في مستهل زيارته إلى الهند، قال وزير الخارجية الصيني وانج يي إن على الصين والهند أن تنظرا إلى بعضهما بنظرة الشريك وليس الخصم، في وقت تعيد فيه الجارتان بناء العلاقات التي تضررت بسبب الصدام الحدودي عام 2020، لكن خبراء رأوا أن تطبيع العلاقات بين البلدين لا يعني الصداقة، مشيرين إلى “انفتاح تكتيكي” بين الجانبين، وسط تقاطع المصالح والتنافس على النفوذ والتصنيع في آسيا.
وبدأ وانج يي زيارته التي استمرت ليومين، بلقاء بوزير الخارجية الهندي سوبرامانيام جايشانكار، في ثاني لقاء من نوعه بين الجانبين منذ عام 2020، حين أدت الاشتباكات الدامية في وادي جالوان بمنطقة لاداخ الشرقية، وهي منطقة حدودية متنازع عليها في جبال الهيمالايا، إلى انهيار كامل في العلاقات بين البلدين.
لكن العلاقات الآن تسير في “اتجاه إيجابي” نحو التعاون، بحسب ما قاله وانج يي قبيل لقائه رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، الثلاثاء. وقال وزير الخارجية الهندي جايشانكار إن الهند والصين تسعيان إلى “المضي قدماً بعد فترة صعبة في علاقاتنا”.
وخلال اللقاء مع مودي، اتفقت الصين والهند على استئناف الرحلات الجوية المباشرة بينهما، وتكثيف التدفقات التجارية والاستثمارية.
ومن المتوقع أن يضع الاجتماع، الأساس لأول زيارة لمودي إلى الصين منذ سبع سنوات في وقت لاحق من هذا الشهر، لحضور قمة منظمة شنغهاي للتعاون (SCO) في 31 أغسطس، وهي تكتل أمني إقليمي.
وتشير تقارير إلى أن مودي قد يجري أيضاً محادثات ثنائية مع الرئيس الصيني شي جين بينج، لكن لم يؤكد أي من الطرفين ذلك. ويُعد هذا التقارب بين البلدين الجارين ذا دلالة خاصة، إذ يأتي في ظل تدهور العلاقات الثنائية بين الهند والولايات المتحدة.
ويعمل العملاقان الآسيويان على تعزيز العلاقات بحذر على خلفية السياسة الخارجية للرئيس الأميركي دونالد ترمب غير القابلة للتوقع، إذ قام البلدان بسلسلة من الزيارات الثنائية رفيعة المستوى.
من الانتكاسة إلى النمو
ويبدو أن الطرفين حريصان على المضي بالعلاقة من النقطة التي خرجت فيها عن مسارها، إذ تحدث وزير الخارجية الصيني عن الانتكاسات السابقة وقال إن المرحلة الحالية تمثل “فرصة مهمة للتحسن والنمو” في العلاقات الثنائية.
وأكد مستشار الأمن القومي الهندي أجيت دوفال على “الاتجاه التصاعدي” في العلاقات الثنائية الذي أصبح “أكثر وضوحاً في الأشهر الأخيرة”.
وقال وزير الخارجية الهندي جايشانكار في كلمته الافتتاحية أمام الوفد الصيني: “الهند والصين تسعيان للمضي قدماً بعد فترة صعبة في علاقاتنا. يجب ألا تتحول الاختلافات إلى نزاعات، وألا تتحول المنافسة إلى صراع”.
وأضاف أن العلاقات بين البلدين تُدار بشكل أفضل على 3 أسس وهي: الاحترام المتبادل، والحساسية المتبادلة، والمصالح المتبادلة.
وعقد وانج يي خلال زيارته إلى نيودلهي الجولة الرابعة والعشرين من محادثات الممثلين الخاصين بشأن مسألة الحدود بين الهند والصين مع مستشار الأمن القومي الهندي أجيت دوفال. ويُذكر أن وانج ودوفال يمثلان بلديهما في ملف الحدود.
وتتنافس الهند والصين، وهما قوتان نوويتان، على النفوذ الأكبر في آسيا، لهما تاريخ طويل من النزاعات الحدودية.
وخاض البلدان حرباً شاملة عام 1962، واندلعت بينهما اشتباكات متفرقة، كان آخرها في يونيو 2020 على طول “خط السيطرة الفعلي” في وادي جالوان في لاداخ الشرقية، وأسفرت عن سقوط 20 جندياً هندياً على الأقل وأربعة جنود صينيين.
وعقب ذلك فرضت الهند حظراً على الاستثمارات الصينية في البلاد.
وللصين استثمارات كبيرة في الهند، من حصص في شركات ناشئة مثل “Paytm” و”Zomato” و”Swiggy” إلى مكونات إلكترونية ومواد خام ومنتجات جاهزة وأسمدة وآلات ثقيلة وغير ذلك.
مكاسب تجارية
ويقول أحد المطلعين على شؤون الصناعة والتجارة، فضل عدم الكشف عن اسمه، إنه بالنظر إلى ضخامة الاستثمارات الصينية في قطاعات مختلفة فقد مارست الشركات الفردية وجماعات الضغط التجارية ضغوطاً كبيرة على الحكومة خلال السنوات الماضية، وإن التغير في المشهد الجيو-اقتصادي صبّ في صالحهم.
وجاءت زيارة وزير الخارجية الصيني بعد أكثر من ثلاثة أشهر، على الاشتباك العسكري بين الهند وباكستان، حيث أفادت تقارير بأن الطائرات والمعدات الصينية الصنع سببت تحدياً كبيراً للقوة الجوية الهندية.
وفيما ثار غضب شعبي واسع في الهند ضد تركيا، التي استخدمت باكستان طائراتها المسيّرة في النزاع، وأدى ذلك لإلغاء عقد لشركة تركية، لكن لم يحدث هذا القدر من الغضب ضد الصين هذه المرة.
وقال السفير الهندي السابق لدى الصين أشوك كانثا لـ”الشرق” إن وانج يي ومودي ناقشا بالتأكيد قضايا ذات اهتمام مشترك وإقليمي وعالمي، وزيارة رئيس الوزراء الهندي المقبلة إلى قمة منظمة شنغهاي للتعاون.
وذكر مسؤولون أن المحادثات شملت القضايا الاقتصادية والتجارية، والتواصل بين الشعوب، وتبادل بيانات الأنهار، والتجارة الحدودية، والربط، والتبادلات الثنائية.
واتفق الجانبان على استئناف الرحلات الجوية، وبدأت الهند بإصدار تأشيرات سياحية للصينيين، وبدأت الصين بتوريد بعض الأسمدة وسمحت باستئناف رحلة الحج إلى كايلاش مانساروفار بعد توقف دام خمس سنوات.
ويُعد جبل كايلاش وبحيرة مانساروفار، جزءاً من جبال الهيمالايا، وهما مقدّسين لدى الهندوس والجاينيين والبوذيين.
هل ستفتح الهند الاستثمارات الصينية؟
ويدور حديث عن احتمال تعديل الهند سياساتها تجاه الاستثمارات الصينية. لكن كبير المستشارين الاقتصاديين في الهند ف. أ. ناجسواران قال إن الهند لن ترفع الحظر على الاستثمارات الصينية قريباً.
ومع أن الحظر الكامل فُرض بعد اشتباك لاداخ عام 2020، فإن الهند أجرت تعديلات جزئية على سياسات الاستثمار منذ عام 2017 عندما وقعت مواجهة عسكرية بين الهند والصين في دوكلام على حدود الهند-بوتان.
ويقول فينود شارما، المدير العام لشركة Deki Electronics: “يمكن أن نبدأ على الأقل بنسبة 24% من الاستثمار الصيني، حيث هناك مطالب بالحذر من جهات عديدة، لكن القرار يعود للحكومة”.
وتفيد تقارير محلية بأن الحكومة تدرس السماح بنسبة 24% من الاستثمارات الصينية في قطاع الإلكترونيات إذا تضمن ذلك نقل التكنولوجيا لشريك هندي.
وحالياً، يتم السماح بالاستثمارات على أساس كل حالة على حدة.
هل من تحسن في قضايا الحدود بين الهند وباكستان؟
يقول مانوج جوشي، الزميل في مركز أبحاث “مؤسسة أوبزرفر”، إن البلدين عالجا قضايا عدة على صعيد الحدود، مثل “العودة إلى الأوضاع الأصلية قبل 2020، مع بقاء بعض البنود قيد المعالجة”.
وبحسب التقارير، جرت 30 جولة من المحادثات بين الجانبين، 21 منها على مستوى القادة العسكريين لحل النزاع الحدودي الأخير.
ويشير جوشي إلى زيارات وزير الدفاع راجناث سينج ووزير الخارجية جايشانكار ومستشار الأمن القومي أجيت دوفال الأخيرة إلى الصين، قائلاً: “هناك حالة من الانفراج العام في العلاقات منذ فترة”.
وقال كانثا إن اللقاء رفيع المستوى بين قادة البلدين اتفق على إرساء الاستقرار في العلاقة وتشجيع التواصل بين الشعوب، وهو ما نراه يحدث الآن.
التجارة عبر الحدود
المتحدث باسم وزارة الخارجية الهندية راندهير جيسوال قال في مؤتمر صحافي إن الجانبين “اقترحا مؤخراً استئناف التجارة عبر نقاط محددة على الحدود، والموضوع قيد النقاش حالياً”.
وهذه النقاط هي ممر ليبو ليخ في أوتاراخاند، وممر شيبكي لا في هيماشال براديش، وممر ناثو لا في سيكيم.
ورغم أن حجم التجارة عبر هذه المسارات محدود مقارنة بالتجارة بين البلدين، فإنه يشجع التواصل بين شعبي البلدين. وبحسب السفارة الهندية في الصين بلغ إجمالي التجارة السلعية بين البلدين في السنة المالية الماضية 127.71 مليار دولار.
وقد فُسرت خطوات كثيرة في ضوء فرض الرئيس الأميركي دونالد ترمب رسوماً أساسية بنسبة 25% على الهند، مع إضافة 25% أخرى لشرائها النفط الروسي، ما أدى إلى إعادة تموضع في العلاقة الصينية-الهندية، غير أن دبلوماسياً هندياً سابقاً وخبيراً أمنياً لا يشاطران هذا الرأي.
وقال كانثا: “لا أظن أن هناك علاقة سببية لذلك، فعملية التقدم نحو التطبيع كانت جارية منذ وقت”.
كما أن الهند لم تتراجع حتى الآن عن شراء النفط الروسي، مؤكدة أن قراراتها “تسترشد بديناميكيات السوق وأمن الطاقة لـ 1.4 مليار هندي، وتستند بشكل راسخ إلى المصالح الهندية”.
لكن أوساط الأعمال ترى أن محاولة الهند وضع كل أوراقها في السلة الغربية، وسعيها للعب دور الدعامة الأميركية ضد الصين، لم ينجحا على الأقل في هذه المرحلة.
وبالأرقام، فإن الاستثمارات المباشرة من الصين إلى الهند بين عامي 2000 و2020 بلغت 1.8 مليار دولار، بينما بين 2015 و2019 استثمرت الشركات وصناديق رأس المال المخاطر الصينية 3.2 مليار دولار في الشركات الناشئة الهندية، وشاركت في جولات استثمارية مشتركة بقيمة 5.6 مليار دولار، وفقاً لسانتوش باي، الزميل الفخري في “معهد الدراسات الصينية” في نيودلهي.
علاوة على ذلك، هناك كمية كبيرة من المواد الخام والسلع الجاهزة يتم تبادلها بين البلدين.
ويقول محمد سقيب من “المجلس الاقتصادي والثقافي الهندي-الصيني” إن شركات ناشئة مثل “Paytm” و”Swiggy” وغيرها أغلقت أو على وشك الإغلاق بسبب غياب دفعات التمويل الثانية، كما اضطرت مصانع تعتمد على آلات مستوردة إلى التوقف أو البقاء خاملة لأشهر بسبب عدم قدرة المهندسين الصينيين على القدوم بسبب مشاكل التأشيرات.
وأضاف أن الشركات الهندية جربت بدائل للصين مثل فيتنام ولاوس وكوريا الجنوبية، لكن أياً منها لم ينجح، إما لارتفاع الكلفة أو لأن سلاسل الإمداد لم تكن بمستوى الصين.
وقالت مسؤولة في هيئة تجارية، طلبت عدم الكشف عن اسمها: “نحن بحاجة إلى الصينيين أكثر مما يحتاجون إلينا”.
ويرى فينود شارما أن بعض القيود قد تؤدي إلى نتائج إيجابية، ربما عبر نقل أفضل للتكنولوجيا يرفع من القيمة المضافة للمنتجات.
ويعتقد أن الصين بحاجة أيضاً إلى السوق الهندية الضخمة ذات الـ 1.4 مليار نسمة، وأن معدلات الأجور في الهند أفضل من جارتها الشمالية.
ويقر كانثا بوجود رغبة أكبر لدى الصين لتطبيع التجارة والاستثمار، لكنه شدد على ضرورة الحذر، مؤكداً أن هذه الاستثمارات “محدودة”، وأن الصين لن تسمح بزيادة القدرات التصنيعية للهند بما يخلق منافساً لها في آسيا.
وخلال اللقاء مع وانج، قال جايشانكار متطرقاً إلى إحدى العقبات: “أود أن أتابع معك بعض المخاوف التي أثرتها خلال زيارتي للصين في يوليو”.
وكان يشير إلى قيود الصين على تصدير الأسمدة والمعدات التقنية والمعادن النادرة، والتي تؤثر على الشركات الهندية.
ويقول كانثا إن الانفتاح من كلا الجانبين ذو “طبيعة تكتيكية”.
ويشاطر مانوج جوشي هذا الرأي، مؤكداً أن “التطبيع مع الصين لا يعني الصداقة، كما أن علاقة الهند بالولايات المتحدة قائمة أيضاً على تقاطع المصالح”.
لكن العلاقة بالتأكيد تسير في اتجاه تصاعدي، إذ دعت الهند رسمياً دول “بريكس” للتجارة بالعملات المحلية بدلاً من الدولار الأميركي.
وحتى الأسبوع الماضي، كانت البلاد تحاول لعب دور الموازن بين الولايات المتحدة وأصدقائها الآسيويين وحليفتها القديمة روسيا، وقال راندهير جيسوال في رده على سؤال صحافي إن “إلغاء الدولرة ليس جزءاً من أجندة الهند”.