اخر الاخبار

ترمب بمواجهة هارفارد.. معركة ضد النخب أم حملة لضبط الجامعات؟

700 كيلومتر هي المسافة بين باحة جامعة هارفارد العريقة بمدينة كامبريدج والبيت الأبيض في واشنطن، لكن الهوة الأيديولوجية بينهما أصبحت أوسع من أن تُقاس بخريطة. وعلى عكس ولاية الرئيس دونالد ترمب الأولى التي عرفت توتراً رمزياً بين ساكن البيت الأبيض آنذاك والنخبة الأكاديمية؛ بسبب سياساته الشعبوية، فقد تحول التوتر منذ بداية ولايته الثانية إلى مواجهة مباشرة قد تضطر المحكمة العليا الأميركية للفصل فيها.

وصعّد الرئيس ترمب، الجمعة، من ضغوطه على هارفارد بتهديده بإلغاء الإعفاءات الضريبية التي تستفيد منها الجماعة، بعدما كان في وقت سابق أمر بتجميد أكثر من مليار دولار من التمويل الفيدرالية للجماعة الأغنى والأقدم في الولايات المتحدة، ضمن حملة شاملة لفرض رؤيته الأيديولوجية على الجامعات الأميركية النخبوية، مستخدماً المليارات من الدولارات التي تتلقاها هذه المؤسسات من الحكومة الفيدرالية كوسيلة ضغط لإجبارها على التغيير.

ويتيح قانون الإيرادات الذي تم إقراره عام 1909 للمنظمات غير الربحية التي تعمل فقط لأغراض دينية أو خيرية أو تعليمية، الاستفادة من وضع الإعفاء الضريبي، حتى تتمكن من الاستمرار في خدمة الصالح العام.

وكان البيت الأبيض فتح تحقيقاً للتأكد من أن المنح، التي تتجاوز قيمتها 8.7 مليارات دولار والتي تتلقاها جامعة هارفارد من مؤسسات مختلفة، تُستخدم بما يتوافق مع قوانين الحقوق المدنية، وقررت إدارة ترمب تجميد تمويل بقيمة 2.2 مليار دولار مخصص لجامعة هارفارد، بالإضافة إلى تعليق عقود بـ60 مليون دولار.

وفي مواجهة هذا التهديد، أعلنت هارفارد رفضها مطالب ترمب المتعلقة “بإجراء إصلاحات داخل الجامعة”، ورفعت في أواخر أبريل، دعوى قضائية ضد إدارة ترمب لمنع الحكومة من تجميد المنح الفيدرالية التي تم تخصيصها للجامعة.

ما سبب المواجهة بين ترمب وهارفارد؟

الحملة التي تقودها إدارة ترمب ضد هارفارد وعدد من الجامعات الأميركية المرموقة الأخرى تقودها فرقة عمل تابعة لوزارة العدل، يقودها المحامي في قضايا الحقوق المدنية والمعلق السابق في “فوكس نيوز” ليو تيريل، بالتعاون مع المسؤول البارز في إدارة ترمب ستيفن ميلر وآخرين. وتم تشكيل هذا الفريق في فبراير الماضي، بموجب أمر تنفيذي بهدف التصدي لمعاداة السامية في الجامعات في ظل الحرب بين إسرائيل وحماس.

وقالت فرقة العمل إنها تستهدف الجامعات التي أخفقت في توفير الحماية الكافية للطلاب اليهود خلال احتجاجات مؤيدة لفلسطين، التي عطّلت الحرم الجامعي العام الماضي. 

غير أن حملة الإدارة الأميركية تجاه الكليات والجامعات الكبرى لها جذور أعمق من الاضطرابات المرتبطة بالمظاهرات المؤيدة لفلسطين وحدها، فمن وجهة نظر الرئيس ترمب، هارفارد ليست مجرد مؤسسة تعليمية، بل رمزاً لنخب ثقافية انفصلت عن “القيم الأميركية الحقيقية”.

وكما كتب ستيفن كولينسون في CNN، فإن هارفارد الخصم المثالي لسردية ترمب الشعبوية، فهي مؤسسة نخبوية ترمز إلى المؤسسة الثقافية والفكرية التي طالما انتقدها ترمب. من خلال مواجهته لهارفارد، يقدم ترمب نفسه كقادم من الخارج يتحدى مراكز القوة المعزولة التي تشكل الفكر الأميركي، وهي معركة سياسية تلقى صدى لدى العديد من مؤيديه، وتُظهر الاستطلاعات تزايد عدم الثقة في التعليم العالي، خاصة بين الجمهوريين.

وسعت إدارة ترمب للضغط على جامعة هارفارد لاعتماد تنوع أوسع في الآراء والأفكار السياسية داخل حرمها، وإلغاء برامج الشمول والتنوع في الجماعة، وفق قائمة المطالب التي أرسلها الفريق لإدارة هارفارد.

وينظر المحافظون منذ عقود إلى النخب التعليمية العليا بريبة، منزعجين من سياسات القبول المبنية على التمييز الإيجابي، وارتفاع تكاليف التعليم، وآراء الأساتذة الليبراليين، وانتشار مبادرات التنوع والعدالة والمساواة داخل الحرم الجامعي.

ويقول كثير من المحافظين إن وجهات نظرهم تم تهميشها في قاعات المحاضرات، ويرون أن الجامعات المرموقة أصبحت حاضنات لما يُعرف بـ”الوعي الليبرالي المفرط”. وقد عبّروا عن رغبتهم في أن تركّز الجامعات على البرامج الأكاديمية التي تقود الطلاب نحو وظائف ضرورية للاقتصاد.

“معاداة السامية”.. وسيلة لتحقيق غاية أكبر

المحللة السياسية الديمقراطية والمحامية في لوس أنجلوس، جيمي إي. رايت، قالت إن “صدام ترمب مع هارفارد والجامعات النخبوية الأخرى يتجاوز مجرد الرد على معاداة السامية في الحرم الجامعي؛ بل هو ضربة محسوبة ضمن ترسانته الشعبوية الأوسع”.

وذكرت رايت لـ”الشرق”، أن ترمب “يستهدف المؤسسات المرموقة ذات الموارد الجيدة التي تقع في رود آيلاند وماساتشوستس ونيويورك. هذه الولايات زرقاء وتصوت للديمقراطيين. وهذه مؤسسات تحمل أسماء مشهورة يتعرف عليها كثير من الأميركيين. إنها مؤسسات قضى الرئيس عامين يحاول أن يضعها في قوالب نمطية ويصورها على أنها بعيدة عن القيم الأميركية”.

وأشارت إلى أنه بالرغم من “أن المخاوف من معاداة السامية حقيقية وملحة، إلا أن الطريقة التي يؤطر بها ترمب المسألة تركّز على تصوير الجامعات النخبوية، وخاصة هارفارد، كمراكز للنخبوية الليبرالية المنفصلة عن أميركا الحقيقية، كما يراها هو”.

وأضافت: “هذا الخطاب يحرك مشاعر ساخطة متراكمة لدى القاعدة المحافظة من الناخبين، التي ترى في هذه الجامعات كيانات أيديولوجية متجانسة تُقصي الفكر المحافظ”.

وأقرت رايت بوجود ما يُعرف بـ”التكتل الأيديولوجي” في الأوساط الأكاديمية، لكنها ترى أن مسألة ما إذا كان ذلك يبرر التدخل السياسي تظل قضية معقدة ومثيرة للجدل.

وأضافت أن التدخل المباشر من قبل رئيس أميركي في إدارة الجامعات كان نادراً، وغالباً ما يُقابل بالرفض، لكن ما يميز نهج ترمب هو صراحته الشديدة واستعداده لهدم أعراف الاستقلال الأكاديمي، وإذا تصاعد هذا النهج، فقد يؤدي إلى تقويض حرية الجامعات وإجبارها على تعديل سياساتها اتقاءً لردود الفعل السياسية، بحسب رايت.

الخبير الاستراتيجي الجمهوري ماثيو إن. كلينك، يتفق مع فكرة أن مساعي ترمب تتجاوز قضية معاداة السامية، قائلاً إن “تحركات الرئيس الأميركي ليست فقط استجابة لمعاداة السامية، بل جزء من استراتيجية أوسع لتسليط الضوء على ما يعتبره تحوّل الجامعات النخبوية في أميركا إلى “مصانع تلقين لأيديولوجيا اليسار المتطرف”.

وقال كلينك لـ”الشرق”، إن “هذه الجامعات لم تعد تحاول حتى تحقيق توازن فكري، بل تسمح من خلال ممارساتها لعناصر راديكالية بطرح وجهات نظر معادية لقيم الولايات المتحدة”.

وأضاف: “إن رؤساء جامعات مثل هارفارد ومعهد MIT وبنسلفانيا فشلوا فشلاً ذريعاً في جلساتهم أمام الكونجرس، إذ لم يتمكنوا حتى من إدانة الخطابات المعادية للسامية التي تسببت في تهديدات وأضرار بدنية لطلاب أميركيين يهود”.

هل أصبحت هارفارد مصنعاً لليبراليين؟

التوترات بين الجامعات المرموقة والساسة المحافظين ليست بالأمر الجديد على الولايات المتحدة، فقد ساعد تصوير أساتذة جامعة كاليفورنيا في بيركلي كمتطرفين، الجمهوري رونالد ريجان على الفوز بانتخابات حاكم ولاية كاليفورنيا عام 1967. 

وخلال الولاية الأولى لترمب، كان من بين أبرز منتقديه أكاديميون من جامعتي هارفارد وييل، وصفوه بالفاشي وبأنه يشكل تهديداً للديمقراطية.

لورانس كروب وهو أكاديمي ومسؤول سابق في إدارة الرئيس رونالد ريجان، رأى أنه على الرغم من أن الضغوط السياسية على الجماعات ليست أمراً جديداً على الولايات المتحدة، فـ”العداء الذي تُظهره الإدارة الحالية للجامعات بلغ مستويات غير مسبوقة”.

وقال كروب لـ”الشرق”، إن “التعليم العالي في أميركا بعيد كل البعد عن الصورة النمطية كمجال غارق في السجالات الحزبية والخطاب المتطرف”، موضحاً أن ما توصلت إليه دراسات واسعة بشأن ما يُعرف بـ”التنشئة السياسية” تفيد بأن تكوين القناعات السياسية من خلال المنظور المحافظ أو الليبرالي في سن مبكرة، لذلك عندما ينخرطون في الجامعات تكون تلك الأفكار مرسخة عندهم بالفعل.

وأضاف: “الأساتذة الجامعيون ليسوا سحرة قادرين على تحويل المحافظين إلى ليبراليين، أو العكس”، موضحاً أنه على الرغم من أن كثير من الناخبين من فئة طلاب الجامعات يميلون للحزب الديمقراطي، مقارنة بالأجيال السابقة، فإن “هذا الجيل يستقي معلوماته من الإنترنت ومؤثريه أكثر من الأحزاب أو المؤسسات السياسية وليس الجامعات”.

واعتبر كروب أن مطالبة الإدارة الأميركية بوضع أقسام التدريس والبحث تحت “الوصاية السياسية” تعني استبدال تقييم الزملاء الأكاديميين بإشراف سياسي، وهو أمر يُقوّض استقلال الجامعة.

كما أن الأمن القومي الأميركي يعتمد جزئياً على الأبحاث الجامعية في مجالات التكنولوجيا المتقدمة، التي تساعد في الحفاظ على التفوق العسكري الأميركي أمام القوى الصاعدة.

غير أن الخبير الاستراتيجي الجمهوري ماثيو إن. كلينك، يشدد على أن هارفارد وغيرها من الجامعات المرموقة “تعتمد سياسات توظيف تميّز لصالح الأيديولوجيات اليسارية المتطرفة، على عكس ما ينص عليه القانون الأميركي وقوانين الولايات”.

وأشار كلينك إلى أن أي أستاذ يحاول تقديم منظور محافظ “يُعزل ويُطرد سريعاً”، مضيفاً أن “أكثر المواقف تقدمية تُقدَّم للطلاب باعتبارها أفكاراً سائدة”، بينما يُثبّط النقاش الحر والمخالف.

وتابع: “من يأخذ أموالاً فيدرالية، كما تفعل هارفارد بشكل كبير، عليه أن يلتزم بالقوانين الفيدرالية. أسطورة الاستقلال الأكاديمي مجرد وهم، فالحكومة الفيدرالية أثّرت وستستمر في التأثير على الجامعات”.

تحديات قضائية

قانونياً، ما زالت المعركة جارية بين البيت الأبيض وهارفارد، وتواجه إدارة ترمب دعاوى قضائية تتهمها بتجاوز صلاحياتها وخرق الدستور، لكن سياسياًَ يرى كثيرون أن ترمب قد حقق فوزاً فعلياً، فقد باتت الجامعات تتصرف تحت وطأة الضغط، وبدأت تعيد النظر في خطابها وهويتها.

وتوقع الاستراتيجي الجمهوري كلينك أن تصل هذه المعركة بشكل أو بآخر إلى المحكمة العليا الأميركية، قائلاً: “أعتقد أن أعلى سلطة قضائية في البلاد ستتدخل في النهاية لوضع حدود واضحة لكل من الجامعات”.

أما المحللة الديمقراطية رايت، فترى أن مسألة ما إذا كان ترمب سيحقق “انتصاراً” في هذه المواجهة، أمر ثانوي، إذ إن الواقع يُظهر أنه قد نجح بالفعل في تغيير ساحة المعركة، وجرّ الجامعات والمانحين والوكالات الفيدرالية إلى تصادم مضطرب بين القانون والسياسة والثقافة.

وأقدم الرئيس الحالي لجامعة هارفارد على إصلاحات لإرضاء الإدارة الجديدة. فمنذ تسلمه المنصب عقب استقالة كلودين جاي، اتخذ جاربر خطوات جريئة لإعادة تقييم السياسات الثقافية داخل الجامعة، ضمنها إلغاء اختفالات التخرج الخاصة بمجموعات مثل السود واللاتينيين والمثليين، والحد من تصريحات الجامعة في القضايا السياسية التي لا تمس وظائفها الأساسية، بالإضافة إلى التراجع عن اشتراط “بيانات الالتزام بالتنوع” في طلبات التوظيف وتعديل إجراءات التعامل مع الاحتجاجات الطلابية.

غير أن هذه القرارات أثارت أيضاً غضب نشطاء وطلاب رأوا فيها “تنازلاً سياسياً تحت الضغط”. كما كتب طلاب في “هارفارد كريمسون”: “لن نربح في معركة ضد التسلط السياسي إذا ركزنا على الصورة الخارجية بدل الدفاع عن القيم”.

وأقرت جامعة هارفارد في تقريرين أصدرتهما الأسبوع الماضي عن تعرض طلاب يهود ومسلمين للتعصب والإساءة خلال الاحتجاجات التي شهدتها الجامعة الواقعة بولاية ماساتشوستس العام الماضي، كما شعر بعضهم بأنهم منبوذين بسبب التعبير عن آرائهم السياسية. 

التقريران، اللذان بدأ إنجازهما في يناير 2024 أي قبل عام من تولي ترمب للرئاسة، وجدا أن 47% من المسلمين في الجماعة و15% من اليهود لا يشعرون بالأمان في الحرم الجامعي.

كما شعر 92% من المسلمين و61% من اليهود بوجود عواقب أكاديمية أو مهنية للتعبير عن معتقداتهم السياسية.

وبحسب فريق العمل المعني بمعاداة السامية، أصبح الحرم الجامعي في أواخر عام 2023 بالنسبة للكثيرين “ما بدا وكأنه مساحة للتعبير غير المقيد عن التضامن المؤيد للفلسطينيين والغضب تجاه إسرائيل، وهو الغضب الذي شعر العديد من الطلاب اليهود وخاصة الإسرائيليين أنه موجه ضدهم أيضاً”. 

وقدم التقريران توصيات بضرورة مراجعة الجامعة لقواعد القبول والتعيين والمناهج وبرامج التوجيه والتدريب، بالإضافة إلى تغيير إجراءاتها التأديبية. وشجعا أيضاً على تقديم المزيد من الفصول الدراسية عن “إسرائيل/فلسطين والصراع الإسرائيلي-الفلسطيني”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *