كطالبة جامعية في جامعة بكين، إحدى أرقى الجامعات في الصين، كانت كريستال تعرف منذ البداية أنها تريد أن تنهي مسارها الأكاديمي في إحدى كبريات شركات التكنولوجيا أو المال في البلاد.
وخلال سنوات دراستها، بذلت كريستال، التي تحدثت بشرط ذكر اسمها الأول فقط خوفاً من تعرضها لعقوبات من جهة عملها بسبب حديثها إلى الصحافة، كل ما في وسعها لتجعل نفسها مؤهلة للتوظيف، حسبما نقلت “واشنطن بوست”.
كما شاركت في مسابقات دراسية تنظمتها شركة الاستشارات الإدارية الأميركية Bain & Company، حرصاً منها على إظهار تنوع قدراتها إلى جانب تخصصها في العلوم الإنسانية. كما أتمّت أربع فترات تدريبية في شركات تكنولوجيا، من بينها ByteDance، الشركة المالكة لتطبيق TikTok، وRedNote، النسخة الصينية من إنستجرام.
وبحلول تخرجها في عام 2023، كانت كريستال ضمن العشر الأوائل في دفعتها من حيث الترتيب الأكاديمي. ومع ذلك، لم تترك لها سيرتها الذاتية اللامعة سوى خيار واقعي واحد بعد التخرج؛ متابعة دراسة الماجستير في الاقتصاد والإدارة، وتأجيل ولوجها لسوق العمل لعامين آخرين.
قالت كريستال: “لم يعد هناك أي ضمان للحصول على وظيفة بعد التخرج من الجامعة”، مضيفة: “عندما تخرجنا، كانت الآفاق الاقتصادية قاتمة للغاية. دفعة جامعة بكين لعام 2014 ربما حصلت على وظائف جيدة وعاشت حياة مريحة بغض النظر عن تخصصها، لكن الأمر ليس كذلك بالنسبة لنا”.
صعوبات بعد التخرج
تعكس حالة كريستال، الصعوبات التي يواجهها خريجو الجامعات حديثاً في الصين، حتى أولئك المتفوقين من نخبة المؤسسات التعليمية الصينية، أثناء محاولتهم شق طريقهم في سوق العمل الصيني بعد جائحة فيروس كورونا.
وقالت نانسي تشيان، أستاذة الاقتصاد في كلية كيلوج للإدارة بجامعة نورثويسترن: “المشكلة ليست فقط أن الخريجين الجدد من الجامعات المرموقة لم يتمكنوا من العثور على وظائف عالية الأجر، بل إنهم كانوا يبذلون جهداً هائلاً فقط للحصول على وظيفة ذات راتب متواضع، أي راتب لا يكفي للعيش باستقلالية”.
ومنذ أن تسببت جائحة كورونا في شلّ الاقتصاد الصيني، تلاها تعافٍ بطيء وغير منتظم، واجه الخريجون الجدد سوق عمل قاس تخللته موجات من التسريحات وتقليص الوظائف.
ومع تزايد أعداد الخريجين في كل يونيو، مقابل تقلّص عدد الوظائف المتاحة، بدأت الشركات الكبرى في القطاع الخاص التي تقدم أعلى الرواتب، في التركيز على توظيف الحاصلين على درجات الماجستير فقط، بحسب ما يؤكده الطلاب والخبراء.
ولطالما اتجه خريجو الجامعات الصينية المرموقة، إلى الدراسات العليا؛ فحوالي 80% من خريجي جامعة بكين سنوياً يقررون مواصلة تعليمهم. لكن على عكس السابق، حيث كان الهدف من الماجستير هو ضمان راتب أعلى في المستقبل، فإن الطلاب اليوم يسعون للحصول عليه فقط لتأمين فرصة عمل، وفقاً لما قالته تشيان لصحيفة “واشنطن بوست”.
مثل كريستال، كانت دونج تعلم أنها تريد العمل في القطاع الخاص، وأن الحصول على شهادة الماجستير لن يكون سوى البداية.
وقالت دونج، التي خاضت ست فترات تدريبية قبل أن تحصل هذا العام على وظيفة بدوام كامل في شركة “ميتوان”: “حتى قبل أن تبدأ البحث عن عمل، عليك أن تُكمل عدداً من التداريب، وتحصل على الشهادات المطلوبة، وتتدرب على الاختبارات التحريرية التي تجريها الشركات للمتقدمين، وغير ذلك الكثير”.
وقالت نانسي تشيان، إن الصين، منذ بدأت تحرير اقتصادها في أواخر سبعينيات القرن الماضي، شهدت فترات من البطالة. لكن “ما كان مفاجئاً حقاً في هذه الموجة من صعوبات سوق العمل هو أنها ضربت الفئة التي تُعد عادةً الأكثر أماناً، وهي فئة المتعلمين من النخبة”، حسب قولها.
وأضافت تشيان، أن العديد من الخريجين الجدد، الذين بذلوا جهداً كبيراً للوصول إلى مؤسسات النخبة، أصبحوا “محبطين”. وتابعت: “هناك سؤال يتردد: ما جدوى كل هذا؟ لماذا نعمل بجد؟ ربما يجب أن نستسلم فحسب”.
وفي السياق نفسه، قالت ليلي ليو، المديرة التنفيذية السابقة لمنصة توظيف إلكترونية صينية تضم نحو 100 ألف مستخدم، إن الباحثين عن العمل أصبحوا اليوم يطالبون بأكثر من مجرد وظيفة.
وأضافت: “توقعات الخريجين الجدد باتت متعددة الأوجه، من بيئة العمل، إلى القيم التي تتبناها الشركة، إلى الراتب، والمسافة من المنزل، والموقع الجغرافي. وإذا لم تُلبَّ هذه التوقعات، فإن كثيرين من الخريجين يتراجعون عن دخول سوق العمل ويعودون لمقاعد الدراسة”.
تصخم الشهادات الجامعية
وأشار تشي مينجياو، مؤسس والرئيس التنفيذي لشركة “رويجوا” للاتصالات، ومقرها بكين، إلى المشكلة الأوسع المتعلقة بتضخم الشهادات الجامعية في الصين. وقال: “عندما التحقتُ بالجامعة في عام 1992، كان جميع الخريجين بنسبة 100% يجدون وظائف بعد التخرج، ووظائف جيدة أيضاً”.
وأضاف: “أما اليوم، فالطلبة الحاصلون على الماجستير أصبحوا مثل خريجي الإجازة (البكالوريوس) في الماضي، وخريجو الإجازة الآن يُنظر إليهم كما كان يُنظر إلى خريجي التكوين المهني آنذاك”.
وبحسب تشي، فقد خفضت “رويجوا” عدد موظفيها من نحو 60 موظفاً قبل الجائحة إلى حوالي 20 موظفاً حالياً، ولم توظف أي شخص جديد خلال السنوات الماضية بسبب وضع الاقتصاد.
وأردف قائلاً: “إذا قررنا التوظيف مجدداً، فسوف نبحث عن خريجي الماستر. نحتاج إلى تطوير برمجياتنا، وحاملو شهادات الدراسات العليا يمتلكون مهارات تخصصية أكثر من حاملي شهادات الإجازة”.
وقد يؤدي تدهور سوق العمل، بحسب الخبراء، إلى عواقب ديمغرافية متسلسلة في الصين.
تقول نانسي تشيان: “الجيل القادم من المفترض أن يكونوا آباء وأمهات مستقبلاً، لكنهم لا يعتقدون أن لديهم المال الكافي للزواج وتكوين أسرة”.
وأضافت: “عندما تكون هناك بطالة واسعة بين الشباب، تنهار كل الآليات الطبيعية التي تتيح للناس أن يلتقوا، ويتعارفوا، ويتزوجوا، وينجبوا الأطفال، ويؤسسوا عائلات”.