عادت قضية “الرحلات السياحية لقنص البشر” في العاصمة البوسنية سراييفو خلال تسعينيات القرن الماضي إلى الواجهة بعد ثلاثة عقود، وذلك مع تحرك القضاء الإيطالي وفتحه تحقيقاً جديداً عقب تلقيه أدلة إضافية تشير إلى تورط عدد من الأشخاص، بينهم إيطاليون، في عمليات قتل استهدفت مدنيين، بمن فيهم أطفال.

وفتح القضاء الإيطالي في ميلانو، تحقيقاً في القضية، بعد بلاغ تقدم به الكاتب الإيطالي، إيزيو جافازيني، مرفقاً بعدة وثائق.

وعُقد اجتماع في النيابة العامة بميلانو، الاثنين الماضي، وضم المدعي العام، ومدعي مكلف بالتحقيق، إلى جانب محققي وحدة العمليات الخاصة التابعة للشرطة الإيطالية.

وتم خلال الاجتماع، تم بحث الوثائق المطلوب الحصول عليها ورسم الخطوات المقبلة في التحقيق، بما في ذلك الاستماع إلى عدد من الشهود، بدءاً بالأشخاص المذكورين في البلاغ الذي قدّمه الكاتب، وفق ما أوردت قناة “سكاي تيجي 24” الإيطالية.

وكانت “رحلات القنص” في البوسنة والهرسك خلال الحرب مع صربيا، موضوعاً تناولته الصحافة قبل 30 عاماً، وعلى مرّ الزمن ظهرت شهادات ووثائقيات تتحدث عن الموضوع. 

وحتى خلال محاكمة قائد جيش صرب البوسنة، راتكو ملاديتش، أمام قضاة المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، ظهرت مسألة “القنّاصة السياح”. 

وتحدث عنها في عام 2007 الأميركي، جون جوردان، وهو رجل إطفاء سابق تطوّع للدفاع عن سراييفو المحاصرة في تسعينيات القرن الماضي. وقال جوردان: “كان ظاهراً أنهم ليسوا من السكان المحليين، طريقة لباسهم وأسلحتهم جعلتني أعتقد أنهم سياح من أجل القنص”.

تفاصيل البلاغ في محكمة ميلانو

قرر الكاتب جافازيني بعد تواصله مع مصدر، جمع كل المواد المتاحة خلال الأشهر الماضية وتقديم بلاغ إلى نيابة ميلانو.

وكتب في وثيقة من 17 صفحة قدمها إلى النيابة: “ما علمته من مصدر في البوسنة والهرسك هو أن الاستخبارات البوسنية في أواخر عام 1993 أبلغت مكتب الاستخبارات العسكرية الإيطالية المحلي بوجود ما لا يقل عن 5 إيطاليين كانوا على التلال المحيطة بالمدينة”، مشيراً إلى أن هدفهم هو “إطلاق النار على المدنيين”.

وفي يوليو فتحت النيابة في ميلانو التحقيق رسمياً بشأن “جرائم قتل متعمدة ومتعددة” مع وجود “دوافع دنيئة ووحشية”.

ويشير جافازيني، إلى أن مصدره (اسمه مذكور في البلاغ) “كان جزءاً من الاستخبارات البوسنية”.

ويقول العميل السابق في الاستخبارات البوسنية في رسائل إلى جافازيني في عام 2024: “علمتُ بالظاهرة في أواخر 1993 من وثائق جهاز الأمن العسكري البوسني بشأن استجواب متطوع صربي تم أسره (…) وقد شهد بأن 5 أجانب سافروا معه من بلغراد إلى البوسنة والهرسك، كان ثلاثة منهم على الأقل إيطاليين”.

وأوضح العميل السابق، أنهم شاركوا المعلومات آنذاك مع ضباط الاستخبارات العسكرية الإيطالية في سراييفو، لأنه كانت هناك مؤشرات على أن “مجموعات سياحية من القنّاصة كانت تغادر من ترييستي”. وذكر أن هؤلاء كانوا: “رجلاً من تورينو، ورجلاً من ميلانو، وآخر من ترييستي”، وأن الرجل الذي ينحدر من ميلانو كان “صاحب عيادة طبية خاصة متخصصة في الجراحات التجميلية”.

وبحسب العميل البوسني السابق، فإن الاستخبارات العسكرية الإيطالية بعدما اكتشف ما كان يجري، أوقفت هذه “الرحلات السياحية المرعبة”. 

وكتب العميل لجافازيني: “عزيزي إيزيو، علمت أجهزة الأمن البوسنية برحلات القنص في أواخر 1993، حدث كل ذلك في شتاء 1993-1994. أبلغنا الاستخبارات العسكرية الإيطالية في أوائل 1994، وبعد شهرين أو ثلاثة أجابونا: لقد اكتشفنا أن رحلات القنص تنطلق من ترييستي، تمكنا من توقيفها، ولن يحدث الأمر مرة أخرى”.

وأضاف: “بعد ذلك، لم يتلقَّ جهاز الأمن البوسني أي معلومات إضافية عن تكرار الرحلات السياحية للقنص في سراييفو. ولم نحصل من الاستخبارات الإيطالية على أسماء الصيادين أو المنظمين”.

وأكد العميل البوسني، أن “التواصل بين الاستخبارات البوسنية والإيطالية كان متكرراً”، وأن ملفات هذه الحوادث موجودة في “الأرشيفات البوسنية، لكنها مصنّفة سرية، ولا يمكن الوصول إليها”.

وتضم أوراق التحقيق في ميلانو فقط، الوثائق المقدمة من صاحب البلاغ، فيما سيشرف المدعي العام في الأسابيع المقبلة على التحقيقات اللازمة، بما في ذلك الاستماع إلى الشهود.

قتل الأطفال أغلى ثمناً.. والمسنون مجاناً

ويشير البلاغ إلى “تسريبات” حول “تعريفة القتل” في رحلات قنص البشر، ويقول إن “الأطفال كانوا الأغلى ثمناً، يليهم الرجال (ويفضّل أن يكونوا بزي عسكري ومسلحين)، ثم النساء، وأخيراً المسنون الذين يمكن قتلهم مجاناً”.

ويُعد وثائقي “سفاري سراييفو” في عام 2022 محورياً في القضية، ويقول جافازيني إن المخرج ميران زوبانيك “أعطانا كلمات المرور لمشاهدة النسخة المحجوبة من الفيلم (…) ويمكنني تقديمها للمدعي”.

ويتضمن الفيلم شهادات جندي صربي سابق، يتحدث عن وجود “أميركيين وكنديين وروس، وكذلك إيطاليين، كانوا على استعداد للدفع لخوض تجربة الحرب”. وقد نفى قدامى المحاربين الصرب بشدة هذه التصريحات.

ووفقاً للعميل السابق، فإن “الزبائن” كانوا “أشخاصاً أثرياء جداً” يمكنهم “تحمّل تكلفة مغامرة مثيرة كهذه”.

ويذكر البلاغ أنهم كانوا من هواة الصيد والسلاح، وبعضهم قريب من اليمين المتطرف. وكان يُستخدم “غطاء الصيد الشرعي لنقل المجموعات دون إثارة الشكوك إلى وجهتها في بلجراد”.

وزعمت الاستخبارات البوسنية، أن “جهاز الأمن الصربي” حينها كان وراء العملية، ووفر الرحلات السياحية عبر شركة طيران صربية متخصصة. كما اعتبرت أن يوفيتسا ستانيشيتش “المدان بجرائم حرب” في البوسنة، لعب “دوراً محورياً” في هذا النشاط.

وبعد إعلان فتح التحقيق في ميلانو، أشارت عمدة سراييفو السابقة، بنجامينا كارتيش، إلى أنها قدّمت في عام 2022، بلاغاً جنائياً ضد مجهولين متورطين في هذه القضية.

وقالت: “في سبتمبر 2022 قدمت بلاغاً جنائياً للنيابة ضد أشخاص غير معروفين نشروا الموت في سراييفو وشركائهم، وفي أغسطس الماضي قدمت بلاغاً للنيابة في ميلانو عبر سفارة إيطاليا في سراييفو، وفُتح التحقيق، وأنا مستعدة للإدلاء بشهادتي”.

وأضافت أن “فريقاً كاملاً من الأشخاص المثابرين يقاتل كي لا يبقى هذا البلاغ حبراً على ورق، ونحن لن نستسلم”.

“أوغاد سراييفو”

سبق أن جرى تناول قضية “قنّاصة عطلة نهاية الأسبوع” في كتاب “أوغاد سراييفو” الصادر عام 2014.

مؤلف الكتاب هو الصحافي لوكا ليوني، والذي تحدث في عام 2022 بالتزامن مع صدور وثائقي “سفاري سراييفو”، وقال لوكالة “أنسا” الإيطالية، إن “الصحافيين الذين عملوا في سراييفو، وكذلك كل سكان المدينة المحاصرين، كانوا يعرفون قضية القنّاصة”.

وأضاف: “كان يأتي أجانب من مختلف أنحاء أوروبا، بينهم إيطاليون، ويدفعون عند نقاط التفتيش التي يديرها المسلحون الصرب سواء في كرواتيا أو البوسنة، ليمضوا عطلة نهاية أسبوع يطلقون خلالها النار على المدنيين من فوق سراييفو”.

وتقع سراييفو في حوض محاط بالجبال، ما جعل من السهل حصارها واستهدافها.

وتحدث ليوني في كتابه عن “حزمة سياحية كاملة” لرحلات القنص، مشيراً إلى ثري إيطالي كان يسير مع مقاتل صربي يدعى “سنايبر”. ولم يكن رجل الأعمال الإيطالي يكتفي بصيد الدببة والحيوانات الأخرى بشكل غير قانوني، بل كان يرغب، مثل غيره، في اختبار قتل إنسان خلال عطلة نهاية الأسبوع، مع ضمان الهروب والإفلات من العقاب، ضمن “الحزمة”.

وأودت الحرب بحياة أكثر من 10 آلاف شخص في البوسنة والهرسك، بفعل القصف المتواصل ونيران القنّاصة بين عامي 1992 و1996.

وكان القنّاصة العنصر الأكثر إثارة للرعب في حياة السكان تحت الحصار، إذ كانوا يطلقون النار عشوائياً على المارة في الشوارع، بمن فيهم الأطفال.

وأكثر حوادث القنص شهرة تم توثيقها في فليم “روميو وجولييت في سراييفو”، ويروي قصة العشيقين بوشكو بركيتش وأدميرا إسميتش، الذين قتلهما قناص في عام 1993 أثناء محاولتهما عبور جسر، وبقي جثمانهما لعدة أيام في منطقة فاصلة بين مواقع البوسنة والصرب. ونُشرت صور الواقعة على نطاق واسع، وأصبحت رمزاً لوحشية الحرب.

شاركها.