أحمد عسيلي
احتفل السوريون الأسبوع الماضي بالذكرى الأولى لانتصار الثورة السورية، وعادت مشاهد الفرح إلى الشوارع والساحات، في لحظة حاول فيها الناس استعادة الإحساس الطبيعي بالحياة بعد سنوات طويلة من القمع والخوف، وبهذه المناسبة، قام الرئيس الشرع بزيارة إلى الجامع الأموي، مكررًا المشهد الذي عاشه السوريون يوم انتصار الثورة ودخوله الأول إلى دمشق، مع حرص واضح على ارتداء الملابس نفسها التي ظهر بها في ذلك اليوم، في إشارة رمزية إلى الاستمرارية وربط اللحظة الراهنة بلحظة النصر الأولى.
خلال هذه الزيارة، ألقى الشرع كلمة قصيرة، لم تتجاوز ثلاث دقائق، لكن المختلف هذه المرة أنه ألقاها من على منبر الجامع الأموي نفسه، بينما كان قد اكتفى يوم النصر بإلقاء خطبة من أسفل المنبر. في كلمته هذه، استعان الشرع بالجملة التي استفتح بها الصحابي الجليل أبو بكر الصديق خلافته بعد وفاة الرسول الكريم، مع تبديل بسيط حين قال: “أطيعونا ما أطعنا الله فيكم”، وخلال ساعات قليلة، انتشر الخبر كالنار في الهشيم، لكن بصيغة محرّفة، مرجعة الجملة إلى صيغتها الأولى “أطيعوني ما أطعت الله فيكم”، أي بصيغة تُحيل الطاعة إلى شخصه لا إلى السلطة القائمة. هذا التحريف، رغم أن الخطبة كاملة متاحة على موقع “يوتيوب”، والتحقق منها لا يحتاج إلى أكثر من خمس دقائق، انتشر على نطاق واسع بين ناشطين وصحفيين وكتّاب، من دون أن يكلّف كثيرون أنفسهم عناء الاستماع إلى الخطبة أو التأكد من النص الأصلي، ناهيك بمحاولة فهم سياقها ودلالات التغير الذي أحدثه بها.
هنا، ربما كان عالم النفس بيتر واسون، أو الاقتصادي وعالم السلوك دانيال كانيمان، سيبتسمان لو تابعا ما جرى، فما حدث مثال حيّ على ما يُعرف في علم النفس بـ”الانحياز التأكيدي” (Confirmation Bias)، أي الميل إلى تصديق المعلومات التي تؤكد القناعات المسبقة، وتجاهل أو إهمال أي معطيات تناقضها، في هذه الحالة، لم يكن الهدف معرفة ما قيل فعليًا وتحليل معانيه، بل العثور على ما يعزز شعورًا داخليًا بالخوف من السلطة، أو الرغبة في نقدها بأي وسيلة، حتى لو عبر تحريف الكلام نفسه.
لكن هذا المستوى من التحليل، أي مستوى التحريف والكسل المعرفي، يبقى سطحيًا، ولا يفسر وحده حجم الخلاف الذي أحدثته الخطبة، فبعيدًا عن الجملة المحرّفة، يبقى السؤال الأهم: لماذا أحدثت الجملة الأصلية نفسها كل هذا الانقسام؟
هنا نصل إلى النقطة الأكثر حساسية: اختلاف المرجعيات الفكرية ودلالاتها النفسية داخل المجتمع السوري، فالشرع، حين استحضر عبارة أبي بكر الصديق، لمس (بوعي أو دون وعي) وعيًا مختلفًا جذريًا بين السوريين، بالنسبة لقطاع واسع، تشكّل الخلافة الراشدة العصر الذهبي للحكم بعد وفاة الرسول، لم تكن خلافة عائلية ولا ملكية، بل قامت على الشورى والإجماع، واختيار أبي بكر تمّ بتوافق المسلمين، من هذا المنظور، تُقرأ الجملة كتعهد أخلاقي، وكشرط يقيّد السلطة ولا يطلقها، وكعودة إلى نموذج يُنظر إليه باعتباره نقيًا وعادلًا.
في المقابل، تلقّت شريحة أخرى من السوريين الجملة على نحو معاكس تمامًا، فبالنسبة لهم، الخلافة الراشدة، مهما بلغت مكانتها الدينية، هي بداية حكم إسلامي ينتمي إلى سياقه التاريخي، ولا يمكن استعادته كنموذج سياسي معاصر، هؤلاء لا يسمعون في الجملة وعدًا أخلاقيًا، بل تلميحًا إلى خلط الدين بالسياسة، وعودة إلى أنماط حكم يعتبرون أنها طُويت مع الزمن، ويتعارضون معها لمصلحة دولة مدنية حديثة.
يزداد هذا التوتر حدّة إذا أضفنا أن النظام السابق نفسه، رغم علمانيته الشكلية، صنع لنفسه هالة شبه دينية داخل بيئته، خصوصًا لدى العلويين، ما جعل أي تداخل بين السياسي والمقدّس يوقظ مخاوف قديمة من استمرارية السلطة بأشكال جديدة.
المفارقة أن الشرع نفسه كان قد أشار قبل أيام إلى عمق الاختلافات السورية، حين تحدث عن الوافدين إلى دمشق، ودعا إلى قبول المختلف، وضرب مثالًا طريفًا عن جماعة “لبّت لبّت” وجماعة “المتّة”، في إشارة إلى اختلاف الأذواق والعادات، لكن ما ظهر لاحقًا لم يكن خلاف أذواق، بل خلاف تصورات كاملة عن السلطة، والدولة، والمستقبل.
وهكذا، لم تكن الخطبة بحد ذاتها هي المشكلة، بل ما كشفته من تصدعات كامنة في الوعي السوري، ومن تعدد في طرق السماع والفهم، ومن ذاكرة ثقيلة ما زالت حاضرة بقوة.
في كل الأحوال، قد يكون هذا الانقسام الذي ظهر حول خطبة واحدة مفيدًا أكثر مما يبدو، فقد سمح للسوريين أن ينظروا إلى بعضهم بوضوح أكبر، وأن يدرك كل طرف أن الطرف الآخر موجود وله مشاعره ومخاوفه ومرجعياته الخاصة، ما زلنا في بداية بناء دولة حديثة، وهذه الخلافات، إذا أُديرت بذكاء، ستكون عنصرًا إيجابيًا في المرحلة المقبلة، لأنها تجبر كل طرف على إعادة النظر في طريقة تفكيره، وعلى فهم أن البلد لا يُبنى برؤية واحدة ولا بخيال واحد.
ما أوصل سوريا إلى ما كانت عليه سابقًا لم يكن الخلاف ذاته، بل عدم فهم مخاوف الآخر أو رفض الاعتراف بها، وربما يكون درس هذه المرحلة أن نمنح بعضنا حق الاختلاف، وأن نحترم حساسيات بعضنا، وأن نفهم أن المستقبل لا يُصنع بإلغاء بقية المجتمع، بل بالقدرة على العيش المشترك رغم التباينات، وهذا هو الامتحان الحقيقي لسوريا.
مرتبط
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
المصدر: عنب بلدي
