تحول سياسي لافت وتقدم كبير حققه عضو الجمعية التشريعية في نيويورك زهران ممداني في سباق رئاسة بلدية المدينة الأميركية، رغم مواقفه العلنية المناهضة لإسرائيل، ما اعتبر مؤشراً على حدوث تغيرات عميقة داخل الحزب الديمقراطي بشأن الموقف تجاه تل أبيب.
وذكرت صحيفة “نيويورك تايمز”، أن هذا التغير يأتي في وقت تراجعت فيه شعبية إسرائيل بشكل ملحوظ في الأوساط الديمقراطية الأميركية على خلفية الحرب في غزة، الأمر الذي يهدد تقليداً سياسياً استمر لعقود من الدعم الواسع لإسرائيل داخل الحزب، خاصة في مدينة نيويورك التي تضم أكبر تجمع يهودي خارج إسرائيل.
ووفقاً لاستطلاعات الرأي، حصل ممداني على تأييد يصل إلى 20% من الناخبين اليهود الديمقراطيين، بدعم من شخصيات بارزة أبرزهم المراقب المالي للمدينة براد لاندر، وعضو الكونجرس جيرولد نادلر، الذي أعلن دعمه لممداني، مشيراً إلى أنه سيعمل معه على “مكافحة جميع أشكال الكراهية والتعصب”.
إلا أن هذا المشهد أثار قلقاً واسعاً في أوساط الجالية اليهودية داخل الولايات المتحدة، التي أعربت عن مخاوفها من تراجع الاهتمام بأمنها وهواجسها وسط تصاعد الخطاب المناهض لإسرائيل داخل بعض دوائر الحزب الديمقراطي.
واعتبرت المبعوثة الأميركية الخاصة لمكافحة معاداة السامية ديبورا ليبستادت، أن فوز ممداني يمثل “ضربة موجعة”، وقالت، إنه “شعور بأن المخاوف العميقة يمكن أن تُهمّش بهذه السهولة من قبل هذا العدد الكبير من الأشخاص”.
وتُظهر بيانات مركز “بيو” للأبحاث، أن قرابة 70% من الديمقراطيين لديهم نظرة سلبية تجاه إسرائيل، مقابل 37% فقط من الجمهوريين، في مؤشر واضح على تعمق الانقسام داخل المجتمع الأميركي بشأن القضية الإسرائيلية.
وتصاعدت هذه التوترات، التي سعى الرئيس دونالد ترمب لاستغلالها مراراً، داخل المجتمع اليهودي نفسه، خاصة بين الأجيال المختلفة، إذ بات اليهود الأصغر سناً والأكثر ميلاً للتوجهات التقدمية أكثر انتقاداً لتل أبيب، على عكس الأجيال الأكبر سناً التي ارتبطت هويتها الدينية تقليدياً بدعم إسرائيل.
وكانت هذه الانقسامات حاضرة بوضوح في الانتخابات التمهيدية الأخيرة.
وقال يهودا كورتزر، رئيس معهد “شالوم هارتمن”، وهو مركز أبحاث وتعليم يهودي تأسس في إسرائيل، وله أيضاً فرع في نيويورك، إنه “من المستحيل أن تقول الجالية اليهودية بشكل موحد، نحن نعارض هذا المرشح، بينما هناك مؤيدون له من داخلها”.
وأضاف: “عندما يكون لديك ظاهرة مثل هذه، يصبح من الصعب فصل الطبقات المختلفة. ما حجم هذا الانقسام المرتبط بالأجيال؟، وما مدى ارتباطه باتساع الاستقطاب السياسي؟”.
وبالنسبة لكثير من الناخبين في نيويورك، بمن فيهم اليهود، جاءت خياراتهم مدفوعة بقضايا محلية مثل غلاء المعيشة، أو برغبتهم في منع عودة الحاكم السابق أندرو كومو، الذي استقال وسط فضيحة.
وهناك كثيرون إما اتفقوا مع مواقف ممداني تجاه إسرائيل، أو قرروا التغاضي عنها، في حين رفض آخرون ما اعتبروه محاولة من كومو لاستغلال قضية معاداة السامية كورقة سياسية.
وقال عضو مجلس النواب الأميركي جيرولد نادلر لـ”نيويورك تايمز”، إنه تحدث مع ممداني، معتبراً أن نتائج الانتخابات تظهر أن “معظم اليهود، على الأقل في مدينة نيويورك، لا يرون أنه معادٍ للسامية”.
وذكر أن عضو الكونجرس، أنه شعر بالاطمئنان بعد حديثه معه، ومستعد لمساعدته في كسب ثقة الناخبين اليهود.
وأكد ممداني مراراً رفضه لمعاداة السامية، مشدداً على أنه إذا فاز، سيزيد التمويل المخصص لمكافحة جرائم الكراهية.
وفي خطاب ألقاه ليلة فوزه، أشار ممداني إلى المخاوف داخل الجالية اليهودية قائلاً: “هناك ملايين من سكان نيويورك لديهم مشاعر قوية تجاه ما يحدث في الخارج”.
وأضاف: “بينما لن أتخلى عن قناعاتي ومبادئي المبنية على المطالبة بالمساواة والكرامة لكل من يسير على هذه الأرض، أعدكم بأن أبذل جهداً أكبر لفهم وجهات نظر من أختلف معهم، وأن أتعمق في معالجة هذه الخلافات”.
ولطالما كان الناخبون اليهود قوة حاسمة في انتخابات المدينة. وبحسب تقديرات شركة “إنجيج فوتيرز يو إس”، المتخصصة في تحليل البيانات الانتخابية، يمثل الناخبون اليهود نحو 13% من أصل 4.6 مليون ناخب مسجل في نيويورك، استناداً إلى تحليل الأسماء ذات الطابع اليهودي.
وساهم تصويت اليهود الأرثوذكس، الذين يصوتون غالباً ككتلة موحدة وفقاً لتوجيهات حاخاماتهم، في فوز العمدة الحالي إريك آدامز خلال انتخابات عام 2021.
لكن شريحة واسعة من اليهود في المدينة ليست متدينة أو منخرطة في المؤسسات الدينية، مثل المعابد والمدارس اليهودية والمنظمات الاجتماعية، وهؤلاء أقل ميلاً إلى اعتبار إسرائيل أولوية في تصويتهم، أو حتى إلى دعم وجودها كدولة يهودية بشكل تلقائي.
من جهة أخرى، وجد الكثير من الشباب في نيويورك، من خلفيات متنوعة، أن ممداني يمثل صوتاً جديداً ملهماً. فهو ابن لمهاجرين مسلمين من أصول هندية، وُلد في أوغندا حيث نشأ والده، ما جعله يجسد صورة حديثة للحلم الأميركي بنسخته النيويوركية، بحسب “نيويورك تايمز”.
لكن رغم ذلك، ظلت تساؤلات كبيرة تحيط بمواقفه من إسرائيل ومعاداة السامية، خاصة في ظل تصاعد جرائم الكراهية ضد اليهود في المدينة.
وأشار تقرير صدر عام 2024 عن المراقب المالي لولاية نيويورك توماس دي نابولي، إلى أن جرائم الكراهية ضد اليهود ارتفعت بنسبة 89% بين عامي 2018 و2023.
وجاءت هذه الانتخابات التمهيدية في لحظة حساسة جداً بالنسبة لليهود الأميركيين، الذين يعارضون ترمب بقوة بسبب استغلاله لقضية معاداة السامية من أجل مهاجمة الجامعات الأميركية والنشطاء، لكنهم في الوقت نفسه يشعرون بقلق متزايد من مظاهر العنف التي باتت تستهدف اليهود.
وقال الحاخام إليوت كوسجروف، رئيس كنيس “بارك أفينيو” الشهير في نيويورك، خلال خطبة مؤثرة عن تداعيات سباق الانتخابات على الجالية اليهودية: “يهود نيويورك يشعرون بحق بأنهم في خطر. ومن غير المعقول أن تكون المدينة التي تضم أكبر تجمع يهودي خارج إسرائيل، موطناً لليهود وهم يشعرون بهذا القدر من الهشاشة”.
ولفت إلى أن نيويورك أصبحت في “أماكن عديدة غير مرحبة، ليس فقط تجاه التعبير العلني عن الصهيونية، بل تجاه اليهودية نفسها. والأسوأ أن هذا الواقع قد يتفاقم، بل وقد يحصل على شرعية رسمية”.
وأثارت مواقف ممداني استياءً كبيراً لدى العديد من القيادات اليهودية، خاصة بسبب رفضه إدانة شعار “عولمة الانتفاضة”، الذي يرفعه بعض الناشطين الفلسطينيين. فبينما يعتبره أنصار القضية الفلسطينية شعاراً للتحرر، يرى كثير من اليهود أنه دعوة صريحة للعنف.
وقالت ديانا فيرسكو، كبيرة حاخامات كنيس “فيليدج” في مانهاتن ومؤلفة كتاب عن معاداة السامية: “لقد شهدت الجالية اليهودية مراراً كيف يتحول الخطاب العنيف إلى عنف فعلي. ولهذا فإن وجود مرشح لمنصب العمدة لا يدين هذا النوع من الخطاب أمر مقلق للغاية”.
وأعربت عن أملها بأن يصبح ممداني أن “أكثر حساسية وإدراكاً لاحتياجات شريحة كبيرة من السكان الذين سيقودهم”.