غزوان قرنفل
منذ تأسيس السلطة الانتقالية في سوريا، من الطبيعي أن يكون الإعلان الدستوري هو الوثيقة المرجعية العليا التي تضبط حدود الصلاحيات وتحدد آليات ممارسة السلطة، باعتباره يشكّل الإطار الذي تستمد منه السلطة الجديدة مشروعيتها الدستورية وتسبغ على أفعالها وقراراتها المشروعية القانونية والسياسية.
لكن الممارسة الفعلية للسلطة تكشف عن اتساع الفجوة بين النص الدستوري والواقع التنفيذي، ولا سيما في ما يتعلق بصلاحيات رئيس الجمهورية الانتقالي وإصداره المتكرر للمراسيم، إذ بلغ عدد المراسيم الصادرة عن رئيس الجمهورية حتى الآن 250 مرسومًا، جلّها تبدأ بالعبارة ذاتها “بناء على أحكام الإعلان الدستوري”، بينما الحقيقة أن هذا الإعلان لم يمنح الرئيس الانتقالي أصلًا سلطة وصلاحية إصدار المراسيم، الأمر الذي يعكس انتهاكًا صريحًا للوثيقة الدستورية التي كان ينبغي أن تكون صمام الأمان الأول لعملية الانتقال السياسي.
إن جوهر الإشكال لا يكمن فقط في العدد الكبير من المراسيم، بل في الأساس القانوني الزائف الذي تسند إليه، إذ إن استخدام عبارة “بناء على أحكام الإعلان الدستوري” يعطي انطباعًا بالتزام السلطة بالنص الدستوري، لكنه في الحقيقة يخفي ممارسة للسلطة على نحو يتجاوز حدود الإعلان ويقوض فلسفته.
فالإعلان الدستوري، لم يمنح الرئيس صلاحية التشريع، ولم يسمح له بإصدار مراسيم تنشئ قواعد عامة ملزمة، بل حصر وظيفته في إطار السلطة التنفيذية، وترك مهمة التشريع للجهة التشريعية المؤقتة خلال المرحلة الانتقالية، ومع ذلك مضت السلطة التنفيذية في إصدار المراسيم بوتيرة متسارعة وبمضامين تمس جوهر السياسات العامة، في تجاوز واضح لروح الإعلان الدستوري ونصوصه.
فالمادة “36” من الإعلان الدستوري منحت الرئيس حق إصدار “اللوائح التنفيذية والتنظيمية ولوائح الضبط والأوامر والقرارات الرئاسية وفقًا للقوانين”، وهذا يعني أن الصلاحية التي يملكها رئيس الجمهورية هي أقل كثيرًا من حق إصدار المراسيم، فالمراسيم أعلى مكانة وقوة من الأوامر والقرارات واللوائح، لأن الأولى تحتل مركزًا وتمتلك قوة تقترب كثيرًا من القانون، لأنها تنشئ أوضاعًا قانونية جديدة، بينما الثانية مجرد أدوات لتنفيذ قانون موجود أصلًا.
هذا الواقع لا يمكن النظر إليه بوصفه مجرد خطأ إجرائي أو نقصًا في الفهم القانوني، بل هو تعبير عن نمط من الإدارة السياسية التي تتعامل مع النصوص الدستورية باعتبارها أدوات تبرير لا قواعد ملزمة، بحيث تتحول عبارة “بناء على أحكام الإعلان الدستوري” إلى غطاء شكلي لممارسات لا تمتثل فعلًا لأحكامه، وتحوّل الوثيقة الدستورية من إطار يضبط السلطة إلى مجرد خطاب دعائي يستخدم لتمويه تجاوزاتها.
المفارقة أن الإعلان الدستوري وضع ليؤسس لمرحلة مختلفة تتجاوز مرحلة الاستبداد والقطيعة مع إرث الحكم الفردي، ولتأسيس شرعية جديدة تستند إلى الالتزام بالقانون كشرط أول للعمل السياسي وإدارة الدولة وممارسة السلطة.
لكن ما يحدث اليوم في هذا السياق يؤشر إلى أن السلطة الانتقالية تحاول إعادة إنتاج منطق وسلوك النظام السابق، حيث كانت النصوص الدستورية تستخدم لتجميل وجه السلطة القبيح بدلًا من أن تكون وسيلة لتقييدها، وهكذا يصبح الانتهاك المتكرر للإعلان الدستوري مؤشرًا مقلقًا على مسار الانتقال السياسي وينحرف تدريجيًا عن مقاصده الأصلية.
إن المشروعية في سياق الانتقال السياسي لا تمنح بمجرد الإعلان عن سلطة جديدة، ولا بمجرد نقل الصلاحيات من جهة إلى أخرى، بل تبنى لبنة فوق أخرى من خلال احترام الأحكام الدستورية التي تنشئ تلك السلطة وتحدد صلاحياتها.
فإذا كان الإعلان الدستوري هو الإطار الذي منح الرئيس الانتقالي شرعية موقعه، فمن البديهي أن احترام أحكامه هو ما يمنحه شرعية ممارسة السلطة، أما حين تتجاوز السلطة هذا الإعلان، فهي في الواقع تفكك الأساس القانوني الذي تستمد منه وجودها ذاته، إذ لا يمكن لسلطة انتقالية أن تدّعي شرعية لممارسة أو فعل يتعارض مع الوثيقة التي قامت عليها. كما أن تجاهل الإعلان الدستوري وأحكامه يقوّض ثقة المواطنين في المرحلة الانتقالية نفسها، ويضعف قدرة الدولة على لم الشمل الوطني الذي تمزق خلال سنوات الحرب وازداد تمزقًا بفعل الانتهاكات التي ارتكبتها السلطة الجديدة غير عابئة بمضامين ما يتعلق بالحقوق والحريات المنصوص عليها في الإعلان الدستوري نفسه.
إن المرحلة الانتقالية ليست مجرد انتقال للأشخاص في السلطة، بل انتقال من منطق القوة إلى منطق القانون، ومن منطق الجماعة إلى منطق الدولة، وكل تجاوز لأحكام الإعلان الدستوري يعيد إنتاج مناخ عدم الثقة، ويزرع الشكوك حول جدية أي مشروع لإعادة بناء الدولة.
ليس المطلوب اليوم مجرد التذكير بخطورة إصدار المراسيم خارج الإطار الدستوري، بل إعادة التأكيد على أن الشرعية تبدأ من احترام النصوص المنشئة لها، فالسلطة التي لا تلتزم بحدود إعلانها الدستوري لا يمكن أن تنتج نظامًا شرعيًا مستقرًا، ولا أن تقود عملية تحول ديمقراطي حقيقية، بل إنها قد تسهم في خلق فراغ قانوني، وتفتح الباب أمام تنازع للصلاحيات، وتعيد إنتاج ثقافة الحكم الفردي حتى وإن تغير الأشخاص.
إن بناء المشروعية الحقيقية للسلطة الانتقالية يبدأ من الالتزام الصارم بأحكام الإعلان الدستوري، على الرغم من كل تحفظاتنا عليه، واحترام الحدود التي رسمها، والامتناع عن تحويله إلى مجرد صيغ إنشائية تتصدر المراسيم دون أن تعكس ما يؤشر للامتثال لأحكامه، فالمشروعية ليست شعارًا يبدأ بـــ”بناء على أحكام الإعلان الدستوري”، بل ممارسة تجسّد احترام تلك الأحكام بالقول وبالفعل معًا.
مرتبط
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
المصدر: عنب بلدي
