تمضي العلاقات الجزائرية الإسبانية بخطى متسارعة نحو استعادة دفئها بعد فترة من القطيعة والتوتر الدبلوماسي الذي بلغ ذروته عام 2022، على خلفية الموقف الإسباني من قضية الصحراء، عقب إعلان مدريد دعمها خطة مقترح الحكم الذاتي، الذي تقدمه الرباط.
واتفقت الجزائر وإسبانيا، الأسبوع الماضي، على إعادة تفعيل بروتوكول التعاون بشأن التنقل وترحيل المهاجرين غير النظاميين، خلال زيارة وزير الداخلية الإسباني فرناندو مارلاسكا إلى الجزائر، وهي الأولى منذ الخلاف بين البلدين.
وشملت المحادثات تنسيق الجهود لإعادة 7 قصّر جزائريين موجودين حالياً في إسبانيا، وسط تصاعد الهجرة غير النظامية من السواحل الجزائرية نحو الجزر الإسبانية.
وخلال المباحثات الثنائية، أكد وزير الداخلية الجزائري السعيد سعيود أن الاجتماع يمثل “فرصة لتبادل الآراء ووجهات النظر بشأن مختلف التهديدات التي تستدعي توحيد الجهود”، موضحاً أن هذه اللقاءات “تندرج ضمن استراتيجية شاملة لتعزيز مكافحة الإرهاب والأمن السيبراني، وإيجاد حلول مستدامة لتحديات الهجرة غير الشرعية التي تواجه البلدين”.
وأضاف أن الجزائر تواجه مخاطر متزايدة جراء تدفق المهاجرين غير النظاميين إليها، كاشفاً أن السلطات تمكنت خلال عام 2024 من منع عبور نحو 100 ألف مهاجر غير شرعي نحو شمال إفريقيا وأوروبا.
كما أشاد سعيود بنتائج اللجنة المشتركة للتعاون الأمني المنعقدة في مدريد، والتي أسفرت عن اتفاق الطرفين على تبادل الحلول التقنية للكشف عن الوثائق المزورة وتطوير مراكز استخبارات متخصصة لمكافحة الجريمة المنظمة العابرة للحدود
من جانبه، أعرب وزير الداخلية الإسباني فرناندو جراندي مارلاسكا عن تقديره للتعاون المستمر بين الجزائر وإسبانيا، مؤكداً أن الجزائر “شريك أساسي” لبلاده في القضايا الأمنية.
وقال مارلاسكا: “نواجه تحديات مشتركة، وليس أمامنا سوى العمل سوياً لنكون أكثر فعالية في محاربة شبكات الاتجار بالبشر”، مشيداً بالاتفاقيات والنتائج التي تحققت في هذا المجال، والزيارات المتبادلة التي ساهمت في تعزيز هذا التعاون.
ووفق بيانات وزارة الداخلية الإسبانية، فقد وصل نحو 6 آلاف مهاجر جزائري غير نظامي إلى إسبانيا حتى سبتمبر الماضي، بزيادة قدرها 84% مقارنة بعام 2024.
دلالات استراتيجية
يرى الباحث في الشؤون الاستراتيجية نبيل كحلوش، أن الاتفاقات الأخيرة بين الجزائر وإسبانيا تحمل 3 دلالات رئيسية، أبرزها تأكيد الجزائر تعاملها مع أوروبا من منطلق “الندّية التفاوضية”، لا كدولة خاضعة لسياسات وكالة “فرونتكس” الأوروبية لحرس الحدود والسواحل، ومقرها وارسو.
وأضاف كحلوش لـ”الشرق” أن البلدين تجاوزا مرحلة التوتر السياسي، وانتقلا إلى لغة التعاون العملي والبراغماتي، خصوصاً مع سعي مدريد إلى إعادة التوازن في علاقاتها مع الجزائر بعد الأزمة التي أثارها موقفها من قضية الصحراء.
وأشار إلى أن تفعيل بروتوكول التعاون في مجال التنقل يأتي في وقت تواجه فيه إسبانيا انتقادات بشأن سياستها في منح التأشيرات، ما يمنح هذا الاتفاق بعداً عملياً جديداً في مسار العلاقات الثنائية.
أما الباحث في الشؤون الأمنية رشيد علوش، فاعتبر أن إعادة تفعيل الاتفاقيات الأمنية بين البلدين، لا سيما المتعلقة بمكافحة الجريمة المنظمة والهجرة غير الشرعية والاتجار بالبشر والتهريب والمخدرات والأسلحة، تمثل “أحد أهم ملفات التعاون الثنائي”.
وأوضح علوش لـ”الشرق”، أن هذه الخطوة تعكس إرادة مشتركة لتكثيف التنسيق الأمني والعملياتي، من أجل تفكيك الشبكات الإجرامية العابرة للحدود، خاصة تلك التي تنشط في شمال إفريقيا والساحل، والتي تستهدف الجزائر كدولة عبور وإسبانيا كوجهة نهائية.
كما أشار إلى أن التعاون القائم بين الجزائر ومكتب المنظمة الدولية للهجرة مكّن من إعادة أكثر من 8 آلاف و500 مهاجر غير نظامي طوعاً عام 2024، وأكثر من 7 آلاف مهاجر عام 2025 بشكل غير طوعي، وذلك في ظروف إنسانية تراعي مبادئ حقوق الإنسان.
رأب الاختلالات
من جانب آخر، يرى كمال بن خلوف، عضو لجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب الجزائري، في حديث لـ”الشرق”، أن العلاقات بين الجزائر وإسبانيا “عريقة، وتحكمها المصالح المشتركة والأدوار التقليدية في الفضاء المتوسطي، وفي القضايا التي تتقاطع فيها المسؤولية داخل الإقليم”.
وأوضح أن هذا النهج “يستمد أسسه من ديباجة الدستور، ومن بيان أول نوفمبر 1954″، وهي “السياسة التي أرساها الآباء المؤسسون للثورة الجزائرية”.
وأضاف بن خلوف أن العلاقات بين البلدين قد تتأثر أحياناً بالتحولات والظروف الدولية واختلاف وجهات النظر، “غير أن الرغبة المشتركة في بناء مستقبل أفضل للشعبين تدفع نحو إعادة بعث التعاون وصياغة شراكة مستدامة ونموذجية تعود بالنفع على الطرفين”.
وأكد أن الحوار والتواصل بين الجزائر ومدريد “لم ينقطعا، بل استمرا بهدف تجاوز المرحلة السابقة واستعادة الديناميكية السياسية والاقتصادية في العلاقات، وصولاً إلى بناء شراكة تقوم على أسس عادلة ومتينة تتجاوز الاختلالات المسجلة في اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، من خلال مراجعة نقاط الاتفاق والاختلاف”.
ولفت بن خلوف إلى أن الجانب الإسباني “بدأ يستدرك دوره ومسؤولياته التاريخية في الملف الذي كان سبباً في الفتور بين البلدين”، مضيفاً أن مدريد “تتجه اليوم نحو استعادة محوريّتها وتحمل مسؤولياتها كاملة في هذا الشأن”.
وشدّد على أن “حرص الجزائر على بناء علاقات مستقرة ومثمرة في الفضاء المتوسطي يدفعها لبذل كل الجهود لتحقيق ذلك”، مشيراً إلى أن “المؤشرات المتاحة تؤكد وجود إرادة سياسية قوية لدى حكومتي البلدين لاستئناف التعاون بأقصى درجات السرعة والنجاعة”.
كما أشار إلى أن “الموقف الإسباني من القضية الفلسطينية يتقاطع تماماً مع الموقف الجزائري”، وهو ما يعزّز، بحسبه، فرص التقارب بين البلدين في ملفات إقليمية ودولية أخرى.
يُذكر أن العلاقات الدبلوماسية بين الجزائر وإسبانيا شهدت توتراً في عام 2022، بعدما اعتبرت الجزائر أن مدريد انحازت إلى الرباط في ملف الصحراء، ما دفعها إلى سحب سفيرها وتعليق “معاهدة الصداقة والتعاون” وتجميد المبادلات التجارية بقرار من جمعية البنوك الجزائرية.
واشترطت الجزائر لتطبيع العلاقات عودة مدريد إلى موقف الحياد من قضية الصحراء، وهو ما لم يتحقق رسمياً، غير أن العلاقات بدأت تعود تدريجياً إلى طبيعتها مع تعيين الجزائر سفيراً جديداً لها في مدريد في نوفمبر 2023.
مؤشرات التعافي
وعقب اعتماد السلطات الإسبانية السفير الجزائري الجديد في مدريد، ظهرت أولى بوادر التعافي في العلاقات بين البلدين من خلال زيارة أجراها وزير الداخلية الجزائري السابق إبراهيم مراد إلى إسبانيا في فبراير الماضي، في خطوة عكست رغبة البلدين في استئناف التعاون الثنائي بعد أكثر من عامين من التوتر.
وتركّزت الزيارة على تعزيز التعاون الأمني بين الأجهزة والمؤسسات المختصة في البلدين، في إطار الاتفاق الثنائي المبرم بين حكومتي الجزائر ومدريد بشأن مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة.
وفي سبتمبر الماضي، أجرى وزير الخارجية الجزائري أحمد عطّاف محادثات مع نظيره الإسباني خوسيه مانويل ألباريس، خُصصت لاستعراض التقدّم المحقَّق في مسار تعزيز الشراكة الثنائية بين البلدين، سواء في المجال الاقتصادي، أو في مجالات أخرى تحظى بالأولوية لدى الجانبين.
وشهدت المبادلات التجارية بين الجزائر وإسبانيا انتعاشاً ملحوظاً خلال الأشهر الأولى من العام الجاري، بعد أكثر من عامين من التراجع نتيجة الأزمة الدبلوماسية التي اندلعت عام 2022.
وأظهرت بيانات التجارة الخارجية الإسبانية الصادرة في أغسطس الماضي أن قيمة الصادرات الإسبانية إلى الجزائر ارتفعت بنسبة 162% خلال الفترة من يناير إلى مايو 2025 مقارنة بالفترة نفسها من عام 2024، لتبلغ نحو 900 مليون يورو.
ويُعد هذا الارتفاع مؤشراً على عودة التبادلات التجارية إلى مستويات قريبة من تلك التي كانت تُسجل قبل تعليق “معاهدة الصداقة والتعاون” بين البلدين في يونيو 2022.
وفي شهر مايو وحده، بلغت الصادرات الإسبانية إلى الجزائر 217.6 مليون يورو، مقابل 54.5 مليون يورو في مايو 2024، أي بزيادة تفوق 4 أضعاف.
كما حافظت الجزائر على موقعها شريكاً موثوقاً لإسبانيا في قطاع الطاقة، إذ استمرت في تصدير الغاز الطبيعي إلى مدريد عبر أنبوب ميدغاز الذي ينطلق من مدينة بني صاف الجزائرية نحو ألمرية الإسبانية، بطاقة تقدر بنحو 10 إلى 11 مليار متر مكعب سنوياً، إلى جانب شحنات إضافية من الغاز الطبيعي المسال المنطلقة من موانئ سكيكدة وأرزيو.
