شهدت سوريا خلال الأسبوع الماضي عدة جرائم قتل امتدت من طرطوس في الساحل السوري إلى ريفي حماة وحمص، ما أعاد إلى الواجهة مطالب بتفعيل مسارات السلم الأهلي والعدالة الانتقالية في سوريا.
بدأت الأحداث من مقتل أربعة أشخاص في قرية جدرين بريف حماة الجنوبي، خلال عودتهم من العمل على يد مجهولين، لتعلن إدارة الأمن الداخلي في حماة القبض على منفذي العملية في 30 من أيلول الماضي، وفي مساء اليوم نفسه، حدثت جريمة أخرى في قرية حيالين بريف حماة الغربي، حيث قتل ثلاثة أشقاء على يد مجهولين، على يد مجموعة أشخاص ادعوا أنهم تابعون لجهة أمنية.
في 1 من تشرين الأول الحالي، قُتل المرشح لعضوية مجلس للشعب الدكتور حيدر شاهين، داخل منزله في قرية ميعار شاكر بريف طرطوس، بعد أن أطلق عليه الرصاص شخص ملثم.
مساء اليوم ذاته، أفاد مراسل بمقتل شخصين قريبين في قرية عناز في وادي النصارى بريف حمص الغربي، على يد ملثمين مجهولي الهوية، وإصابة شخص ثالث.
وجددت حوادث القتل المتتابعة الحديث عن ضرورة تفعيل مسار العدالة الانتقالية، وضبط السلاح، مع إجراء مسار مصالحة وطنية قائمة على جبر الضرر، وتقديم المتورطين بجرائم حرب مع النظام السابق إلى العدالة، حيث تبحث في هذا التقرير بمسارات هذه العملية ومعوقاتها واحتياجاتها.
حوار مجتمعي
مدير “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، فضل عبد الغني، يرى أن الحوادث التي جرت مؤخرًا في ريفي حمص وحماة، من الصعب تحديد خلفيتها إن كانت بطابع طائفي أو انتقامي، لأن هذه الأمور بحاجة للتحقيق بكل حادث من هذه الحوادث على حدة، لكن الأهم برأيه أن حوادث القتل تقع والحكومة بحاجة إلى “ضبط الأمن أكثر”.
عبد الغني اعتبر، خلال حديث إلى، أن هناك تحديات تواجه الحكومة السورية، لأنها تحتاج إلى ضم عناصر وهم بحاجة إلى تدريب، لضمان عدم ارتكاب انتهاكات، مشيرًا إلى عدم وجود عدد كافٍ من العناصر لضبط الأمن على كامل الجغرافيا السورية.
ويرى عبد الغني أنه يتعين على الحكومة أن تجري حوارًا مجتمعيًا، وتيسر هذا الأمر، عبر ترك الباب مفتوحًا أمام مؤسسات المجتمع المدني، لمشاركتها في هذه العملية، لأن الحكومة وحدها لن تستطيع فعل ذلك، مطالبًا بعدم التضييق على مؤسسات المجتمع المدني.
وقال عبد الغني، إن سوريا اليوم بأمس الحاجة لتوسيع أعمال لجنة السلم الأهلي، إذ إنها تستطيع العمل في هذه المناطق التي لم تشهد كثيرًا من الانتهاكات، حيث عملية إنشاء حوار ستكون أسهل، عكس مناطق الساحل، التي شهدت “جرائم كبرى”.
لجنة جديدة للسلم الأهلي
لأن هناك قطيعة بين أهل تلك المناطق، طالب عبد الغني، بتأسيس لجنة وطنية للسلم الأهلي، حيث تجري حوارات وتقوم بعملية رأب الصدع، مع تدخل الوجهاء وأعيان المجتمع، لتعزيز عملية السلم الأهلي.
السلم الأهلي هو حالة من الاستقرار والتعايش السلمي داخل المجتمع، ورفض جميع أشكال العنف والتقاتل، سواء كان ذلك من خلال الدعوة إليه أو التحريض عليه أو تبريره.
ويهدف السلم الأهلي إلى تعزيز ثقافة الحوار والتفاهم بين مختلف مكونات المجتمع، واحترام حقوق الإنسان، وسيادة القانون، والمشاركة السياسية والاقتصادية لجميع الأفراد دون تمييز.
وقال عبد الغني، إن اللجنة السابقة، انتهت ولايتها، لذلك يجب تشكيل لجنة جديدة، على ألا تكون كسابقتها، ويجب تشكيلها وفق مدير “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، بالتعاون مع المجتمع المدني والخبراء.
وادي النصارى.. حادثة قتل تعيد مطالب العدالة وضبط السلاح
كما أشار عبد الغني إلى أنه لا يجب أن تتشكل اللجنة وفق مراسيم، حتى لا تكون ذات طابع حكومي وإنما تبقى “شبه حكومية ومستقلة عن الحكومة”.
وتشكلت لجنة السلم الأهلي، وفق قرار صادر من الرئيس السوري، أحمد الشرع، في 9 من آذار الماضي، وهي مؤلفة من حسن صوفان، والدكتور أنس عيروط، والدكتور خالد الأحمد، إثر توترات أمنية في الساحل السوري.
اللجنة مكلفة بثلاث مهام رئيسة هي: التواصل المباشر مع الأهالي في الساحل السوري للاستماع إليهم، وتقديم الدعم اللازم للأهالي في الساحل بما يضمن حماية أمنهم واستقرارهم، وتعزيز الوحدة الوطنية في هذه المرحلة الحساسة.
في 9 من أيلول الماضي، سلط تقرير لـ”الشبكة السورية لحقوق الإنسان” الضوء على “أبرز الإشكالات المتعلقة بعمل لجنة السلم الأهلي”، وعلى رأسها “تجاوز الصلاحيات القضائية، من خلال ممارسة اللجنة لصلاحيات تنفيذية تتعلق بالإفراج والعفو دون تفويض قانوني”، وإصدار قرارات بالعفو دون سند قانوني واضح، ما يشكل “انتهاكًا للمبادئ القانونية”.
بالإشارة إلى الإفراج عن ضباط من النظام السابق، وشخصيات قيادية كان لها دور في النظام، مثل “فادي صقر”، لمشاركتهم في معركة “ردع العدوان”، والإعلان عن ذلك في 10 من حزيران الماضي، قالت “الشبكة”، إنها رصدت في تقريرها “استخدام تبريرات عامة وغير محددة، مثل المساهمة في ردع العدوان، دون توضيح كافٍ”.
ورصد التقرير جملة من الآثار السلبية التي نجمت عن أداء لجنة السلم الأهلي، منها، “تقويض ثقة” المجتمع في مسار العدالة الانتقالية، بسبب اتخاذ قرارات خارج الإطار القانوني، و”إرسال رسائل خاطئة إلى الضحايا توحي بتغليب الاستقرار على العدالة”.
وقدمت “الشبكة” عدة توصيات لكل من الحكومة الانتقالية في سوريا، ولجنة السلم الأهلي، والمجتمع الدولي، ولكافة الأطراف:
للحكومة السورية الانتقالية:
- إعداد إطار قانوني متكامل للعدالة الانتقالية بمشاركة جميع الأطراف المعنية.
- إعادة تحديد مهام لجنة السلم الأهلي، لتقتصر على الحوار والمصالحات المحلية.
- ضمان استقلالية القضاء ومنع تدخل أي جهة غير قضائية في صلاحياتها.
- اعتماد الشفافية من خلال نشر جميع قرارات العفو والإفراج مرفقة بتبريراتها.
للجنة السلم الأهلي:
- الالتزام بدورها المجتمعي دون ممارسة أي صلاحيات قضائية أو تنفيذية.
- تعزيز المشاركة المجتمعية من خلال تنظيم جلسات استماع دورية.
- وضع دليل إجرائي واضح، ومعايير معلنة تحكم عمل اللجنة، إلى جانب آلية رقابة وتقييم مستقل.
تفعيل مسار العدالة الانتقالية
عدم اتخاذ إجراءات وتدابير وإن كانت أولية، كإلقاء القبض على مرتكبي الانتهاكات أو عدم وجود عملية واضحة للتسويات التي تراعي حقوق الضحايا وذويهم بالإنصاف وجبر الضرر، كان “رسالة سلبية” للمجتمع، وفق ما يرى الباحث في مركز “الحوار السوري” وخبير العدالة الانتقالية، نورس العبد الله.
العدالة الانتقالية هي نظام وإجراءات تهدف لبذل كل ما يلزم في المجتمعات التي تحاول إعادة بناء نفسها من جديد والانتقال من تاريخ عنيف يتسم بانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان ارتُكِبَت في سياق ممارسة القمع أو في سياق نزاع مسلح أو غير ذلك، والاعتراف بالانتهاكات ومنع تكرارها، وتلبية مطالب العدالة واستعادة نسيج المجتمعات المحلية الاجتماعي، وبناء سلام مستدام.
ويقع على عاتق الدول الالتزام بتوفير سبل انتصاف فعالة لضحايا انتهاكات حقوق الإنسان، وتلبية حقوقهم في الحقيقة والعدالة والجبر.
العبد الله، وفي حديث إلى، اعتبر أن “هذا الأمر” (إلقاء القبض على المتورطين مع النظام) يرتبط بـ”حساسية الزمن” من جهة وكسب ثقة المجتمع السوري “المكلوم” بأنه “لا تنازل عن الحقوق”.
ومن الواضح، بحسب الباحث، من عمليات الانتقام وأشكال العنف “عدم وجود انطباع شعبي إيجابي حول الفترة الماضية”.
واعتبر العبد الله أن المصالحة الحقيقية والسلم الأهلي يرتبطان بـ”شفاء الروح وعلاج الذاكرة”، وهذا يحتاج إلى عمل “مضنٍ وطويل”، وذلك عبر تطبيق آليات العدالة الانتقالية بشكل يرضي الضحايا أولًا بغض النظر عن “حجم المساءلة القضائية أو طبيعة العقوبات”، وفق قوله.
وأضاف، “لا يعقل إطلاقًا بقاء مرتكبي جرائم بوجه ذوي الضحايا في ذات المناطق وتوقع عدم وجود ردود فعل”.
ثلاثة مصادر من ريف حمص الغربي، هم صحفيان ومحامٍ، أكدوا ل، في وقت سابق أن أحد القتلى، في قرية عناز بوادي النصارى كان متعاونًا مع ميليشيا “الدفاع الوطني” التي تزعمها، بشر يازجي، مستشار رئيس النظام المخلوع، بشار الأسد.
وقال المحامي، إن الفترة الأخيرة شهدت إجراء “تسويات مشبوهة” لعدد من المتورطين بانتهاكات ضد السوريين في ريف حمص الغربي، وتحديدًا في قرية قلعة الحصن، وكان أحد القتلى في قرية عناز من بينهم، متسائلًا، “ما ذنب أهل وادي النصارى الآمنين المطمئنين، من أن يدفعوا ثمن تسوية لا شأن لهم لها؟”.
وتابع أن إجراء التسويات بهذا الشكل دفع البعض للقيام بأعمال “ثأرية خارجة عن القانون”، داعيًا الدولة بالسرعة القصوى لتفعيل مسار العدالة الانتقالية، وضبط السلاح، مع إجراء مسار مصالحة وطنية، قائمة على جبر الضرر، وتقديم المتورطين مع النظام إلى العدالة.
ووفق الباحث نورس العبد الله، فإن “احتكار النقاش والحوار والتحضير للعدالة بدوائر مغلقة وبجلسات نخبوية، لن يفيد في بناء قناعة لدى السوريين بأن العدالة ستطبق من حيث النتيجة وأن الضحايا سيحصلون على الإنصاف”.
لكن من باب الإنصاف، يرى الباحث أن مسار المصالحة لا يعني فقط “غياب العنف بل معالجة أسبابه تحتاج لفترة زمنية طويلة”.
واعتبر أن بناء السلم الأهلي والحفاظ عليه، “عملية معقدة” وترتبط بالعوامل الداعمة أو المثبطة كالتدخلات والظروف الإقليمية والوضع الاقتصادي والاستقرار العام وقوة مؤسسات الدولة.
ويعتقد الباحث، أن المهم فعليًا، هو أن تنطلق “هيئة العدالة الانتقالية” بعمل مباشر ودؤوب على مدار الساعة لجهة التواصل مع شرائح المجتمع وتشكيل فرقها وتحديد رؤيتها وتقديم الرسائل الإيجابية الواضحة.
وفي ذات الوقت، فإنه يجب على المجتمع وقواه، دعم جهود الهيئة التحضيرية لـ”قيادة مسار واضح وسليم بتناسب مع الواقع السوري”، وهذا ما يتطلب، “جدية وإرادة سياسية واضحة ومحددة”، حول مقاربة العدالة الانتقالية وغاياتها الأساسية كالسلم الأهلي وترسيخ هوية وطنية، وفق ما قال الباحث في مركز “الحوار السوري” نورس العبد الله.
محاسبة جادة
تعنى “هيئة العدالة الانتقالية”، التي تشكلت بمرسوم من الرئيس السوري، أحمد الشرع، في 17 من أيار الماضي، بكشف الحقيقة حول الانتهاكات الجسيمة التي تسبب بها النظام السابق، ومساءلة ومحاسبة المسؤولين عنها بالتنسيق مع الجهات المعنية، وجبر الضرر الواقع على الضحايا، وترسيخ مبادئ عدم التكرار والمصالحة الوطنية.
منظمة “هيومان رايتس ووتش”، قالت في نشرته في 23 من أيلول الماضي، إنه يجب أن يترافق، مع جهود المحاسبة بالنسبة لأحداث الساحل السوري، في آذار الماضي، ينبغي أن يترافق مع تعزيز الجهود الأوسع نطاقًا لتحقيق المساءلة الشاملة عن جرائم عهد الأسد وتلك التي ارتُكبت في أعقاب إطاحته، بما في ذلك التعاون المستمر مع الجهود الدولية الرامية إلى دعم العدالة، بما في ذلك الآلية الدولية المحايدة والمستقلة التابعة للأمم المتحدة ولجنة التحقيق.
وشهدت المنطقة الساحلية السورية في آذار الماضي مواجهات دامية بدأت بعد تحركات لمجموعات موالية للحكومة السورية السابقة، وأسفرت عن مقتل أكثر من 1,400 شخص، معظمهم من المدنيين، إلى جانب عناصر من قوات الأمن العام. وتخللت الأحداث عمليات إعدام ميدانية بحق عائلات كاملة، إضافة إلى حوادث تعذيب واختطاف.
واعتبرت المنظمة، أنه بدون “محاسبة جادة” للماضي، تُخاطر سوريا بترسيخ دورة جديدة من الإفلات من العقاب والعنف الطائفي.
وقال التقرير: إن الخيارات المتخذة الآن، في هذه المرحلة الهشة، لن تُشكل شرعية الحكومة الانتقالية فحسب، بل ستُشكل أيضًا مستقبل النسيج الاجتماعي السوري”.
في المقابل، ينبغي على الجهات المانحة أن تجعل “المساعدة الأمنية مشروطة” بإحراز تقدم ملموس في الإصلاحات لضمان بقاء العدالة وحقوق الإنسان في صميم العملية الانتقالية في سوريا، وفق “هيومان رايتس ووتش”.
مرتبط
المصدر: عنب بلدي