– كريستينا الشماس

“يا أهل الحارة بشار الأسد سقط”، كلمات رددها مواطن سوري عندما سمع خبر سقوط نظام الأسد بعد عقود من الاستبداد، كلمات لا تزال تنبض بها قلوب السوريين.

وبعد عام كامل على السقوط “المفاجئ” للنظام السابق، لا تزال سوريا تعيش واحدة من أكثر المراحل تعقيدًا وتغييرًا في تاريخها الحديث.

ترصد في هذا التقرير، مشهد التحرير على المستوى الاجتماعي، وما حمله من مشاعر متناقضة، بين من رأى فيه ولادة جديدة، ومن تلقاه بارتباك وحذر، ومن وجد نفسه أمام ذاكرة موجعة تعود إلى السطح من جديد.

ففي الوقت الذي فتحت فيه الحرية أبوابها أمام معتقلين قضوا زهرة شبابهم خلف القضبان، كان ملايين السوريين في الخارج يهيئون أنفسهم لعودة حلم طال انتظاره، بينما بدأ المهجرون بالعودة إلى بيوتهم المهدمة، محاولين إعادة بناء حياة سرقتها الحروب.

وفي مقابل مشاعر النشوة والأمل، حمل سقوط النظام أيضًا مخاوف لدى بعض المكونات السورية، التي كانت تخشى المجهول.

من “رقم” إلى الحرية

لم يكن مجد المضحي (24 عامًا)، يتوقع يومًا أن يخرج من سجن “المزة” العسكري حيًا، فكل ما كان يصله من أخبار داخل السجن يشبه الموت نفسه، بحسب تعبيره.

يستذكر مجد، في حديثه ل، بصوت ما زال مرتجفًا رغم مرور سنة على التحرير، “كنت رقمًا لا أكثر، كانوا ينادونني برقم 37، لم يكن لي اسم، ولا وجه، ولا تاريخ”.

يستعيد مجد آخر الأيام التي قضاها في سجن “المزة”، “سجن الموت البطيء” بحسب ما أسماه، كان يعدّ الأيام التي بقيت له قبل تحويله إلى سجن “صيدنايا”، حيث كان من المقرر إعدامه هناك، أخبروه أن التنفيذ سيكون بعد أسبوع، ولكن الثوار وصلوا فجر الأحد.

يروي مجد لحظة تحريره من السجن التي كانت بالنسبة له حدثًا خارج التصور، “سمعنا الصراخ أولًا، ثم وقع الأبواب الحديدية وهي تُفتح، خرجت أركض، أركض بلا وعي في شوارع دمشق، والخوف يطاردني، كنت واثقًا أن سجانًا سيظهر فجأة ويعيدني إلى الداخل، أو يقتلني برصاصة على الطريق”.

عام واحد فقط كان كافيًا كي تتبدل حياة مجد، أنهى دراسته في المعهد الرياضي، وتخرج أخيرًا بعد سنوات كانت فيها الكتب ممنوعة عنه.

ورغم الحرية التي عادت إلى حياة مجد، فإنه كمعتقل سابق في سجون الأسد، لم يتلقَ أي دعم نفسي أو صحي سواء من الحكومة الحالية، أو من المنظمات الإنسانية، إلا أن ذلك لم يمنعه عن رسالته التي يريد أن يتركها في بناء سوريا الجديدة، “دعونا نكمل الطريق معًا، سوريا لنا جميعًا، وإذا لم نوحد أيدينا لن نستطع أن نبني شيئًا”، قال مجد المضحي.

كتب يوم التحرير عمرًا جديدًا لعشرات المعتقلين الذين نجوا من سجون الأسد، في حين وصلت حصيلة ضحايا التعذيب في سوريا إلى 45,342 شخصًا، منذ آذار 2011، بحسب تقرير صادر عن “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” في حزيران الماضي.

وكشفت البيانات أن أكثر من 99% من حالات الوفاة تحت التعذيب وقعت داخل مراكز احتجاز تابعة للنظام السابق، الذي استخدم التعذيب كأداة قمع ممنهجة ضمن سياسة رسمية شملت الأجهزة الأمنية الأربعة الرئيسة: “المخابرات الجوية”، “الأمن العسكري”، “أمن الدولة”، “الأمن السياسي”، إضافة إلى السجون المدنية والعسكرية، ومراكز الاحتجاز غير الرسمية.

ووثقت “الشبكة” استخدام ما لا يقل عن 72 أسلوبًا من أساليب التعذيب، تراوحت بين الضرب، والصعق الكهربائي، والإيهام بالغرق، و”الشبح”، والعزل الانفرادي، والحرمان من الطعام والرعاية الصحية، إلى جانب العنف الجنسي. وطالت هذه الأساليب جميع الفئات، بمن في ذلك الأطفال والنساء وكبار السن وذوو الإعاقة.

لقاء الوطن بعد غياب

منذ أن كانت في الـ12 من عمرها، لم تعرف رزام سوادي مدينة تشبه البيت مثل دير الزور، لكن الحرب دفعتها مع عائلتها إلى اسطنبول، حيث أنهت دراستها الجامعية في الإعلام، وعملت لسنوات، بينما ظل حلم العودة مؤجلًا فوق رفوف الانتظار.
“كنا نعتقد أن النظام سيسقط خلال أشهر، ثم قلنا السنة القادمة، ثم التي بعدها، مع الوقت لم نفقد الأمل، لكنه صار يشبه جمرًا يبرد ببطء”، قالت رزام.

كانت معركة “ردع العدوان” بداية أمل جديد بالنسبة لرزام، ومع اتساع رقعة التحرير شيئًا فشيئًا، بدأت أسرتها تخطط للعودة، حتى جاء اليوم الذي تحررت فيه سوريا بالكامل.

لم تكن رزام تتوقع أن تستيقظ على صوت أخيها وهو يصرخ “سقط.. سقط”، ورغم أن الخبر كان متداولًا منذ أيام، فإن لحظة تأكيده حملت صدمة لم تستطع العائلة احتمالها، كما وصفت.

بعد 14 عامًا من الغربة، عادت رزام إلى سوريا، تصف دهشتها عندما بدت مدينة دمشق لها وكأنها لا تعرفها، “دمشق استقبلتني ببرود، جعلتني أشعر كأنني غريبة، وحدها لهجة الناس كانت ما يعيد إلي شيئًا من الألفة المفقودة”.

أما دير الزور، فكان الوصول إليها مختلفًا تمامًا عند رزام، فشعرت لحظة نزولها في كراج المدينة وكأنها تعود إلى حضن قديم، مكان ظل حاضرًا رغم الغياب، لكن هذا الحضن لم يكن كما تركته، بيت الطفولة مدمر، ومقهى “السرايا” الذي كان ملتقى ذكرياتها اختفى، والشوارع تغيرت حتى فقدت ملامحها الأصلية، وفقًا لتعبيرها.

تعيش رزام اليوم مع عائلتها في سوريا من جديد، وترى أن الطريق نحو إعادة بناء حياتها يبدأ من دير الزور، المدينة التي رغم تغيرها، ما زالت تحفظ مكانًا لذكرياتها رغم دمارها.

تامر عسافين هو الآخر عاش ذات المشاعر التي عاشتها رزام، رغم اختلاف الأسباب، فقد لجأ إلى ألمانيا عام 2015، هربًا من الخدمة العسكرية الإلزامية التي كان يفرضها النظام السابق، واستقر هناك وحيدًا طوال عشر سنوات.
توفي والده عام 2021، ولم يستطع العودة لوداعه، وهي خسارة اعتبرها “جرحًا مفتوحًا” إلى الآن.

في زيارته الأولى إلى سوريا بعد سقوط النظام، اختلطت مشاعره بين الغضب والراحة، يصف شعوره بقوله، “سقط النظام بعد أن غيّر مصير ملايين السوريين، جميعنا نجونا منه، لكن جميعنا خسرنا شيئًا، بيتًا، أشخاصًا نحبهم، وربما أعوامًا من عمرنا”.

عودة طوعية

تشهد سوريا منذ سقوط النظام السابق عودة ملحوظة للاجئين السوريين، خاصة أن أغلبيتهم هاجروا لأسباب سياسية وأمنية ارتبطت به، بالمقابل، يخشى بعض اللاجئين من العودة حتى تستقر الأوضاع الاقتصادية والأمنية والاجتماعية.

وأعلنت مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في لبنان، في 4 من كانون الأول الحالي، عودة أكثر من 378 ألف لاجئ سوري من لبنان إلى سوريا.

وأضافت أن الدفعة الـ12 من العودة الطوعية المنظمة من لبنان نقلت عائلات لاجئة سورية إلى ديارها في حمص وحماة وإدلب ودمشق وريفها.

وقال وزير الداخلية التركي، علي يرلي كايا، في 1 من تشرين الثاني الماضي، إن عدد السوريين الذين عادوا من تركيا إلى سوريا بعد 8 من كانون الأول 2024، بلغ 550 ألف لاجئ.

وصرحت نائبة المفوض السامي للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، كيلي كليمنتس، في 1 من أيلول الماضي، أن عدد السوريين العائدين من الخارج بلغ نحو 850,000 سوري، بالإضافة إلى 1.7 مليون آخرين عائدين من مناطق أخرى داخل سوريا.

ذكريات على “الأنقاض”

في زحمة العودة الكبرى التي شهدتها البلدات المحررة، كان خالد شحادة، وهو مهجر من الغوطة الشرقية، من ضمن موكب العائدين من إدلب، يحمل حقيبة واحدة وذكريات كثيرة.

حين وطئت قدماه شوارع الغوطة للمرة الأولى بعد سبع سنوات، لم يجد الحي الذي كبر فيه سوى أنقاض، حتى البيت الذي كان يسكنه مع أسرته لم يتبقَ منه سوى بقايا جدار نصف متهدم وباب حديدي مشوه، بحسب وصفه.

قال خالد، “وقفت أمام منزلي، أو بالأحرى أمام بقايا منزلي، أغمضت عيني وسمعت صوت أمي تناديني من المطبخ، وصوت أولادي يلعبون في الحارة، شريط ذكريات امتد لدقائق، لأفتح عيني مجددًا على ركام أخذ معه كل شيء”.

لم يفكر خالد رغم ذلك بالتراجع وقرر أن يبقى، وأن يبدأ من الصفر، كما فعل كثيرون من أهالي المنطقة الذين تفرقوا لسنوات ثم عادوا.

يعيش خالد اليوم في غرفة بناها فوق ركام منزله، وينتظر مشاريع إعادة الإعمار التي لم تتحقق بعد، لكنه يؤكد أن عودته كانت الخيار الصحيح، معبرًا بقوله، “لا نريد أن نعيش بقصر، نريد مكانًا يؤوينا، “عدت كرمال ريحة الغوطة ومستعد أن أبني منزلي من جديد، حتى لو حجر فوق حجر”.

تعد حالة خالد انعكاسًا لمعاناة أهالي المدن والقرى التي تعرضت لتدمير كبير، إثر قصف النظام السابق لها، معلقين آمالهم على إعادة الأعمار التي قد تصل تكلفتها إلى حوالي 216 مليار دولار أمريكي، وفقًا لتقديرات البنك الدولي في تقريره لعام 2025.

عودة المهجرين إلى حي القابون بدمشق - 7 تشرين الثاني 2025 (/نور حمزة)

عودة المهجرين إلى حي القابون بدمشق – 7 تشرين الثاني 2025 (/نور حمزة)

“شراكة كاملة” لبناء سوريا الجديدة

على الرغم من موجة الفرح التي عمت مناطق واسعة من سوريا بعد التحرير، بقيت مشاعر القلق حاضرة لدى بعض المكونات السورية، خصوصًا بعد الأحداث التي شهدها الساحل في آذار، والتوترات في السويداء، والتفجير الذي استهدف كنيسة “مار إلياس” في منطقة الدويلعة بدمشق في حزيران الماضي، ما أثار مخاوف متزايدة بين المسيحيين.

اختلطت مشاعر مارغريت أنطونيوس لحظة سقوط النظام بين خوف وحيرة عميقة، فقد نشأت على “وهم سياسي”، بحسب وصفها، على أن النظام السابق “حامي الأقليات”، وربطت أي تغيير في النظام الحاكم بحالة من الخطر الوجودي على المكوّن المسيحي.

كان تفجير كنيسة “مار إلياس” محطة مفصلية في مخاوف مارغريت، إذ أعاد إحياء الأسئلة التي حاولت تجاوزها، وتملكها الشعور بأن التحذيرات القديمة قد تجد ما يبررها الآن، لتكتشف لاحقًا أن ما حدث لم يولد عزلة، بل دفع إلى موجة تضامن واسعة من سكان الحي ومختلف أبناء المدينة، مسلمين ومسيحيين، ممن حضروا إلى المكان لمواساة العائلات.

ورغم ما رافق المرحلة من توتر، ترى مارغريت أن مستقبل سوريا الجديد يقوم على شراكة كاملة بين جميع مكوناتها، معتبرة أن الخطاب التخويفي الذي زرعه النظام السابق بين السوريين، لا ينبغي أن يتحول إلى عائق أمام بناء دولة جامعة.

وترى مارغريت أن تجاوز الإرث القديم يحتاج إلى وقت وإلى ترميم الثقة تدريجيًا، بعد سنوات طويلة رُبط فيها أي تغيير سياسي بصورة الانهيار أو الفوضى، موضحة أن التجربة الأخيرة أظهرت أن السوريين قادرون على حماية بعضهم بعضًا، وأن الأمان لا يأتي من خطاب رسمي، بل من تماسك المجتمع نفسه.

عام واحد فقط بعد التحرير كان كافيًا ليكشف حجم التنوع في المشاعر التي يعيشها السوريون اليوم، ورغم اختلاف قصصهم، يبقى القاسم المشترك بين هذه الحكايات هو رغبة السوريين في استعادة بلدهم، كل على طريقته، وكل من موقعه، في محاولة لأن يولد وطن جديد بعيدًا عن ذكريات “الأسد”.

المصدر: عنب بلدي

شاركها.