تبدو الكتابة الإبداعية عن الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة مهمة شاقة إن لم تكن مستحيلة في هذه الأيام، فنزيف الدم الفلسطيني لا يزال مستمراً، والأحداث في القطاع تتسارع على نحو يجعل من الإمساك بها فنياً في نص قصصي أو روائي مغامرة محفوفة بمخاطر من النوع الذي عادة ما يدفع الكتاب إلى إيثار السلامة والنأي عن الخوض في الأحداث الساخنة خشية الوقوع في فخاخ الانفعال والكتابة الهتافية.
لكن الروائي الفلسطيني ووزير الثقافة السابق عاطف أبو سيف، تمكن عبر مجموعته القصصية “غزة أندرجراوند” الصادرة في نوفمبر الجاري، عن “منشورات المتوسط” بإيطاليا، من خوض هذه المغامرة ليقدم لنا 19 حكاية تمثل شهادة أدبية عن كمية الألم العملاقة التي تملأ كل مكان في القطاع وهي آلام لا تقتصر على المعاناة الكبيرة التي تسببها الحرب، بل يتجاوزها إلى ذلك النابع من الحاجات والضرورات غير القابلة للفصل عن الحياة، عن الحب والحنين والذاكرة والنسيان والفقد والغياب واليومي والعادي، عن الذاكرة التي تأبى أن تموت في مدينة لطالما ارتبط اسمها بالفناء.
وجاءت المجموعة التي صدّرها أبو سيف بتوضيح أن قصصها كتبت خلال الفترة بين 2013 و2025، في 173 صفحة من القطع المتوسط، يرسم عبرها صاحب “حياة معلقة” بورتريهات لأوجه المدينة المتعددة بأمزجتها المتقلبة تحت الحرب والحصار، وفي برهات السلم القصيرة التي لا تدوم.
تلتقط “غزة أندر جراوند” بشخوصها وحواراتهم ملامح كل ما هو إنساني لتنقلنا مباشرة إلى إطار أكبر يضخ الحياة في صور عشرات الآلاف من الضحايا الذين تحولوا إلى مجرد أرقام في نشرات الأخبار، وكأنه يريد أن يقول لنا إن من في هذه المدينة “كانت لهم حياة” تضج كغيرها من حيوات البشر بالآمال والآلام والخيبات والأشياء البسطية والتناقضات التي تسم حيوات البشر في كل بقعة من الأرض.
يبدأ أبو سيف الذي تميز بخصوصية لافتة في المشهد الروائي الفلسطيني عبر التقاطه للتفاصيل الصغيرة في حياة الناس تحت الاحتلال والحصار، مجموعته الجديدة بقصة جاءت بمثابة التوطئة، إذ يصور في “جسر غزة” الحياة تحت الحصار الإسرائيلي قبل الحرب الأخيرة عبر حكاية 4 يلتقون مصادفة بعد غياب طويل على طاولة مقهى شعبي بمدينة رفح، في قصة تمزج بين معاناة المهاجرين في الذهاب والعودة إلى ديارهم عبر المعبر الحدودي مع مصر، كما تلعب القصة على ثيمة الحب المهدور بفعل التردد تارة والتفاوت الطبقي مرة أخرى، ليأخذنا في رحلة تبرز تضاريس المكان عبر وصف يقدم غزة بجغرافيتها وطقسها ببيارات البرتقال والأمطار في وادي غزة والقمر الذي يحجبه النخيل ودخان النرجيلة الذي يحمل آلاف الأفكار والشرطة التي يغضبها تدخين الفتيات، وصولاً إلى إكراهات الحياة اليومية وملذاتها الصغيرة.
آخر صورة لشارع الرشيد
وفوراً بعد أن ترسخت لنا صورة غزة المدينة في لحظات هدأتها النادرة، ونموها العمراني والبشري ينقلُنا أبو سيف في قصته الثانية “آخر صورة لشارع الرشيد” إلى راهن المدينة حيث أجواء الحرب والدمار عبر حكاية تنأى عن المباشرة والتقريرية من خلال سردية ترتكز على الرمزية والمشهدية، إذ يروي لنا قصة الصورة الأخيرة لشارع الرشيد التي التقطت قبل ساعات من موت المدينة، آخر صورة لـ”الفقيدة” في ليلتها الأخيرة.
ومن خلال هذه الصورة المحتشدة بالتفاصيل الصغيرة للشارع الموازي للبحر، والذي يقطع المدينة من أولها إلى أقصاها، يأخذنا الراوي في رحلة مع “عقل” في محاولته للحفاظ على ذاكرة المدينة التي “تغفو على موتها”، من خلال محاولته إنقاذ الصورة الأخيرة من الضياع وسط القصف الذي لا ينقطع والبنايات التي تنهار واحدة تلو الأخرى، وهاتفه الذي لا يقوى على الصمود أمام نفاد الطاقة الكهربائية التي لا توجد إلا في مكان وحيد يعتبر الوصول إليه بمثابة انتحار.
تضعنا هذه الحكاية في تفاصيل الحرب نتنقل مع “عقل” وسط الدمار نعلق معه في بقايا السجادة الخمرية المتدلية من إحدى الشرفات القليلة المتبقية في غزة، ونقع معه من فرط التعب في حقلي الباذنجان والكوسة المحروقين، ونشاهد مزرعة الأسماك التي تفجرت وتطايرت أسماكها والأشجار المحترقة وبقايا الزرائب التي لم تعد تأوي أي حيوانات، وبقايا البيوت والحدائق.
نواصل رحلتنا مع “عقل” وهو يتساءل عن مصائر من كانوا في الصورة الأخيرة لشارع الرشيد، الشابات الثلاثة اللواتي يتداولن أمر رسالة وصلت لإحداهن، والطفل الذي كان يجادل والدته راجياً أن تسمح له بالبقاء للعب قليلاً في تلك الليلة الأخيرة، وبائع الترمس الذي كان يدندن بأغنية لعمرو دياب والمشاة الذين عبروا الطريق وصولاً إلى الشابة صاحبة الابتسامة التي كانت سبباً في التقاطه للصورة.
وينتقل بنا عاطف أبو سيف من خلال مجموعته القصصية إلى أزمنة مختلفة من عمر غزة عبر سردية تراهن على أنسنة التفاصيل في “الرجل خلف النافذة”، و”بشوفك المرة الجاي”، و”سيارة قديمة للزمن الجديد”، و”البيت المغلق” حيث الفتاة التي لا تخرج أبداً، وتنذر حياتها لوالديها المقعدين، حتى يتسنى لأشقائها إرضاء نزعتهم الذاتية الموغلة في تطرفها.
كذلك نجد الميتافيزيقا حاضرة في “رحيل” حيث الأرملة التي تقرر مغادرة حارتها بعد وفاة زوجها إلى بيت أهلها الذي لا تعرف إذا ما كان موجوداً أم لا.
وفي “الرجل الذي يفضل النوم”، ينقلنا أبو سيف إلى حيث الألم الوجودي والخوف من الموت ومحاولة الحياة لالتقاط أنفاسها عبر النوم بحثاً عن الراحة، وفي “دكان الألوان الأربعة” تحضر تقلبات السياسة وصراعات المال وقصة الرجل الذي يرفض أن يبيع ذاكرته.
وبعدها نقرأ “بحر في انتظار السفينة”، وسرعان ما نعود إلى أجواء الحرب وآلامها في قصة “فرح في خيمة” عن الفتاة التي تجهض الحرب حلمها الصغير بأن تحقق ذاتها، ولو لمرة واحدة في ثوب عرس أبيض، ثم قصة أخرى لطيفة هي “وافي” عن الثرثرة وفاكهة المجالس والناس الذين يكافحون رتابة أيامهم بالادعاءات المضخمة.
“ساق مبتورة تعود إلى الحياة”
وتبلغ حكايات الحرب ذروتها في “غزة أندر جراوند” بقصة “الجسد غير المكتمل”، حيث تعثر أم على رأس ابنها الوحيد الذي انتظرت 7 أعوام لإنجابه دون العثور على بقية أجزاء جثمانه، وقصة “رحلة إلى المقبرة” حيث يقرر صديقان أن يذهبا إلى المقبرة ليموتا بهدوء بعيداً عن ضوضاء الحرب القاتلة، بالإضافة لقصة “ساق مبتورة تعود إلى الحياة”، حيث يدفن أحد مصابي حروب غزة الكثيرة رجله المبتورة في قبر بالمقبرة، ويزورها بشكل شبه يومي يروي لها ما، فاتها من مشاويره.
للوهلة الأولى يقودك عنوان المجموعة القصصية “غزة أندرجراوند” إلى تخيل مدينة أخرى غير تلك ترسخت صورتها في مخيلة العالم مقترنة بالدم والموت والدمار، ليستدرجك العنوان ويستثير فضولك لتنغمس في القراءة لمعرفة أي “أندرجراوند” يتحدث عنه الكاتب في مدينة لا توجد بها قطارات، آملاً أن تجد الإجابة، إلا أن انتظارك سيطول حتى تصل إلى القصة الأخيرة من المجموعة “المقهى السحري”.
لكن قبل أن نصل إلى نهاية المجموعة يمارس معنا أبو سيف هواية التشويق عبر قصة “الجنود يركبون القطار” والتي تروي قصة شابين وجدا نفسيهما محاصرين تحت القصف داخل شقة في بناية آيلة للسقوط، ولما تعذر عليهما الخروج، وكاد الملل أن يفتك بهما قبل الصورايخ الإسرائيلية، وبعد أن هالهما ما شاهداه من نافذتهما المكسورة من دمار غير ملامح المدينة، طفقا ينخرطان في شكل جديد من أشكال المقاومة عبر الخيال، فصعدا معاً على “القطار رقم 9” أمام مفترق “الاتصالات” ليقرر أحدهما الذهاب إلى “بيت الصحافة”.
وبينما هما يتبادلان رشفات من كوب الشاي الأخير يبرعان في تخيل غزة وهي مربوطة بشبكة قطارات حديثة، دون أن ينسيا رسم خارطة أحلامهما على الورق في حوارية تجعلنا نعيش الدمار الذي حاق بغزة، ونرفضه في آن، كما بطلي القصة اللذان سيتعرضان لمطاردة جنود الاحتلال وإطلاق النار عليهما حتى في قطار أحلامهما.
ويختتم أبو سيف هذه القصة قائلاً: “على الجدار بعد ذلك سيجد المنقذون بقايا خارطة لغزة مرسوم عليها شبكة قطارات ومحطات توقف وملاحظات، فيما الكنبة الخمرية تبدو مثل مقعد من الدرجة الأولى قد انفصل عن أحد هذه القطارات في لحظة”.
وفي “المقهى السحري” آخر قصص المجموعة يقترح “عبد الحليم” أن يتم تحويل الأنفاق في غزة إلى شبكة “أندر جراوند”.
