اخر الاخبار

بعد انهيار نفوذ إيران في سوريا.. من يملأ الفراغ؟

جاء سقوط نظام بشار الأسد ليتوج سلسلة من الضربات الاستراتيجية التي تلقتها إيران، في الشهور الأخيرة، لتدفعها إلى “انسحاب تدريجي” من معادلة النفوذ الإقليمي، التي سعت طهران لانتزاع دور فيها على مدى عقود، لتبقى التساؤلات بشأن من يملأ الفراغ الناشئ عن تراجع إيران.

ولم يكن انحسار النفوذ الإيراني نتاج هزيمة وكلائها في المنطقة فحسب، بل شمل أيضاً تعرضها خلال نصف العقد الماضي لضربات ثقيلة، بدءاً من مصرع قائد فليق القدس قاسم سليماني إثر غارة أميركية في يناير 2020، مروراً باستهداف كبار جنرالاتها ومستشاريها العسكريين، خاصة في سوريا، وصولاً إلى الهزائم التي مُني بها حلفاؤها فيما اعتادت أن تطلق عليه اسم “محور المقاومة”، عبر الحرب الإسرائيلية على غزة، التي أججت المواجهة مع “حزب الله” في لبنان، واغتيال أمينه العام حسن نصر الله وكبار معاونيه، ثم اغتيال مدير المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية في قلب طهران، ليبلغ مشهد الهزائم الاستراتيجية ذروته بسقوط النظام السوري وفرار حليفها بشار الأسد إلى موسكو.

ولم يتوقف الأمر عند حد قبول إيران بهذه الهزائم، إذ باتت هي نفسها تترقب بحذر تولي الرئيس الأميركي دونالد ترمب مهامه رسمياً في 20 يناير، الذي يعد أكبر خطر قد يُهدد، ليس ما تبقى من نفوذها فحسب، وإنما تتعالى أصوات مقربة من ترمب مطالبة بفتح ملف تغيير النظام نفسه. 

وبقدر ما يضيق هذا التحول خيارات طهران بشأن أزمتها الإقليمية، يطرح أسئلة أخرى بشأن القوى التي قد تعوّض “الفراغ الاستراتيجي” في المنطقة، خاصة مع طموحات قوى إقليمية وربما دولية أخرى في التنافس للحصول على مكاسب حيوية.

محللون وخبراء اعتبروا، في حديث مع “الشرق”، أن التغيرات الحالية قد تفتح الباب أمام ظهور ديناميكيات جديدة في الشرق الأوسط، مع احتمال تحوّل تركيا إلى لاعب أساسي، فيما تراقب أطراف أخرى المشهد، وتنتظر اتجاه مجريات الزلزال الذي بدأ في غزة وامتدت هزاته إلى بيروت ودمشق.

3 أطراف مؤهلة

ويعتقد الدكتور عبد المنعم سعيد، مدير المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية، أن احتمالات وقوع حرب أهلية جديدة في سوريا “لا تزال قائمة”، خاصة في ظل المخاوف من نموذج مشابه لأفغانستان، في ظل سيطرة “هيئة تحرير الشام” على مقاليد الأمور في دمشق، ما يهدد، حسبما يرى، بأن “تكون المنطقة مليئة بالسلاح والمسلحين”، مشيراً في هذا السياق إلى أن “ذلك الوضع الحساس” سيدفع “قوى معينة” إلى “ملء الفراغ وإعادة النظام وبناء عملية سياسية، بالاعتماد على طرف قوي يتولى إدارة هذه الدولة”.

ويرى أن أول الأطراف المؤهلة لملء الفراغ في سوريا هي تركيا، “التي ساندت بالفعل هيئة تحرير الشام وفصائل المعارضة السورية في معركة إسقاط نظام بشار الأسد، كما أن لديها قواعد وقوات عسكرية في سوريا، وسبق لها أن اقتطعت أراض سورية عندما استولت على لواء إسكندرونة (هاتاي) شمال غربي البلاد في عام 1939، إضافة إلى تصريحات مسؤولين أتراك، اعتبروا فيها أن حلب مدينة تركية”.

سعيد اعتبر أن هناك نوعاً من التماس بين النفوذ التركي الحالي وربما المستقبلي، مع التاريخ العثماني من جهة، ومع “هيئة تحرير الشام” التي تتصدر المشهد السوري من جهة أخرى.

ويرى رئيس مجلس إدارة مؤسسة الأهرام المصرية سابقاً أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يؤمن بـ”العثمانية الجديدة”، التي تقوم على استعادة النفوذ التركي في ولايات كانت سابقاً تحت سيطرة الدولة العثمانية، لكن مع ذلك “لن تكون الساحة خالية تماماً له، إذ لن تقبل الولايات المتحدة أن تكون سوريا تحت هيمنة دولة واحدة فقط، كما أن سقوط نظام الأسد يتزامن مع اقتراب تنصيب ترمب رئيساً، وهذا الأخير لا يُفضل التورط بأي منطقة”، على حد وصفه.

لكن الدكتور عبد المنعم سعيد يستدرك: “أميركا ليست ترمب، وحتى لو رفض أن يلعب دوراً في سوريا، قد يكون للدولة الأميركية العميقة موقف آخر.. قد لا ينشر ترمب قوات إضافية في سوريا، لكن باستطاعة واشنطن أن تؤثر بالمشهد دون أن يكون لها جنود على الأرض، وهي المرشح الثاني بعد تركيا لملء الفراغ في سوريا، وهي موجودة أساساً شرقي وشمال شرقي البلاد، إذ أن هناك نوعاً من الالتزام الأميركي تجاه الأكراد، وهؤلاء يسيطرون تقريباً على حوالي 30% من أراضي سوريا، ولديهم أحلام تاريخية بالاستقلال”.

أما الطرف الثالث المرشح للتأثير في المشهد السوري فهو، كما يقول سعيد، إسرائيل، إذ يرى أنها “لن تسمح بفوضى في سوريا، وحتى لو كان تعميق توغل الجيش الإسرائيلي في العمق الجغرافي السوري مستبعداً، لكنهم سيلعبون دوراً كبيراً في محاولة ملء الفراغ السياسي، ذلك أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو تحدث سابقاً عن إعادة تشكيل الشرق الأوسط من جديد”.

حذر عربي

بالنسبة للموقف العربي، يعتقد عبد المنعم سعيد أنه يبدو “حذراً جداً” تجاه التطورات المفاجأة في سوريا، وأضاف: “تحالف دول الخليج ومصر والأردن والمغرب، يضم بلداناً لديها رؤية لمستقبل المنطقة تتمثل في قيام مشروعات إصلاحية ذات طبيعة اقتصادية واجتماعية، وينتهجون سياسات متوازنة في علاقاتهم الدولية مع الولايات المتحدة والصين وروسيا وغيرهم”.

وتابع: “تريد هذه الدول العربية استقراراً إقليمياً، بالتالي نتوقع أن تحاول ملء الفراغ في سوريا، لكن حتى الآن لم تتوفر الإرادة الجماعية للقيام بذلك، وربما قد تأخذ المسألة منحىً نحو كيفية هزيمة الإخوان المسلمين وفكرهم، حيث كان هناك تخوف من سيطرة فكر الإخوان على سوريا. كما أن هناك على ما يبدو توجه عربي من نوع (لننتظر ونرى)، ما الذي يمكن أن تفعله القوى الأخرى في سوريا؟”، مضيفاً: “باعتقادي الدول العربية، خاصة مصر والسعودية والإمارات والأردن، تراقب عن كثب مجريات الأحداث”.

ويشير سعيد إلى الجذور التاريخية لمفهوم “ملء الفراغ” Filling the gaps في الشرق الأوسط، لافتاً إلى أن وزير الخارجية الأميركي جون فوستر دالاس (1888-1959) هو أول من تحدث عن ضرورة عدم ترك المنطقة في حالة فراغ بعد استقلال البلدان العربية عن القوى الاستعمارية ممثلة في بريطانيا وفرنسا، إذ رأى دالاس أنه بدون تدخل الولايات المتحدة، فإن الخصوم والمنافسين، وتحديداً الاتحاد السوفيتي (آنذاك) والصين ومن شابههما، سيستولون على الشرق الأوسط، لأن القوى المحلية ليست كافية لإدارة المنطقة”.

ورجح الدكتور عبد المنعم سعيد أن تشهد سورياً “نوعاً من التنازع خلال المرحلة المقبلة، حيث تختلف أهداف وأجندة كل لاعب، بحسب مصالحه من ناحية، ورؤيته للنظام الجديد من ناحية أخرى”.

أميركا.. الشريك الأمني الأول

ويتوقع نورمان راؤول، المسؤول السابق في الاستخبارات الأميركية، أن تعمل طهران جاهدةً على إعادة بناء تحالفاتها في المنطقة وإحياء علاقاتها بها بعد الضربات الثقيلة التي تلقتها، إلا أن القيام بذلك يتطلب “خطوطاً لوجستية” و”وسائل نقل موثوقة لتمكين عمليات التدريب والتمويل وتوفير الأسلحة”، ولهذا، كما يقول “ستتوقف عودة النفوذ الإيراني الإقليمي على مدى قدرة طهران على إعادة تأسيس هذه الخطوط”.

كما لم يستبعد راؤول، خلال حديثه لـ”الشرق”، أن تسعى طهران إلى زيادة تركيزها على السودان وشرق إفريقيا، بهدف تعزيز قوتها في البحر الأحمر وشرق البحر المتوسط.

وفي ما يتعلق بالفراغ الذي تركه سقوط نظام الأسد، يرى راؤول أن إيران واجهت منافسين أقوياء في سوريا، وعلى رأسهم تركيا، التي “ستسعى للهيمنة على دمشق”.

وتابع: “كما تمتلك السعودية والإمارات قيادة ذات رؤية، إضافة إلى رأس المال الذي يساعد في تحقيق التقدم الاقتصادي والاجتماعي. ولهذا، ستجد إيران صعوبة في منافسة هذه القوى، ذلك أن صادرات طهران الحقيقية الوحيدة هي النفط ودعم الميلشيات العنيفة”.

أما على صعيد القوى الخارجية، يبدو المشهد وفقاً للمسؤول السابق في الاستخبارات الأميركية، قابلاً للتنبؤ، إذ “ستظل الولايات المتحدة الشريك الأمني الرئيسي والأول في المنطقة”.

وأضاف: “بالنسبة لأوروبا، رغم أنها تُعد مركزاً مهماً لرأس المال والتكنولوجيا، إلا أنها عجزت عن فرض نفوذها على إيران أو القوى الإقليمية الأخرى، كما تبدو الصين غير قادرة أو غير مهتمة بمساعدة المنطقة خلال مراحل الاضطرابات، لذلك ستحاول بكين الحفاظ على علاقاتها الاقتصادية مع دول الإقليم، لا سيما عبر شراء النفط، مع إدراكها أنها لا تستطيع منافسة الولايات المتحدة وأوروبا”.

في حين تبدو نظرة نورمان راؤول تجاه الدور الروسي أكثر سلبية، إذ يعتقد أن موسكو رغم قدرتها على التأثير في أسواق الطاقة، تُعتبر بشكل عام “فاعلاً خبيثاً وانتقامياً يمتلك القدرة على تفجير مشكلات إقليمية في الشرق الأوسط، من دون أن تكون قادرة على حلها”، على حد وصفه.

من جانبه، يرى الأكاديمي والخبير في الشؤون الإقليمية والدولية، الدكتور علي دبكل العنزي، أن انحسار النفوذ الإيراني في المنطقة قابله تمدد نظيره التركي، وتوغل عسكري إسرائيلي داخل الأراضي السورية.

وأضاف في حديث لـ”الشرق”: “نحن أمام نفوذين، إسرائيلي يدعم بعض الأقليات في لبنان وسوريا كالأكراد مثلاً، وتركي يطمح لإحياء العثمانية في المنطقة، وكلاهما يتحركان تحت المظلة الأميركية وبإيقاعها”.

ويعتقد علي العنزي أن السعودية هي “الدولة الوحيدة التي تستطيع مواجهة النفوذين التركي والإسرائيلي وملء الفراغ الذي تركه تقلّص النفوذ الإيراني”، مشيراً إلى تحركات الرياض لتنسيق المواقف العربية.

تفاهم عربي تركي

في حديث لـ”الشرق”، قال المحلل السياسي التركي أوكتاي يلماز إن إيران تمددت عبر العراق وسوريا ولبنان واليمن، بذريعة “محور المقاومة والممانعة”، لكنها في الواقع كانت “تزعج دول الإقليم والمجتمع الدولي على السواء، وما فعلته لم يكن في مصلحة تركيا والدول العربية”.

واعتبر يلماز أن هناك “تفاهماً إقليمياً ودولياً على تقليص نفوذ إيران، الأمر الذي أفضى ربما إلى إضعاف (حزب الله) وإسقاط نظام الأسد، بهدف إعادة إيران إلى حجمها كدولة طبيعية في المنطقة”.

واستبعد المحلل التركي أن يحدث فراغ في سوريا بعد انسحاب إيران، مشيراً إلى أن “تركيا قوة إقليمية مهمة، ولها روابط مع سوريا تُمكنها من أن تلعب دوراً مع الدول العربية في مساعدة الإدارة الجديدة في دمشق وملء الفراغ الذي تركه رحيل إيران، حيث دعم أصدقاء سوريا المعارضة في السنوات الماضية، وحافظوا على استقرارها شمالي البلاد، قبل أن تعود وتسقط نظام الأسد”.

وشدد يلماز على أن “الدور التركي لا يعني استبدال النفوذ الإيراني بنفوذ دولة أخرى”، إنما “هي عملية تحمل أعباء ومسؤوليات وتقديم الدعم الاقتصادي والعسكري للدولة السورية الجديدة، وهذا ليس إقصاءً للدول العربية، ذلك أن تركيا لا تريد أن تنفرد وحدها بهذا الدور”.

وتابع: “من مصلحة تركيا والدول العربية بسط الاستقرار في سوريا، وهذا يحتاج إلى الكثير من العمل في ظل انهيار الدولة على مستوى الاقتصاد والبنى التحتية والحاجة إلى إعادة الإعمار وتشكيل المؤسسات، وهذا يحتاج وقتاً طويلاً، ولذلك ستتقاسم تركيا ودول الخليج أعباء مساعدة سوريا بحكم الجوار والتاريخ”.

وأشار أوكتاي يلماز إلى أن هناك رسائل إيجابية تتلقاها الإدارة الجديدة في دمشق من الولايات المتحدة وأوروبا، والتي تؤكد في الوقت نفسه على وحدة سوريا وتنوعها وهويتها المدنية، وهذا، بحسب رأيه، مؤشر على الرغبة في عدم حدوث أي فراغ في سوريا.

“لا حاجة للتنافس”

ويعتقد الدكتور عبد الخالق عبد الله، أستاذ العلوم السياسية في جامعة الإمارات، أن هناك عدة أطراف ترغب في ملء الفراغ بعد رحيل إيران عن المشهد السوري، وفي مقدمتهم تركيا، التي تُعتبر أكبر الرابحين ولديها أصدقاء وحلفاء في قلب العاصمة دمشق.

وفي حديث لـ”الشرق”، قال الأكاديمي الإماراتي إن الدول العربية، خاصة دول الخليج، قررت أن تسابق الزمن لتتواصل مع القيادة الجديدة في سوريا، مرجحاً أن يكون لهم دور كبير في المرحلة المقبلة، وأضاف: “البيان الذي صدر عن الاجتماع الاستثنائي لوزراء خارجية مجلس التعاون يعكس هذه الرغبة، إذ قرروا أنه لا ينبغي، ولا مجال للتنافس في سوريا كما حدث في السابق، ولا مجال لوجود صراع خليجي، والخيار الوحيد هو التعاون واتخاذ موقف موحد”.

وبشأن احتمالية حدوث تنافس إقليمي وعربي في سوريا، اعتبر عبد الخالق عبد الله أن “الجميع تعلم درساً قاسياً من الصراع في سوريا، حيث اليوم لا تركيا ولا دول الخليج، تود تكرار التجربة السابقة، التي أثرت سلباً على المعارضة، وأدت إلى تفكيكها ومنعتها لسنوات من الإطاحة بنظام الأسد”.

وأضاف: “نحن لأول مرة أمام وضع لا حاجة فيه للتنافس.. تركيا والإمارات والسعودية وقطر، دول مهمة وفاعلة وبينها قدر كبير من التعاون والتفاهم والتقارب في الأجندات، وهناك رغبة لدى الجميع بأن تكون سوريا مستقرة ومتحررة من الهيمنة الإيرانية”.

ورأى الدكتور عبد الخالق عبد الله أن “التنسيق والتعاون وليس الصراع والتنافس، سيكون الطابع العام لتفاعل هذه الدول في سوريا”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *