ترامب يهدي النفوذ العالمي الصين تحركت لملء الفراغ الأمريكي

إثر الصدمة الأوروبية من تصرفات وتصريحات إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب، كثّفت الصين من تحركاتها الدبلوماسية، مقدمة نفسها كشريك موثوق للقارة العجوز وصديق للنظام الدولي القائم.
وقد وصل التوتر بين الرئيس الأميركي دونالد ترمب والقادة الأوروبيين إلى ذروته في “مؤتمر ميونخ للأمن العالمي”، الذي أُقيم في ألمانيا الجمعة 14 فبراير، لكن جذور الخلاف بدأت عندما فرض ترمب رسوماً جمركية على واردات الألمنيوم والصلب، وهدد بفرض رسوم إضافية على المنتجات الأوروبية، ما قد يكبد اقتصاد الاتحاد الأوروبي خسائر بمليارات الدولارات.
الصين بديلةً لأميركا
وتصاعدت التوترات بين الجانبين بعد أن طالب ترمب دول حلف شمال الأطلسي (الناتو) بمضاعفة إنفاقهم العسكري 3 مرات، وحثهم على إرسال قوات إلى أوكرانيا وشراء الأسلحة الأميركية، معلناً عزمه التفاوض مباشرة مع روسيا بشأن أوكرانيا، متجاهلاً الدور الأوروبي، وفي قمة ميونخ عزز نائبه جيه دي فانس هذا النهج، حيث هاجم في خطابه أوروبا علناً، منتقداً مؤسساتها الديمقراطية، وهو ما صدم القادة الأوروبيين وزاد من تعقيد العلاقة بين واشنطن وبروكسل.
من جانبها، وجدت الصين في تصاعد الخلافات بين الحليفين التقليديين فرصة لاستئناف خطوات بدأتها منذ تحرك ترمب، لإعادة هيكلة وتفكيك الوكالة الأميركية للتنمية الدولية (USAID)، التي تعمل منذ 60 عاماً في تقديم المساعدات التنموية والإنسانية حول العالم.
ولاحظ المراقبون أن الصين تتقدم بسرعة لملء هذه الفجوات، وتعزيز وجودها في العديد من المناطق التي تأثرت بقرارات الإدارة الأميركية المفاجئة.
واعتبرت المديرة التنفيذية لحوار آسيا والمحيط الهادئ للتنمية والدبلوماسية والدفاع “AP4D”، ميليسا كونلي تايلر، أن التعليق المفاجئ لتمويل الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، والذي يشكل 40% من المساعدات الخارجية العالمية، يُمثل لحظة فاصلة في تغيير موازين القوى.
واتهمت إدارة ترمب بأنها مخطئة في النظر إلى التنمية من منظور السياسة الداخلية بدلاً من اعتبارها عنصراً من عناصر القوة الوطنية.
وفي حديثها مع “الشرق”، قالت تايلر إنه إلى جانب الدفاع والدبلوماسية، تُعد التنمية أحد الأدوات الأساسية التي تستخدمها الدول في إدارة شؤونها العالمية بما يخدم مصالحها الوطنية، وبما يتماشى مع حجمها ومصالحها العالمية، وأضافت: “كانت الولايات المتحدة أكبر مانح للمساعدات في العالم حتى الآن، ومع وجود دعم من الحزبين، كان من غير المتصور أن تتخلى الولايات المتحدة عن هذا المجال”.
وحذّرت من أن توقف المساعدات الخارجية الأميركية “يخلق فرصة لدول أخرى، بما في ذلك الصين، لملء هذا الفراغ”، مشيرةً إلى أن الدول النامية كانت تعتقد أنها تستطيع إلى حد كبير الوثوق بالتزام الولايات المتحدة بتعهداتها، أما الآن، فسيكون من غير الحكمة الاعتماد على المساعدات الخارجية الأميركية لتقديم الخدمات الحيوية مرة أخرى”.
تحركات صينية وضعف القدرة المالية
توقع زميل أول دراسات الصين في مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي، إسحق كاردون، أن يُوفر الخطاب الأميركي “العدائي” لأوروبا وانسحاب الوكالة الأميركية للتنمية الدولية فرصةً للصين، قائلاً إن بكين وجدت لنفسها فرص جيدة نشأت نتيجة “عداء إدارة ترمب تجاه حلفائها التقليديين، إضافة إلى نهجها القسري وعدم احترامها للدول الصغيرة في الجنوب العالمي”.
ولفت كاردون، في حديث لـ”الشرق”، إلى أنه مع انسحاب واشنطن من بعض الأدوار القيادية، تجد الصين الفرصة لتعزيز نفوذها عبر مؤسسات دولية متعددة الأطراف، حيث يمكنها تقديم نفسها كشريك أكثر استقراراً وموثوقية للدول النامية، متوقعاً أن تحصد الصين العديد من الفوائد نتيجة التراجع الأميركي، و”قد تسعى إلى تعزيز مكاسبها في المحافل الدولية مثل الأمم المتحدة وغيرها من الهيئات الدولية، وتكسب تأييد الدول التي تشعر أنها تضررت من السياسات الأميركية في عهد ترمب، حيث أبدت الولايات المتحدة اهتماماً أقل بقيادة هذه المؤسسات، ما يسهم في إعادة تشكيل التوازنات الدولية لصالحها”.
وكانت الصين أعربت عن استعدادها لدعم المنظمات الدولية التي أوقفت إدارة ترمب تمويلها، وأعلنت التزامها بدعم منظمة الصحة العالمية، بعد أن أصدر الرئيس الأميركي قراراً تنفيذياً بالانسحاب من المنظمة.
في الوقت نفسه، أبلغ مسؤولون صينيون حكومة نيبال بأن بكين مستعدة لملء الفراغ التنموي فيها، بعد إيقاف ترمب جميع المساعدات الإنسانية المرتبطة بـ”USAID” لمدة 90 يوماً.
وفي كولومبيا التي حصلت من الوكالة الدولية للتنمية الدولية على 1.727 مليار دولار، وهو ما يعادل 8.5% من ميزانية الاستثمار لعام 2023، قالت المنظمات غير الحكومية فيها إن الحكومة الصينية مهتمة بتخصيص الأموال للمساعدة في سد الفجوة التي خلفتها الولايات المتحدة.
لكن يون صن، مديرة برنامج الصين في مركز ستيمسون، ترى أن الصين قد تبدو كأنها تملأ الفراغ الذي تتركه الولايات المتحدة “إلا أن هناك حدوداً لقدرتها واستعدادها للقيام بذلك”.
وقالت صن لـ”الشرق” إن الصين لا تمتلك نفس القدر من الموارد المالية أو حتى الإرادة السياسية لتولي الدور التقليدي الذي لعبته واشنطن في تقديم المساعدات الخارجية، وأضافت: “قد تستغل الصين بعض الفرص لتعزيز نفوذها، لكنها ليست مستعدة لتقديم مساعدات واسعة النطاق بنفس الطريقة التي فعلتها الولايات المتحدة لعقود”.
وكانت الصين، في ظل تنافسها مع الولايات المتحدة في قطاع التنمية بدول الجنوب العالمي، أنشأت عام 2018 وكالة التعاون الإنمائي الدولي الصينية “CIDCA”، بهدف تنظيم وتوجيه برامج المساعدات التنموية الصينية.
وعلى عكس الوكالة الأميركية للتنمية الدولية “USAID”، التي تعمل من خلال منح وشراكات مع منظمات غير حكومية، تركز الوكالة الصينية بشكل أكبر على القروض ومشاريع البنية التحتية، خاصة في الدول النامية، بهدف تعزيز نفوذ بكين الاقتصادي والسياسي. مع توقعات بتحويل بعض قروضها إلى منح، مؤخراً.
ودفعت الطبيعة المختلفة للوكالة الصينية أستاذة السياسة والعلاقات الدولية في جامعة أكسفورد روزماري فووت إلى استنتاج أن بكين لا تبدو مستعدة أو مهتمة بسد الفجوات التمويلية التي خلفتها الولايات المتحدة.
وفي حديثها مع “الشرق”، قالت فووت إن هناك دولاً أخرى تنظر إلى الصين كقوة استقرار يمكن أن تلعب دوراً أكثر تأثيراً في القضايا الدولية، وتتوقع هذه الدول من الصين أن تكون أكثر انخراطًا في المفاوضات الدولية، وأن تزيد من مساعداتها الإنسانية والتنموية، خاصة مع تراجع الالتزام الأميركي في هذه المجالات.
وتابعت: “مع ذلك، من غير المرجح أن تسعى الصين إلى سد الفجوات التي أحدثتها الولايات المتحدة في التمويل”.
ترحيب أوروبي
إذا كان انسحاب الولايات المتحدة من القيام بدورها التقليدي في تقديم المساعدات الخارجية العالمية، قد يساعد الصين على تقوية نفوذها بين الدول النامية، فإن السياسة التصادمية للإدارة الأميركية الجديدة التي تتبعها مع حلفائها الأوروبيين تُعطي بكين فرصة أكبر لتعزيز هذا النفوذ من خلال تقديم نفسها كشريك موثوق.
وأثناء المناظرة الرئاسية في سبتمبر 2024، قال ترمب: “لقد تعرضنا للخداع من جانب الدول الأوروبية سواء في التجارة أو في حلف الناتو.. إذا لم تدفعوا، فلن نتمكن من حمايتكم”.
واستكمالاً لسياسته الهجومية، اصطدم نائبه جيه دي فانس في “مؤتمر ميونخ للأمن”، الأسبوع الماضي، مع عدد من القادة الأوروبيين والألمان بسبب تصريحاته التي قال فيها إن “التهديد الذي يقلقني أكثر من أي شيء آخر فيما يتعلق بأوروبا ليس روسيا، ولا الصين، ولا أي طرف خارجي آخر.. ما يقلقني هو التهديد من الداخل”.
كما غازل فانس اليمين الألماني قبل الانتخابات المقبلة، إذ التقى زعيمة حزب “البديل من أجل ألمانيا”، أليس فايدل، التي تصنفها سلطات برلين على أنها سياسية “متطرفة”.
ولم يكن نائب الرئيس الأميركي وحده من أثار القلق خلال المؤتمر، إذ زاد مبعوث ترمب إلى أوكرانيا، كيث كيلوج، من حالة التوتر، السبت، بتصريحه أن أوروبا لن تشارك في محادثات السلام بشأن أوكرانيا، رغم الحديث عن احتمال نشر قوات أوروبية على الأراضي الأوكرانية.
كما ألمح فانس ومسؤولون آخرون إلى أن ضمان الأمن الأميركي لأوروبا لم يعد أمراً مسلماً به، مما عزز مخاوف القادة الأوروبيين بشأن مستقبل التحالف الأطلسي.
في المقابل، كانت الصين تأخذ عدة خطوات لاستثمار هذه التوترات في تعزيز علاقاتها مع أوروبا. ففي خطابه الرئيسي الجمعة، تحدث وزير الخارجية الصيني وانج يي مباشرة بعد فانس، موجهاً رسالة واضحة إلى الأوروبيين، مؤكداً أن بكين ترحب بدور ألمانيا في النظام متعدد الأقطاب، وهي مستعدة لتعميق التعاون الشامل مع أوروبا “لتوفير المزيد من اليقين للعالم المضطرب”.
وعلى خلاف موقف فانس العدائي تجاههم، قدم وانج الصين، خلال سلسلة اجتماعات عقدها مع كبار القادة الأوروبيين، كشريك استراتيجي، قائلاً إن الصين تعتبر ألمانيا والاتحاد الأوروبي ككل شريكين استراتيجيين، وتريد تعاوناً أقوى معهما بروح التجارة الحرة والتعددية.
ورغم أن تصريحات وانج لم تكن جديدة، جاءت لهجته أكثر جاذبية مقارنة بلغة فانس، وهو ما جعل الباحث في مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي إسحق كاردون يرى أن الصين تحاول استغلال التوترات بين ضفتي الأطلسي لتعزيز علاقاتها مع أوروبا وملء الفراغ الذي قد يتركه تراجع الالتزام الأميركي بالأمن الأوروبي.
ورغم العلاقات المتوترة بين الاتحاد الأوروبي وبكين، إلا أن بعض القادة الأوروبيين، الذين تأثروا بسياسات ترمب، باتوا أكثر انفتاحاً على تعزيز العلاقات مع الصين.
وقالت أستاذة السياسة روزماري فووت إن التحولات التي طرأت على العلاقات بين الولايات المتحدة وأوروبا، والتي بدأت خلال الإدارة الحالية، تدفع بعض الدول الأوروبية إلى البحث عن علاقات أفضل مع الصين، “ليس لأن بكين تُدفع لتصبح لاعباً أكثر نفوذاً، لكن لأن هذه الدول ترى في الصين شريكاً يمكن التعامل معه في ظل التغيرات التي تشهدها علاقتها بواشنطن”.
وكانت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين خففت بشكل ملحوظ من لهجتها المتشددة تجاه الصين، وأشارت إلى إمكانية تعزيز العلاقات التجارية وحتى التوصل إلى “إيجاد اتفاقيات” معها.
العداء القديم مستمر
وتسعى الصين إلى تعزيز مكانتها كقوة عالمية في مواجهة الولايات المتحدة، وتشهد العلاقة بينهما توترات بسبب قضايا التجارة، والتكنولوجيا، وحقوق الإنسان، والنفوذ الجيوسياسي.
ورغم إعطاء الولايات المتحدة إشارات بأن انسحابها سيفسح المجال للصين لملء هذا الفراغ، فإن يون صن، المتخصصة في السياسة الخارجية الصينية والعلاقات بين واشنطن وبكين، ترى أن الوضع ليس بسيطاً أو واضحاً بحيث يمكن تصنيفه ضمن ثنائية “أبيض أو أسود”، أي أنه لا يمكن القول إن الولايات المتحدة تنسحب بالكامل، أو أن الصين مستعدة تماماً لملء الفراغ.
وأشارت صن إلى أن الولايات المتحدة تُعيد توجيه أولوياتها، إذ تسعى إلى تقليل مشاركتها في بعض المجالات من أجل التركيز على التنافس مع الصين، “الذي تعتبره التحدي الاستراتيجي الأكبر”.
وأضافت أنه في المقابل، قد تستغل الصين بعض الفرص لتعزيز نفوذها، لكنها ليست مستعدة لتقديم مساعدات واسعة النطاق بنفس الطريقة التي فعلتها الولايات المتحدة.
الموقف المعقد الذي شكلته إدارة ترمب لا يعني أن الحكومة الأميركية لا تعتبر أن صعود الصين يشكل تحدياً وتهديداً لسيادتها، على حد قول كاردون، الذي يشير إلى أن الولايات المتحدة لا تترك تماماً المنافسة مع الصين أو التوسع في نفوذها العالمي، لكنه حذّر من أن كثيراً من المسؤولين في الإدارة الأميركية الذين يتبنون سياسة صارمة تجاه الصين، الذين يُعرفون بـ”الصقور”، يواجهون تحديات كبيرة في تنفيذ هذه السياسة بشكل فعال.
وأوضح كاردون أن التحدي يكمن في أنه إذا استمرت الولايات المتحدة في اتباع سياسات قد تضر بعلاقاتها الاقتصادية والأمنية مع حلفائها وشركائها الدوليين، ستجد نفسها في موقف أضعف عندما تحاول مواجهة الصين، و”سيكون لديهم أدوات أقل فعالية للقيام بذلك”.
من جانبها، أشارت فووت، الزميلة في مركز الصين، إلى أن الولايات المتحدة تدرك تماماً التهديدات والتحديات التي تشكلها الصين على مستوى العالم، ولذلك تسعى للحفاظ على هيمنتها ونفوذها في مناطق تعتبرها حيوية لاستراتيجيتها الأمنية والاقتصادية، “حتى لو تراجعت وانسحبت تنموياً، واستخدمت خطاباً عدائياً مع حلفائها”.
ورجحت فووت أن الولايات المتحدة ستستخدم أسلوب الضغط على الدول ذات الأهمية الاستراتيجية أو الاقتصادية لكي لا تقترب من الصين أو تُقيم علاقات وثيقة معها، وتقول: “يمكن فقط التفكير في كيفية تعامل الإدارة الأميركية الجديدة مع بنما وكندا والمكسيك.. ستضغط أميركا بنفس الطريقة”.