، وحماية مصالحها القريبة والمتوسطة.

في المقابل تُعتبر البحرية الأميركية وقطاع الصناعات العسكرية الأميركي، أكثر بطئاً لكنه أيضاً الأكثر تقدماً، إذ تتفوق في الخبرات القتالية وابتكار المفاهيم العسكرية الجديدة واستيعابها، فضلاً عن القدرات النوعية المتفوقة لسفنها سواء في أجهزة السيطرة والاستشعار أو قدرات النيران أو الدفاع الجوي البحري.

بالإضافة لذلك، تفتقر الصين إلى سلسلة القواعد البحرية والحلفاء المتقدمين تقنياً الذين يتوفرون للبحرية الأميركية، لذلك تسعى بكين لسد الفجوة في محيطها الأزرق، مقابل واشنطن التي تعتمد على أساطيلها لفرض هيمنة بحرية على مستوى العالم.

ورغم التفوق الأميركي الحالي، تظل سرعة استيعاب الصين للتكنولوجيا المتقدمة، وقدرتها على الانتقال السريع من مرحلة إلى أخرى، يمثّل ضغطاً متزايداً على واشنطن، التي وإن كانت لا تزال تتمتع بالأفضلية، لكن الرهان على الزمن والسرعة، أمر لا يمكن التنبؤ بنتائجه دائماً.

شاركها.