نشرت هيئة الإذاعة البريطانية BBC، صورة قالت إنها تعود إلى الإمام الشيعي موسى الصدر، الذي ولّد اختفاؤه منذ العام 1978 سيلاً لا ينضَب من نظريات المؤامرة، ما قد يحل لغزاً دام 47 عاماً، إذ يعتقد البعض أنه قُتل، بينما يزعم آخرون أنه لا يزال حيّاً ومحتجزاً في مكان ما في ليبيا.
واستعرضت BBC الصورة الرقمية لوجه متحلل كان قد التقطها صحافي يدعى قاسم حمادة، لتُعرض على خوارزمية خاصة ضمن تحقيقها الخاص.
وكان عالم حاسوب بجامعة في شمال إنجلترا يدرس صورة لجثة محاولاً حل لغز حيَّر الشرق الأوسط لحوالي 50 عاماً، إذ سأل البروفيسور، حسن أوغيل، من جامعة “برادفورد” بشيء من الشك: “هل هذا شكله الآن؟”.
ويتوقّف الكثير على جهود التعرف التي قامت بها جامعة “برادفورد”، فقد قال الصحافي الذي التقط الصورة، إن الجثمان “طويل القامة على نحو غير عادي”، إذ كان الصدر معروفاً بطول القامة التي بلغت 1.98 متر، لكن الوجه بالكاد احتفظ بملامح تسمح بالتعرّف عليها.
ويثير اختفاء الصدر القدر ذاته من الغموض الذي أحاط باغتيال الرئيس الأميركي جون كينيدي عام 1963، إذ تتأجج المشاعر؛ لأن الصدر شخصية مُبجّلة عند أتباعه، سواء لسمعته السياسية كمدافع عن مسلمي لبنان الشيعة المهمَّشين آنذاك، أو بوصفه زعيماً دينياً في الإطار الأشمل.
من هو موسى الصدر؟
مُنح موسى الصدر لقب “إمام” من قبل أتباعه وهو تكريم غير اعتيادي لرجل دين شيعي وهو على قيد الحياة، أُسبِغ عليه عرفاناً لعمله من أجل الطائفة الشيعيّة.
وأضاف اختفائه الغامض إلى قوته المعنويّة، لأنه يذكّر بمصير “الإمام الثاني عشر الغائب”، الذي يعتقد أكبر فروع الشيعة، المعروفون بـ”الاثني عشرية”، أنه لم يمت وسيعود في آخر الزمان ليُحِلَّ العدلَ في الأرض.
وبدَّل اختفاء الصدر ربما مصير أكثر مناطق العالم اضطراباً دينياً وسياسياً وعرقياً وهي منطقة الشرق الأوسط. فالبعض يعتقد أن رجل الدين الإيراني- اللبناني كان على وشك أن يستخدم نفوذه لدفع إيران، وبالتالي المنطقة، نحو اتجاه أكثر اعتدالاً عندما اختفى على أعتاب الثورة الإيرانية.
وانعكست مكانته في اللقب الفخري “إمام” الذي أسبغه عليه أتباعه، وفي عام 1974 أطلق الصدر “حركة المحرومين”، كمنظمة اجتماعية وسياسية طالبت بالتمثيل النسبي للشيعة والتحرر الاجتماعي والاقتصادي للفقراء بقطع النظر عن انتماءاتهم الدينيّة، وكان مصمماً على تجنب الطائفية إلى حد أنه ألقى خُطباً حتى في الكنائس.
وفي 25 أغسطس 1978، سافر الصدر إلى ليبيا بدعوة من زعيمها آنذاك العقيد معمر القذافي، وقبل ذلك بـ3 سنوات، اندلعت في لبنان حرب أهلية. وشارك المقاتلون الفلسطينيون في النزاع الطائفي، خصوصاً أن كثيرين منهم كانوا يتمركزون في جنوب لبنان حيث يقطن معظم أتباع الصدر.
وفي 31 أغسطس، وبعد انتظارٍ دامَ 6 أيام للقاء القذافي، شوهد الصدر وهو يُقاد بعيداً عن فندق في طرابلس في سيارة حكومية ليبية، واختفى أثره بعد ذلك، إذ زعمت أجهزة أمن القذافي لاحقاً أنه غادر إلى روما، لكن التحقيقات أثبتت زيف ذلك.
جثمان الصدر
ولم يكن ممكناً وجود صحافة مستقلة في ليبيا زمن القذافي، لكن في 2011، حين ثار الليبيون ضده أثناء الربيع العربي، فُتحت كوّة صغيرة لتبيان الحقيقة.
وكانت هناك 17 جثمان محفوظة في غرفة التبريد التي أُدخل إليها، إحداها لطفل، والبقية لرجال بالغين، إذ قيل لقاسم حمادة إن الجثث محفوظة منذ نحو 3 عقود وهو ما يتوافق مع الخط الزمني الذي يخص الصدر.
وقال قاسم: “ذلك الدرج الواحد، (موظف المشرحة يفتحه)، يكشف الجثة، ولفت انتباهي أمران فوراً. أولاً: شكل وجه الجثة ولون البشرة والشعر ما زال يشبه الصدر رغم مرور الزمن. وثانياً أن الشخص بدا أنه أُعدم”.
وأخذت BBC الصورة، التي التقطها قاسم حمادة في المشرحة، إلى فريق في جامعة برادفورد كان يطور منذ 20 عاماً خوارزمية فريدة تُدعى “التعرف العميق على الوجه”، وهي تميّز أوجه تشابه معقدة بين الصور، وأُثبت أنها موثوقة للغاية في الاختبارات حتى على الصور غير المثالية.
ووافق البروفيسور أوغيل، الذي يقود الفريق، على مقارنة صورة المشرحة بأربع صور للصدر في مراحل مختلفة من حياته، ثم تمنح البرمجية صورة المشرحة تقييماً عاماً على 100، وكلما ارتفع الرقم زادت احتمالية أن يكون الشخص هو نفسه، أو أحد أقاربه.
وإذا جاءت النتيجة دون الخمسين يُرجّح أن يكون الشخص غير ذي صلة بالصدر، أما إذا كانت بين 60 و70 نقطة، فيعني أنه هو أو قريب له، أمّا إذا بلغت 70 نقطة أو أكثر، فهذا يُعتبر تطابقاً مباشراً.
وقال البروفيسور أوغيل إن الصورة حصلت على نتيجة في الستينيات، ما يشير إلى “احتمال مرتفع” أن تكون للصدر، وللتأكد من النتيجة، استخدم أوغيل الخوارزميّة ذاتها لمقارنة الصورة مع 6 من أفراد عائلة الصدر، ثم مع 100 صورة عشوائية لرجال من الشرق الأوسط على درجات متفاوتة من الشّبه به.
وحصلت صور العائلة على نتائج أفضل بكثير من الصور العشوائية، لكن أفضل نتيجة بقيت المقارنة بين صورة المشرحة وصور الصدر في حياته.
وأظهرت النتيجة أن هناك احتمالاً قوياً أن قاسم قد رأى جثمان الصدر، والحقيقة أن الجمجمة وُجدت متضررة، ما يوحي، على الأرجح، بأن الصدر قد قُتل.
روايات بشأن اختفاء الصدر
وفي مارس 2023، بعد 4 سنوات تقريباً من العثور على صورة قاسم لأول مرة، تمكن فريق BBC من السفر إلى ليبيا للتحدث مع شهود محتملين وللبحث عن الجثة.
وفي اليوم الثاني من المهمة في طرابلس، كانت الشبكة تبحث عن المشرحة السرية، إذ لم يتذكر الصحافي قاسم حمادة، الذي رافق فريق BBC، اسم المنطقة التي زارها عام 2011، سوى أنها كانت قرب مستشفى.
وفجأة قال: “هذا هو المكان. أنا متأكد. هذا هو المبنى الذي ضمَّ المشرحة”، إذ طلبت BBC إذناً للتصوير داخله، لكن التصاريح أُلغيت، وفي اليوم التالي، قُبض على فريق التصوير من قبل مجموعة رجال مجهولين، اتضح لاحقاً أنهم من جهاز المخابرات الليبية.
وبحسب BBC، فقد تم أخذ الفريق إلى سجن تديره المخابرات الليبية، حيث احتُجزوا في الحبس الانفرادي، واتُّهموا بـ”التجسس”، حيث دام احتجازهم لمدة 6 أيام، وأفرج عنهم لاحقاً بضغوط من الحكومة البريطانية وشبكة BBC.
وقالت الشبكة في تقريرها إنه “كان مؤلماً أن نشعر بأننا أصبحنا جزءاً من القصة، فما زالت ليبيا منقسمة بين إدارتين متنافستين وميليشيات متصارعة، إذ أوضح لنا موظفو السجن أن المخابرات الليبية تُدار من قبل موالين سابقين للقذافي، ممن لا يرغبون في أن تحقق الشبكة في اختفاء الصدر”.
في الإطار، قال الدكتور حسين كنعان، الأكاديمي اللبناني السابق الذي كان يعمل في الولايات المتحدة، إنه زار وزارة الخارجية الأميركية في الأسبوع الذي اختفى فيه الصدر عام 1978، وأُبلغ أن الوزارة تلقت تقريراً يفيد بقتله.
ودعم هذا السردية وزير العدل الليبي الأسبق، مصطفى عبد الجليل، الذي قال للصحافي قاسم حمادة عام 2011: “في اليوم الثاني أو الثالث، زوّروا أوراقه، بأنه ذاهب إلى إيطاليا، وقتلوه داخل سجون ليبيا”.
وأضاف: “الرئيس السابق معمر القذافي له الكلمة الأولى والأخيرة في جميع القرارات”.
إيران أم ليبيا؟
ويرى الخبير في الشأن الإيراني، أندرو كوبر، أن القذافي تأثر بالمتشددين الإيرانيين الذين أقلقهم أن الصدر على وشك أن يعطل أهدافهم للثورة الإيرانية.
وقال كوبر، إن الصدر قبل أسبوع من اختفائه، كتب إلى الشاه عارضاً المساعدة.
وأجرى كوبر مقابلة مع برويز ثابتي، المدير السابق لجهاز مكافحة التجسس في مخابرات الشاه، وذلك في سياق بحثه لكتاب سيرة عن الشاه.
وقال له ثابتي إن “رسالة الصدر عرضت المساعدة في تقويض قوة المتشددين الإسلاميين عبر السعي لإدخال إصلاحات سياسية تستميل العناصر الأكثر اعتدالاً في المعارضة”.
ويعتقد كوبر أن هذه المعلومات سُرّبت إلى المتشددين الإيرانيين، لكن الإيرانيين لم يكونوا الوحيدين الذين قد يرغبون في موت الصدر.
وكان الصدر يدعم كثيراً الثوار الإيرانيين الذين أرادوا إنهاء حكم الشاه محمد رضا بهلوي، لكن رؤيته المعتدلة لإيران اختلفت بشدة مع أفكار المتشددين الذين لم يستسيغوها، بل كانوا ينبذونها.
وبدوره، أكد سفير لبنان السابق لدى إيران، خليل الخليل، وجود هذه الرسالة، مشيراً إلى أنه “فهم أنها طلبت اجتماعاً مع الشاه كان مقرراً في 7 سبتمبر 1978”.
وكان القذافي يقدّم دعماً عسكرياً للمقاتلين الفلسطينيين الذين يهاجمون إسرائيل من جنوب لبنان، ونُسِبت إلى الصدر أقوالٌ من مقابلات أجراها بأنه “حاول إيجاد حل مع منظمة التحرير الفلسطينية”، وقد تكون المنظمة اعتقدت أن الصدر، خوفاً على اللبنانيين، قد يقنع القذافي بكبحهم.
ورغم أن كثيرين يعتقدون أن الصدر مات، إلا أن آخرين يصرّون على أنه ما زال حياً، ومن بين هؤلاء، التنظيم الذي أسسه في السبعينيات، والذي أصبح اليوم حزباً سياسياً شيعياً نافذاً في لبنان يُعرف باسم “حركة أمل”.
ويؤكد رئيس “حركة أمل”، ورئيس البرلمان اللبناني نبيه بري، أنه “لا يوجد دليل على وفاة الصدر، الذي لو كان حيّاً اليوم لبلغ 97 عاماً، لكن كانت هناك فرصة للفصل في الأمر بشكل قاطع”.
في عام 2011، عندما زار قاسم المشرحة السرّية، لم يكتفِ بالتقاط صورة للجثة، بل تمكّن أيضاً من أخذ بعض بصيلات الشعر، بغرض استخدامها في فحص الحَمض النووي DNA، سلّمها لمسؤولين كبار في مكتب بري لكي تُخضع للتحليل.
ولو ثبتت مطابقتها مع أحد أفراد عائلة الصدر، لكان ذلك دليلاً قاطعاً على أن الجثة تعود له. بدوره قال القاضي حسن الشامي، أحد المسؤولين الذين عينتهم الحكومة اللبنانية للتحقيق في اختفاء الصدر، إن “أمل” أخبروه أن عينة الشعر فُقدت بسبب “خطأ تقني”.
وأوضحت BBC أنها قدّمت نتائج التعرف على الوجه إلى ابن الصدر، صدر الدين الصدر، فجلب معه مسؤولاً بارزاً من حركة “أمل” هو الحاج سميح هيدوس، وكذلك القاضي الشامي.
ولفتت BBC إلى أن هؤلاء أجمعوا على “عدم تصديق نتائجنا”، إذ قال صدر الدين: “من “الواضح من شكل الجثة في الصورة أنها ليست لوالدي”، مضيفاً: “ذلك يتعارض مع معلوماتٍ لدينا تعود إلى ما بعد هذا التاريخ (2011، عام التقاط الصورة)، بأن والده ما زال حياً ومحتجزاً في سجن ليبي”، لكن BBC لم تعثر على أي دليل يدعم هذا الرأي.