تجميد الإنفاق الفيدرالي..هل فشل ترمب في محاولة توسيع سلطاته؟
تراجع الرئيس الأميركي دونالد ترمب عن توجيه سابق يأمر بتجميد مئات المليارات من الدولارات من أموال المساعدات المحلية عقب مواجهة تحديات قضائية ومعارضة في الكونجرس، وهو التوجيه الذي وصفه مشرعون ديمقراطيون بـ”محاولة لتوسيع سلطاته التنفيذية” عبر تحدي مبدأ الفصل بين السلطات.
وكان البيت الأبيض أصدر الاثنين، مذكرة تأمر بإيقاف المنح والقروض الاتحادية وغيرها من المساعدات المالية، وتوجّه جميع الإدارات والوكالات الفدرالية بإجراء مراجعة شاملة للبرامج التي تُنفق عليها تلك الأموال لضمان توافقها مع الأوامر التنفيذية التي وقعها ترمب.
الخطوة كانت تهدف أساساً، بحسب البيت الابيض، إلى اكتشاف الأموال التي تنفق على البرامج التي أمر ترمب بإلغائها بموجب أوامر تنفيذية، أبرزها برامج التنوع والاندماج على المستوى الفيدرالي والبرامج المناخية الممولة بموجب قانون خفض التضخم الذي أقره الرئيس السابق جو بايدن.
وبالرغم من أن توجيهات البيت الأبيض بدت إجراءات تقنية، إلا أنها أثارت جدلاً كبيراً ووُصفت من قبل خبراء قانونيين ومشرعين بأنها “غير دستورية” ومحاولة من ترمب لتوسيع سلطات التنفيذية والتصرف كـ”ملك”، نظراً لأن الدستور يمنح الكونجرس الصلاحية الحصرية في إقرار التمويلات الفيدرالية، ولا تسمح القوانين الأميركية للرئيس بوقف صرف الأموال التي أقرها الكونجرس مسبقاً.
وأوقفت قاضية أميركية، الثلاثاء مؤقتاً، مذكرة ترمب بإيقاف المنح والقروض الاتحادية، قبل أن يعلن البيت الأبيض الأربعاء رسمياً التراجع عن المذكرة، مع التأكيد على أن الوكالات ما زالت تستهدف إلغاء هذا التمويل. لكن لم يتضح بعد المدى الذي يتيح لها القانون الذهاب إليه في القيام بذلك.
هل فشل ترمب؟
ويشكل قرار البيت الأبيض الأربعاء “أول تراجع” كبير خلال الولاية الثانية للرئيس دونالد ترمب الذي لم يتردد، منذ عودته إلى البيت الأبيض، في استخدام السلطة التنفيذية لإعادة تشكيل الحكومة الفيدرالية وفق رؤيته، وإقصاء أي معارضة داخل القوى العاملة الحكومية”، وفق “نيويورك تايمز”.
لكن كارولين ليفيت، المتحدثة باسم البيت الأبيض، نشرت على وسائل التواصل الاجتماعي بعد ظهر الأربعاء توضيحاً قائلة:”هذا ليس إلغاءً لتجميد التمويل الفيدرالي”، مؤكدة أن الأوامر التنفيذية للرئيس بشأن التمويل الفيدرالي “لا تزال سارية المفعول بالكامل وسيتم تنفيذها بصرامة.”
واعتبر مات بينيت نائب مساعد الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون، أن قرار البيت الأبيض لا يمثل ” فشلاً” لترمب، وقال لـ”الشرق” إن إلغاء المذكرة هو “تراجع مؤقت”.
وأشار إلى أن المذكرة، التي تم إلغاؤها، كانت محاولة لتنفيذ تلك الأوامر التنفيذية من خلال تجميد جميع النفقات أثناء قيام الإدارة بمراجعة البرامج التي قد تنتهك توجيهات الرئيس. وبهذا، فإن المذكرة لم تعد سارية، ولكن نية الرئيس الأساسية لا تزال قائمة، ومن المتوقع أن تجد الإدارة طرقاً أخرى لتنفيذ أوامره.
وأضاف بينيت: “أعتقد أنهم استعجلوا الأمور وتصرفوا بارتجال. لكنهم سيستمرون في محاولة تنفيذ قرارات ترمب التنفيذية وقطع بعض التمويلات الفيدرالية. لكن المحاولات المقبلة لن تكون عبر وقف شامل للتمويل الفيدرالي، وقد تكون أكثر انتقائية لتشمل فقط البرامج المستهدفة”.
وعلى الرغم من أن هذا القرار أثار جدلاً كبيراً عقب صدوره من قبل ترمب، إلا أن الرئيس الأميركي كان قد اقترح فعلاً خلال حملته الانتخابية عام 2023 اتخاذ خطوة كبيرة لخفض الإنفاق الحكومي، وقال العام الماضي، إنه “سيستخدم سلطة الحجز المعترف بها منذ فترة طويلة للرئيس من أجل الضغط على البيروقراطية الفيدرالية المتضخمة لتحقيق مدخرات هائلة”.
وكانت “تقارير إعلامية” حينها حذرت من أنه إذا تم تنفيذ هذا الاقتراح، فسيكون محاولة جريئة من قبل ترمب لتوسيع سلطاته، خاصة مع استفادته من كونجرس يسيطر عليه الجمهوريون وأغلبية محافظة في المحكمة العليا الأميركية، وتوقعت أن هذا الأمر قد يصبح سريعاً، أحد أكثر المعارك القانونية التي قد تشهدها ولاية ترمب الثانية.
“التفويض الشعبي” مقابل الدستور
ومنذ فوزه الكاسح في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، يصر ترمب في خطاباته على أنه حصل على “تفويض شعبي” من الأميركيين لتنفيذ أجندته، حتى وإن قوبلت بالمعارضة من قبل الكونجرس.
وكرر ترمب في خطاب الأربعاء بالبيت الأبيض عقب صدور قرار التراجع عن تجميد المنح والقروض الفيدرالية تلك التصريحات، وقال إن “تلك النفقات التي شملها التجميد المؤقت كانت تهدف لكشف عمليات الهدر وسوء استخدام أموال دافعي الضرائب”.
وأضاف: “لقد حصلنا على تفويض قوي من الشعب الأميركي لتنفيذ هذه الإجراءات. لقد تحدثت عنها خلال حملتي الانتخابية، والشعب الأميركي دعمها بأعداد قياسية”.
غير أن القوانين الأميركية تحظر بشكل صريح على الرئيس وقف صرف الأموال الفيدرالية التي أقرها الكونجرس، أو إعادة تحويلها لبرامج غير تلك التي أقرها. ويمنح الدستور الأميركي الكونجرس سلطة تخصيص الأموال الفيدرالية ويُلزم السلطة التنفيذية بصرفها.
جيف لي الخبير في الشؤون الحكومية الأميركية ومساعد حاكم كاليفورنيا السابق جيري براون قال لـ”الشرق”، إن “الدستور ينص بوضوح على أن الأموال التي تُخصص ويتم توقيعها لتصبح قانوناً يجب أن تُلزم وتُصرف وفقاً لنوايا الكونجرس والقانون المُشرّع. الكونجرس هو الجهة التي تتحكم في الميزانية ويعمل كفرع متساوٍ في السلطة داخل الحكومة الفيدرالية الأميركية”.
وأوضح جيف لي أن “قانون ضبط حجز الأموال لعام 1974 يحدد عملية يمكن للرئيس من خلالها إيقاف المدفوعات الفيدرالية إذا وافق الكونجرس على التخفيضات التي تقترحها الإدارة. وقد حاولت الإدارة تنفيذ هذا في ولايتها الأولى عندما كنت أعمل لصالح حاكم ولاية كاليفورنيا، حيث كنت أقوم بتقييم التأثيرات المحتملة على سكان الولاية. لم يوافق الكونجرس على هذه التخفيضات في الماضي، ولكن يبقى أن نرى ما إذا كان الكونجرس الحالي سيوافق على التجميد المقترح نظراً لتأثيره على قضايا وخدمات متعددة”.
وقال معارضو تجميد الإنفاق الذي فرضته الإدارة الأميركية الجديدة، إن هذا الإجراء ينتهك قانون “ضبط حجز الأموال” لعام 1974، الذي يمنع الرؤساء من الحجز على تمويل خصصه الكونجرس، بدون موافقته.
وجاء قانون 1974 نتيجة قرارات إدارة الرئيس ريتشارد نيكسون بحجب أموال الطرق السريعة ومشاريع التحكم في المياه، في محاولة للحد من التضخم.
ويسمح هذا القانون للرئيس بحجب الأموال في ظروف محددة ولمدد زمنية محدودة، كما يلزمه بإرسال رسالة خاصة إلى الكونجرس تشرح أسباب الإجراء. بعد ذلك، يجب على الكونجرس تحديد ما إذا كان سيسمح بتأجيل الإنفاق أو إلغائه بالكامل.
ما الذي دفع ترمب للتراجع؟
ذكر موقع “ذا هيل” أن تراجع البيت الأبيض جاء وسط ضغوط قوية خلف الكواليس من قبل المشرعين الجمهوريين في الكونجرس، وفقاً لما صرح به سيناتور جمهوري أُبلغ بقرار التراجع عن مذكرة الميزانية الصادرة الاثنين.
وتلقت مكاتب أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين مكالمات من قادة المجتمعات المحلية من الولايات التي يمثلونها الذين عبروا عن ارتباكهم وقلقهم من فقدان المنح الفيدرالية.
ورحبت عضوة مجلس الشيوخ الجمهورية سوزان كولينز، التي تترأس لجنة المخصصات في المجلس، بقرار التراجع عن التجميد، قائلة في بيان: “أنا سعيدة بأن مكتب الإدارة والميزانية قد ألغى المذكرة التي فرضت تجميداً واسعاً على البرامج الفيدرالية. في حين أنه من المعتاد أن تقوم الإدارات الجديدة بمراجعة البرامج والسياسات الفيدرالية، إلا أن هذه المذكرة كانت مفرطة في تدخلها وخلقت ارتباكاً واضطراباً غير ضروريين”.
الخبير الاقتصادي بيتر تانوس قال لـ”الشرق”، إن إصدار المذكرة “ربما كانت من القرارات الفردية غير المدروسة، التي يتخذها ترمب دون استشارة أي شخص، وهذا هو السبب في حدوث هذا النوع من الفوضى التي رأيناها الآن”.
ولفت إلى أن قرار ترمب بإلغاء المذكرة قد يكون بسبب إدراكه أن “قطع التمويل سيؤدي إلى تأثير فوري على الأبحاث، والرعاية الصحية، وغيرها من القطاعات الحيوية، لذا اضطروا إلى التراجع عن القرار”، خصوصاً وأن ذلك قد يؤثر على حظوظ الحزب الجمهوري في الانتخابات النصفية.
واعتبر تانوس أن المشكلة هنا أن ترمب يحكم من خلال “الأوامر التنفيذية”، وهي” منطقة رمادية قانونياً من حيث مدى الصلاحيات التي يمكنه فرضها بهذه الطريقة. العديد من هذه القرارات سيتم الطعن فيها من قبل الكونجرس، ولكن الواقع السياسي الحالي يعطي ترمب بعض الحرية”.
وتابع: “الجمهوريون لديهم أغلبية بسيطة في مجلسي الكونجرس، لذا من غير المرجح أن تكون هناك مواجهة قوية ضد هذه السياسات، لكن هذا الاحتمال يظل قائماً. ما نحتاج إلى الاستعداد له هو أن الجمهوريين سيحافظون على أغلبيتهم في الكونجرس خلال العامين المقبلين، ما يمنح ترمب مساحة أكبر للحكم عبر الأوامر التنفيذية قبل أن يتم الطعن فيها”.
في السياق ذاته، قال الخبير في الشؤون الحكومية الأميركية جيف لي، إن كل ما حدث قد يكون “مجرد اختبار” من قبل ترمب لقياس ردود الفعل على إجراءاته لخفض الإنفاق الفيدرالي.
وزاد: “من المحتمل أن يكون قد جاء بعدما لاحظ الرئيس ردود الفعل وتلقى تحذيرات صريحة من حلفائه في الكونجرس من أن هذه الخطوات قد تؤثر على شعبيته”.
وأضاف جيف لي: “كما أنه ربما أراد اختبار ردود فعل الرأي العام والكونجرس بشأن مجالات التخفيضات المحتملة، على أن يستغل تلك المعلومات لاحقاً لتحديد تخفيضات أكثر دقة للبرامج عند مراجعة الهيكل البيروقراطي الفيدرالي بأكمله وبرامجه”.
ما هي خيارات ترمب لتحقيق أهدافه؟
بحسب الخبير في الشؤون الحكومية جيف لي، فإن ترمب أمامه خيارين قانونيين من أجل وقف التمويلات الفيدرالية التي يستهدفها، يتمثل الأول في استخدام آلية حجز الأموال، وذلك عبر اللجوء إلى الكونجرس لنيل الموافقة على وقف تلك النفقات الفيدرالية التي وافق عليها في عهد الإدارة السابقة، موضحاً “حينها سيبقى ذلك رهيناً بما إذا كان الكونجرس سيوافق على هذه التخفيضات في التمويل”.
أما الخيار الثاني، بحسب جيف لي، فهو اللجوء إلى عملية “تسوية الميزانية في شهري فبراير ومارس”.
و”تسوية الميزانية” Budget Reconciliation هي عملية خاصة في الكونجرس تُستخدم لتمرير تشريعات معينة متعلقة بالميزانية، التي تسمح بتعديل الموازنة السنوية من أجل تحقيق الأهداف المالية للحكومة، وخفض التضخم.
ولا يحتاج مشروع قانون تسوية الميزانية سوى أغلبية بسيطة لتمريره في الكونجرس، وهو ما يعني أن الجمهوريين قد لا يحتاجون لأصوات ديمقراطية من أجل تمرير التشريع.
كما يجادل البعض بأن الرئيس ترمب يمكنه أيضاً استخدام قانون “الفيتو الجزئي”، من أجل رفض إنفاق الأموال التي وافق عليها الكونجرس مسبقاً.
نيكولاس هيجنز، وهو أستاذ مشارك ورئيس قسم العلوم السياسية بجامعة “نورث جرينفيل”، قال لـ”الشرق”، إن “حق النقض الجزئي لعام 1996، منح الرئيس بيل كلينتون سلطة إلغاء بنود إنفاق معينة وفوائد ضريبية محددة بعد إقرار الكونجرس لمشروع القانون. ولكن في يونيو 1998، قضت المحكمة العليا بأن هذا القانون غير دستوري، إذ أتاح للرئيس تعديل التشريعات بعد إقرارها من الكونجرس، وهو ما اعتبرته المحكمة تجاوزاً للصلاحيات الدستورية”.
وكان قانون “الفيتو الجزئي”، الذي أقره الكونجرس في عام 1996 بهدف تقليل الإنفاق الحكومي، يسمح للرئيس باستخدام حق النقض (الفيتو) ضد بند إنفاق أو فائدة ضريبية معينة داخل مشروع قانون ضخم دون الحاجة إلى رفض مشروع القانون بأكمله.
غير أن المحكمة العليا ألغت القانون عام 1998، بعدما قضت بعدم دستوريته لأنه انتهك بند التقديم Presentment Clause في الدستور، الذي ينص على أن يتم تمرير التشريعات بالكامل من كلا المجلسين في الكونجرس قبل أن يتم توقيعها أو رفضها بالكامل من قبل الرئيس. ومن خلال منح الرئيس سلطة قبول أو رفض أجزاء من مشروع القانون، كان القانون سيمنح الرئيس صلاحية تعديل القوانين بطريقة تتعارض مع الهدف التشريعي الذي وضعه الكونجرس.