تستعد بولندا منذ أكثر من عِقد “لأسوأ السيناريوهات”، والمتمثل في أن تتحول إلى خط المواجهة الأول في حرب بين روسيا والغرب، وبينما تتابع وارسو تصاعد “العدوان” الروسي في أوروبا، عزز مخططوها العسكريون قدرات الجيش، ليصبح العام الماضي الأكبر بين جيوش الدول الأوروبية الأعضاء في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وفق صحيفة “وول ستريت جورنال”.
وذكرت الصحيفة الأميركية في تقرير، الأحد، أن بولندا رفعت إنفاقها الدفاعي هذا العام إلى 4.7% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو الأعلى داخل الحلف، في إطار خطة تسلح ضخمة جعلتها من أكبر الدول المشترية الأسلحة الأميركية في العالم.
ويتزامن صعود القوة العسكرية البولندية مع تصعيد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مواجهته مع الغرب، ففي الشهر الماضي، اخترقت نحو 20 طائرة مُسيرة روسية المجال الجوي البولندي، مزودة بخزانات وقود إضافية تسمح لها بالطيران لمسافات أطول.
وأشعل هذا التوغل، الذي أعقبه رصد طائرات مُسيرة أخرى في أنحاء أوروبا، أول مواجهة بين مقاتلات “الناتو” ومُسيرات روسية فوق أراضي الحلف، في خطوة قال رئيس الوزراء البولندي دونالد توسك إنها وضعت بلاده على أقرب مسافة من صراع مفتوح منذ الحرب العالمية الثانية.
أما بوتين فنفى الحادث، قائلاً إن الحكومات الأوروبية وحلف “الناتو” يتهمان موسكو بـ”الاستفزازات” بشكل شبه يومي.
تحذيرات بولندية
وأعاد الغزو الروسي لأوكرانيا عام 2022، والتحركات الأخيرة تسليط الضوء على تحذيرات بولندية طال تجاهلها من أن روسيا بقيادة بوتين تسعى لإحياء نطاق نفوذها التقليدي في أوروبا الشرقية.
وعانت بولندا طويلاً من الاحتلال الروسي عبر القرون، إذ يتعلم كل تلميذ في مدارسها كيف قسمت الإمبراطوريات الأوروبية الكبرى، وبينها روسيا، البلاد في القرنين الـ18 والـ19، ما أدى إلى محوها مؤقتاً من خريطة أوروبا.
وفي الحرب العالمية الثانية، فشلت بريطانيا وفرنسا في منع غزو ألمانيا ، لبولندا رغم توقيعهما معاهدات دفاع مشترك، ثم جاء الغزو السوفييتي ليضع البلاد تحت قبضة موسكو لمدة نصف قرن.
وتثير التحركات الروسية ضد أوكرانيا، والآن ضد أوروبا، قلق صناع القرار في وارسو من أن بولندا قد تجد نفسها مجدداً في مرمى النيران، لكنها هذه المرة تعتزم أن تكون مستعدة.
وقال توسك خلال “منتدى الأمن في وارسو”، سبتمبر الماضي: “هذه حربنا.. لقد قررنا تسليح بولندا، وتحديث جيشها على نطاق واسع”.
“حليف نموذجي”
وجعل الإنفاق العسكري الضخم من بولندا حليفاً مفضلاً لدى جيرانها على الجبهة الشرقية لـ”الناتو”، وكذلك لدى الرئيس الأميركي دونالد ترمب، الذي يطالب أوروبا بتحمل مسؤولية أكبر عن أمنها.
وخلال لقائه الرئيس البولندي الجديد كارول نافروتسكي، أكد ترمب دعمه لبولندا قائلاً: “نحن مع بولندا بكل ما أوتينا من قوة، وسنساعدها على حماية نفسها”.
وفي زيارة إلى وارسو، في وقت سابق من هذا العام، وصف وزير الدفاع الأميركي بيت هيجسيث بولندا بأنها “حليف نموذجي”.
وتتسم نوايا روسيا تجاه “الناتو” بـ”الغموض”، بحسب “وول ستريت جورنال”، ففي أواخر العام الماضي، قال وزير الدفاع الروسي أندريه بيلوسوف إن على الجيش الروسي أن يكون مستعداً لمواجهة محتملة مع الحلف، لكن بوتين، في الاجتماع نفسه لوزارة الدفاع، استبعد ذلك تماماً، معتبراً أن الغرب يثير الذعر بين شعوبه بادعاء أن روسيا تستعد للهجوم.
ومطلع الشهر الحالي، وصف بوتين الحديث عن هجوم روسي على “الناتو” بأنه “هراء”، داعياً أوروبا إلى معالجة مشكلاتها الداخلية المرتبطة بالهجرة والعنف بدلاً من افتعال صراع مع موسكو.
لكن الكرملين طالب إدارة ترمب بسحب قوات “الناتو” وأسلحته من وسط وشرق أوروبا إلى مواقعها السابقة قبل توسع الحلف عام 1999، في مطلب مماثل لما قدمه للرئيس الأميركي السابق جو بايدن قبل غزو أوكرانيا، وفق مسؤولين استخباراتيين غربيين.
وقال وزير الدفاع البولندي فلاديسلاف كوسينياك كاميش إن “الاستراتيجية الروسية تقوم على إحياء الاتحاد السوفياتي”، مضيفاً أن هذا يضع بولندا مباشرة في مرمى النيران.
واتخذت وارسو قرارها بالاستعداد لصراع محتمل بعد ضم روسيا شبه جزيرة القرم عام 2014، وشنها حرباً بالوكالة في إقليم دونباس.
وبينما تمسكت معظم الدول الأوروبية بالأمل في أن تكون تلك نهاية العدوان الروسي في القارة، أمضى مخططون عسكريون بولنديون عاماً كاملاً في دراسة السيناريوهات الأسوأ، قبل أن يضعوا سلسلة إصلاحات لتوسيع حجم الجيش وزيادة عدد أفراده وتسريع تسليحه.
وقال توماش شاتكوفسكي، نائب وزير الدفاع البولندي الأسبق الذي أشرف على المراجعة الدفاعية الاستراتيجية التي أطلقت الإصلاحات العسكرية: “كانت الدول الأوروبية الأخرى تنتظر أن يبادر طرف آخر أولاً، لكننا في النهاية كنا أكثر تقدماً، ليس فقط على بقية دول الجناح الشرقي، بل على معظم دول الناتو الأوروبية أيضاً”.
جيش بولندي كبير
وباتت بولندا اليوم تضم أكثر من 210 آلاف جندي، لتحتل المرتبة الثالثة في الحلف بعد الولايات المتحدة وتركيا.
وكان أول تشكيل عسكري أُنشئ بعد الإصلاحات هو “الفرقة الآلية الـ18” عام 2018، التي تُحافظ على جاهزية عالية، فيما يجري تشكيل فرقتين مماثلتين، كما أنشأت بولندا قوات دفاع إقليمي تضم عشرات الآلاف من الجنود.
وتولي بولندا التدريب أولوية، ففي الشهر الماضي، شارك 30 ألف جندي، بينهم عناصر من الفرقة الـ18 وقوات أميركية وهولندية، في سلسلة مناورات استمرت شهراً تحت اسم “المدافع الحديدي”، أتاحت للجنود البولنديين التدرب على استخدام ترسانتهم من الأسلحة القديمة والحديثة، ومنها دبابات “أبرامز” الأميركية وراجمات صواريخ كورية جنوبية ومنظومات صاروخية بولندية مستوحاة من “هيمارس” الأميركية التي استخدمتها أوكرانيا ضد روسيا.
وباتت القوات البولندية مجهزة على نحو متزايد، إذ بدأت المعدات التي اشترتها البلاد خلال الأعوام الأخيرة بالتدفق إلى وحداتها، مع المزيد في الطريق.
وبلغت قيمة مشتريات بولندا من الأسلحة الأميركية نحو 50 مليار دولار، ما جعلها أكبر مشترٍ للأسلحة الأميركية خلال عامي 2023 و2024، وقال وزير الدفاع كوسينياك كاميش إن بلاده تخطط لزيادة الإنفاق العسكري العام المقبل إلى 4.8%.
وأصبحت بولندا اليوم “حجر أساس” في خطط “الناتو” لأي مواجهة محتملة مع روسيا، وشريكاً أساسياً لدول البلطيق الصغيرة الواقعة على الجبهة الشرقية للحلف، وهي إستونيا، ولاتفيا، وليتوانيا.
عامل الجغرافيا
وتلعب الجغرافيا دوراً محورياً في هذا السياق، إذ تتشارك بولندا الحدود ليس فقط مع جيب كالينينجراد الروسي، بل أيضاً مع بيلاروس، الحليف الوثيق لموسكو، التي باتت جزءاً من البنية الدفاعية الروسية.
وتعتبر روسيا المجال الجوي لبيلاروس امتداداً لأجوائها، كما أن خطوط السكك الحديدية هناك قادرة على نقل القوات الروسية بسرعة إلى الحدود البولندية، في حين نشرت موسكو صواريخ تكتيكية قادرة على حمل رؤوس نووية داخل أراضي بيلاروس.
وقال شاتكوفسكي، الذي شغل أيضاً منصب سفير بولندا لدى “الناتو”: “في حال وقوع أزمة، سيعتمد الدفاع عن دول البلطيق على قدرة الجيش البولندي، بدعم من الولايات المتحدة، على التعامل مع كالينينجراد وبيلاروس”.
ومن الجوانب المهمة أيضاً أن بولندا عملت على تعزيز قدراتها اللوجستية عبر أراضيها الواسعة، استعداداً لاحتمال تدفق أعداد كبيرة من قوات “الناتو” إلى أراضيها في حال اندلاع صراع، وتشمل الخطط تحديث عدد من المطارات المدنية لتصبح قادرة على نقل الجنود.
وتركت مهمة توسيع الجيش البولندي البلاد أمام فاتورة باهظة، فمع أن نمو الناتج المحلي الإجمالي في السنوات المقبلة، والمقدر بنحو 3%، يفوق نظيره في معظم الاقتصادات الأوروبية، فإن الأعباء المالية المترتبة على صيانة أنظمة الأسلحة المتقدمة قد تتجاوز قدرات الميزانية الدفاعية لبولندا.
ويعكس هذا مدى جدية بولندا وجيرانها في النظر إلى التهديد الروسي، إذ تبحث بولندا، وألمانيا حالياً إمكانية أن تتحمل ألمانيا جزءاً من التكاليف، تعويضاً عن الأضرار التي تسببت بها خلال الحرب العالمية الثانية.
وتأمل ألمانيا أن تضع هذه الخطوة حداً لمطالب بولندا بالتعويضات، وأن تضع البلدين على أرضية دفاعية مشتركة.