لم تُسهم التنازلات التي وافق عليها الرئيس الأميركي دونالد ترمب ونظيره الصيني شي جين بينج خلال اجتماعهما في كوريا الجنوبية، الأربعاء، في تعزيز العلاقة بين الولايات المتحدة والصين، بل أعادت الأمور إلى ما كانت عليه في إطار اتفاق هدنة سابق، وفق صحيفة “نيويورك تايمز”.

وذكرت الصحيفة الأميركية في تقرير، الخميس، أن ترمب وافق على التراجع عن بعض الرسوم الجمركية، وعلّق فرض أية رسوم جديدة على السفن الصينية، في حين أعلنت بكين عن تعليق تطبيق قيود على المعادن الأرضية النادرة، وهي مجموعة من العناصر المعدنية المهمة في صناعة التكنولوجيا المتقدمة، التي فُرضت في وقت سابق من أكتوبر الجاري، كما أعلنت استئناف شراء فول الصويا الأميركي، بالإضافة إلى تعهد جديد بمكافحة شحنات المواد الكيميائية المستخدمة في تصنيع مخدر “الفنتانيل”.

ومع ذلك، كان أحد التراجعات الأميركية أكثر أهمية من حيث السابقة التي أحدثها، إذ وافقت إدارة ترمب على تعليق لمدة عام لقاعدة كانت توسّع عدد الشركات الصينية المحظور عليها الوصول إلى التكنولوجيا المتقدمة.

وكانت هذه القاعدة، التي صدرت قبل 4 أسابيع فقط، قد وسّعت نطاق “قائمة الكيانات”، وهي نوع من القوائم السوداء التجارية التي تستهدف الشركات الأجنبية التي يعتقد أنها تُشكل تهديداً للأمن القومي الأميركي.

وقال مسؤولون سابقون ومحللون، إن هذه الخطوة بدت وكأنها واحدة من أولى التنازلات التي قدمتها الولايات المتحدة بشأن ضوابط التكنولوجيا المرتبطة بالأمن القومي في إطار المفاوضات التجارية، معتبرين أنها تشكل اختراقاً محتملاً للجانب الصيني، الذي طالما سعى للتفاوض مع الولايات المتحدة حول هذه الإجراءات المعروفة باسم “ضوابط التصدير”.

ونقلت الصحيفة عن كريستوفر باديلا، الذي شغل منصب مسؤول ضوابط التصدير في إدارة الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش، قوله إن هذه الخطوة تمثل تحولاً مهماً في سياسة الولايات المتحدة، وأضاف أن المسؤولين الصينيين طالما طالبوا، في محادثاتهم مع عدة إدارات رئاسية، بالتراجع عن ضوابط التصدير.

وتابع باديلا: “كنا جميعاً نعرف نقاط النقاش، وأولها: (هذه مسألة أمن قومي، ولن نناقشها في مفاوضات تجارية). لكن الآن أصبحت ضوابط التصدير قابلة للتفاوض ضمن العلاقة، وبذلك يتم تجاوز عقود من السوابق”.

هدف بكين

من جانبه، قال بريت فيتيرلي، شريك مجموعة آسيا الاستشارية والمستشار السابق للأمن القومي للسيناتور الجمهوري السابق بِن ساسي، إن بكين نجحت في هذه القمة في تحقيق هدفها طويل الأمد، المتمثل في ربط ضوابط التصدير المرتكزة على الأمن القومي بالمفاوضات التجارية الأوسع.

وأضاف فيتيرلي: “التنافس التكنولوجي أصبح الآن المحدد الأساسي للعلاقة بين الولايات المتحدة والصين، وفي هذا الشأن حصل الرئيس شي على تنازلات أميركية رئيسية”.

في المقابل، رفض نائب المتحدثة باسم البيت الأبيض كوش ديساي فكرة أن الاتفاق كان خارج سياق المفاوضات المعتادة في الإدارات السابقة.

وقال ديساي: “أي تصور بأن ترمب مستعد للتضحية بالأمن القومي والاقتصادي الأميركي خاطئ تماماً”، مضيفاً: “الإدارة لم تتراجع عن أي من سياسات ضوابط التصدير التي تمتد لعقود، سواء لأي منتج أو أي دولة”.

وأشارت “أسوشيتد برس” إلى أن الإدارة الأميركية، على ما يبدو، لم تقدم تنازلات أوسع في ضوابط التصدير كما كان يخشى بعض المنتقدين، فأثناء توجهه إلى كوريا الجنوبية، ألمح الرئيس ترمب إلى أنه سيناقش مع نظيره الصيني بيع شرائح “بلاكويل” المتقدمة التي تنتجها شركة “إنفيديا”، وهو الاقتراح الذي قوبل برفض سريع من النواب الجمهوريين والديمقراطيين على حد سواء. 

وفي تصريحاته خلال رحلة عودته إلى واشنطن، أوضح ترمب أن المباحثات تناولت مشتريات الصين من الشرائح بشكل عام، ولكن “ليس بلاكويل”.

وأشاد العديد من مجموعات الأعمال بعودة الاستقرار النسبي في العلاقة بين الولايات المتحدة والصين، ما يعزز التجارة والنمو، ولكن بعض المحللين أشاروا إلى أن إدارة ترمب ربما لم يكن لديها خيار سوى التراجع عن ضوابط التكنولوجيا الأميركية، نظراً للهيمنة الصينية على المعادن الحيوية. ففي ديسمبر الماضي، فرضت بكين أول قيود على صادرات المعادن النادرة، ثم وسّعتها في أبريل، وفي أكتوبر رداً على حرب ترمب التجارية.

حرب المعادن النادرة

وتسيطر الصين على تعدين ومعالجة المعادن الأرضية النادرة والمغناطيسات المصنوعة منها، والتي تُستخدم بشكل واسع في البطاريات والمحركات، وكانت القيود الصينية تهدد سلاسل التوريد للشركات العالمية المنتجة للسيارات، والطائرات، والذخائر، وأشباه الموصلات، حتى أن بعض الشركات اضطرت لوقف خطوط الإنتاج. 

ووصف وزير الخزانة الأميركي، سكوت بيسنت، هذه القيود بأنها “سلاح ضخم يهدد سلاسل التوريد، والقاعدة الصناعية للعالم الحر بأسره”.

ولفتت “نيويورك تايمز” إلى أن تجدد التوتر مع الصين هذا الخريف أعاد نقص الإمدادات من المعادن والمغناطيسات، وأشار بعض المحللين إلى أن قرار الصين الحد من صادرات المعادن النادرة كان نتيجة طبيعية للضوابط التكنولوجية الأميركية، التي اعتمدت نظام ترخيص عالمي مماثل للحد من وصول بكين إلى الشرائح المتقدمة.

وقالت إميلي بنسون، رئيسة قسم الاستراتيجيات في شركة Minerva Technology Futures للاستشارات، إن “الأمر كان مفاجئاً نوعاً ما أن الولايات المتحدة لم تتوقع تطوير دول أخرى أنظمة مماثلة”، مضيفة: “كان الأمر مجرد مسألة وقت”.

وألقى بعض المراقبين باللائمة على سلوك إدارة ترمب تجاه الصين، مشيرين إلى أن التهديدات الجمركية “العدائية” التي أطلقها الرئيس في الربيع الماضي منحت بكين الفرصة لتجربة نهجها الجديد، فيما أدى غياب استراتيجية متماسكة لدى الإدارة إلى منح الصين فرصة للضغط من أجل تحقيق تغييرات طالما سعت إليها.

كما لفت آخرون إلى تراجع نفوذ مجلس الأمن القومي الأميركي، الذي عادةً ما ينسق الاستراتيجيات والسياسات المتعلقة بالصين، بعد فصل عدة مسؤولين بسبب شكوك حول ولائهم السياسي.

في حين تصرفت بعض الوزارات الأميركية أحياناً بشكل “غير منسّق” في تعاملها مع الصين هذا العام، فيما بدا الرد الصيني وكأنه مصمم لإيصال رسالة مفادها أن أي إجراءات أميركية لتقييد بكين ستُقابل بردود فعل قوية من قِبل الأخيرة.

هدنة مؤقتة.. وسلسلة محادثات

وتوصلت الولايات المتحدة والصين إلى هدنة مؤقتة في جنيف، مايو الماضي، بعد أن فرض ترمب رسوماً جمركية عالية في أبريل، وفرضت الصين قيوداً على صادرات المعادن الأرضية النادرة. لكن بعد يوم واحد من الاجتماع، أصدرت وزارة التجارة الأميركية توجيهات جديدة تحظر استخدام شرائح الذكاء الاصطناعي المصنعة من قبل شركة “هواوي” الصينية في أي مكان بالعالم، ما أثار غضب بكين، ودفعها إلى إعادة فرض القيود على صادرات المعادن النادرة.

وعقدت الولايات المتحدة والصين سلسلة اجتماعات في عواصم أوروبية أخرى، خلال الصيف الماضي، لمحاولة استقرار العلاقة، إلا أنه بعد مكالمة هاتفية بين ترمب وشي في سبتمبر، أصدرت واشنطن قاعدة جديدة توسّع نطاق “قائمة الكيانات” لتشمل الشركات التابعة المملوكة بالأغلبية. واستجابت الصين بغضب مرة أخرى، ثم فرضت في أكتوبر ضوابط واسعة النطاق على التجارة العالمية في المعادن والمنتجات المصنوعة منها.

واعتبر مسؤولون صينيون أن إجراءات مثل قاعدة الـ50% في قائمة الكيانات انتهكت التوافق الذي تم التوصل إليه في الاجتماعات الثنائية، في حين أعرب بعض المسؤولين الأميركيين عن استيائهم من توقيت قرار وزارة التجارة وقلة التنسيق. ورغم ذلك، صرّحت الولايات المتحدة علناً بأنها لم تتعهد بتأجيل فرض ضوابط التصدير.

وفي مقابلة مع شبكة CNBC، قال الممثل التجاري الأميركي جاميسون جرير إن الصينيين “يختبرون الكثير من السرديات المختلفة، بينما الحقيقة أنهم يريدون ممارسة السيطرة الاقتصادية على العالم”، وأضاف أن الولايات المتحدة وعدت بتخفيض الرسوم الجمركية مقابل السماح بتدفق المعادن النادرة بحرية، وتابع: “لقد أوفينا بوعدنا، وهم لم يوفوا بوعدهم”.

“تنازلات أكثر وضوحاً”

ووفقاً للصحيفة، فإن اجتماع الرئيس ترمب مع نظيره الصيني أدى إلى تقديم الجانب الأميركي “تنازلات أكثر وضوحاً”، إذ أكد متحدث باسم البيت الأبيض، الخميس، أن الولايات المتحدة وافقت على تعليق توسيع قائمة الكيانات لتشمل الشركات التابعة المملوكة بالأغلبية لمدة عام.

ولاقت هذه الخطوة ترحيباً، إذ انتقد بعض المسؤولين التنفيذيين في قطاع التكنولوجيا وجماعات الضغط قاعدة الـ50% في وقت سابق، لكونها تتطلب إجراءات تدقيق مرهقة أو مستحيلة.

وقال شون ستاين، رئيس مجلس الأعمال الأميركي-الصيني الذي يمثل الشركات الأميركية العاملة في بكين، إن التراجع عن قاعدة الـ50% وقرار بكين تعليق قيود أكتوبر على المعادن النادرة كان “خبراً مرحباً به بشكل خاص”، ووصف الإعلان التجاري الأوسع بأنه “مشجع للغاية”.

وأكد ستاين أن “تخفيض واشنطن للرسوم الجمركية المرتبطة بالفنتانيل، إلى جانب التزام الصين باتخاذ إجراءات صارمة للحد من المواد الكيميائية الأولية لهذا المخدر، مهّد الطريق لإعادة فتح السوق الصيني للزراعة والطاقة الأميركية، وإبرام اتفاق تجاري أوسع يعود بالنفع على الطرفين”.

وكانت قاعدة الـ50% قد وسّعت نطاق قائمة الكيانات بشكل كبير، ما أدى إلى تجميد التجارة بالنسبة لبعض الشركات، ووفقاً لمنصة Wirescreen المتخصصة في شؤون الصين، ارتفع عدد الأطراف المرتبطة ببكين في القائمة من نحو 1300 إلى أكثر من 20 ألفاً بعد تطبيق هذه القاعدة.

ونقلت الصحيفة عن مصادر مطلعة، قولها إن وزارة التجارة الأميركية وصفت هذا التغيير داخل الإدارة بأنه “تصحيح لثغرة”، مضيفين أن بعض مسؤولي وزارة الخزانة ووكالات أخرى فوجئوا بالتأثير النهائي لهذه السياسة. وأكد مسؤول أميركي أن وزارتي التجارة والخزانة كانتا منسقتين في تنفيذ الإجراءات.

ويشير بعض المسؤولين والمحللين الأميركيين إلى أن هذا التغيير كان ضرورياً لمنع الشركات المدرجة في قائمة الكيانات من التحايل على العقوبات الأميركية عبر تحويل أعمالها إلى الشركات التابعة لها.

وقال باديلا إن المعايير نفسها اُستخدمت في قوائم العقوبات الحكومية الأخرى، مثل ضوابط المعدات العسكرية التي تديرها وزارة الخارجية والعقوبات المالية التي تديرها وزارة الخزانة. 

وأضاف: “إذا كنت ستفرض عقوبات على شركة دون معاقبة الشركات التابعة المملوكة بالأغلبية، فهذا لا معنى له.. من الناحية العملية، كانت هذه ثغرة تحتاج إلى الإغلاق”.

شاركها.