تكويع وترويع.. غوغاء وهراء
غزوان قرنفل
تنبئنا رواية الثورة أن معظم أبنائها والضالعين فيها ومن كتبت عليهم بالمصادفة التاريخية أو الجغرافية لم يكن هدفهم منها إلا استبدال الحاكم وتداول أدوات وأساليب القمع وكم الأفواه، وليس الانتصار للحقوق ولا للحريات العامة ولا لتكريس مبدأ سيادة القانون، والحق في الكلام والانتقاد والتعبير عن رأي مخالف للنهج والسياق، حتى صرنا نواجه فيما نصرّح أو نكتب هجومًا وسبابًا وشتمًا واتهامًا بالخيانة أو العمالة، بل وحتى بالكفر البواح لمجرد أن رأيك لا ينسجم ولا يتوافق مع رأي أو سلوك أو قرارات السلطة الحاكمة الجديدة أو ذبابها الإلكتروني التطوعي المتفرغ لمحاولة إخراسك فحسب.
فإن انتصرت بالرأي لحقوق الكرد فأنت انفصالي تسعى لتقسيم الوطن، وإن أيدت مطلبًا للدروز فأنت تدعم موقفهم نكاية بالقيادة الحالية كونها ذات توجه إسلامي، وإن أشرت إلى انتهاكات يتعرض لها علويون لأنهم يحمَّلون وزر علويتهم حتى لو كانوا معارضين، فأنت من فلول النظام السابق.
يزعم كثير من “الثوريين” أنهم ثاروا لأجل “الحرية” و”الكرامة”، لكنهم لا يتوانون أبدًا عن مصادرة حريتك وجلد كرامتك إذا ما تجرأت وقلت أو كتبت رأيًا مغايرًا لرأيهم، وقناعة عكس قناعتهم، وغالبًا ما تتطور الحالة عند البعض فيصمك بالكفر لأنك تؤمن بغير ما يؤمن به أو أنك تفهم دينك ووظيفته بطريقة مغايرة لفهمه هو.
أضحكني حقًا أحد المعلقين في صفحة صديق على منشور لي شاركه على صفحته، يتساءل في تعليقه بالقول للصديق، “أما عرفت إلا أن تشارك منشورًا لهذا الكافر؟”، هكذا وبكل بساطة سمح لنفسه وسمح له تدينه المشوه، أن يصدر حكمًا بتكفيري، ومن المعلوم بطبيعة الحال أن هذا النمط من البشر ممن يستسهلون تكفير الناس وإخراجهم من الملّة، تقودهم اعتقاداتهم المتعفنة الى استباحة حياة “الكافر” ودمه وماله، فوقانا الله شر المكفّرين، إن المكفّرين كانوا إخوان الشياطين.
وأضحكني حد القهقهة أكثر أولئك السوريين الذين انخرطوا قبل ستة أشهر في مظاهرات بألمانيا تطالب بحكم الشريعة ودولة الخلافة! لكن عندما سقط الأسد ووضع الإسلامويون يدهم على السلطة، لم يأتِ أحد من أولئك السوريين لبلده الذي يسعى حاكموه لتطبيق حكم الشريعة، وهو ما هتف له وطالب به هذا المتظاهر قبل أشهر فقط في ألمانيا، وفضّل البقاء في الدولة العلمانية “الكافرة” لأنها توفر له رغد العيش وحماية القانون. فتأكد لي حينها وللمرة الألف، كم هؤلاء منافقون ومدجّلون ومتاجرون بدينهم.
“التكويع” فن لا يملك ناصيته إلا قلة من “المكوعين” ممن يملكون مرونة في عقولهم وليونة في ألسنتهم وميوعة في ضمائرهم ومبادئهم، ومع ذلك دعوهم “يكوعون” لأن ذلك لا يعرّيهم فقط بل يؤشر أنك كنت ولا تزال على جادّة الصواب الذي بانتصاره أجبر هؤلاء على السير في ركبك.
ربما لا نحتاج الآن من هؤلاء لاعتذار، لأنه صار أرخص كثيرًا من قيمته عندما كنّا تحتاج إليه. دعوهم الآن يسفحوا ما تبقى من كراماتهم على عتبات انتصارنا ولا تصلبوهم لأنهم لم يؤمنوا بدين ثورتنا، بل افسحوا لهم فرصة للاغتسال بالحرية التي حاولوا حجبها عنّا، فنحن لم نقاتل لأجل حريتنا فحسب بل لأجل إعتاق سوريا كلها من سبيها.
عود على بدء، هل ندرك نحن اليوم أننا كسوريين نواجه امتحانًا صعبًا وعسيرًا لإعادة بناء وطننا ودولتنا على أسس جديدة تأخذ بالاعتبار طي صفحة الدولة- المزرعة، والتأسيس لدولة المواطنة وسيادة القانون، دولة لبشر يشعرون بأهمية انتمائهم إليها باعتبارها تعبر عن، وتحفظ لهم، حقوقهم كمواطنين كاملي المواطنة والحقوق التي تؤكد هذا المفهوم وتعزز من هذا الانتماء.
إن فعلنا عندها سندرك أن الحاكم المستبد ليس قدرًا إلهيًا مكتوبًا علينا، وأن الحاكم الملتحي ليس ظلًا للرب أو وكيلًا عن الله لإدارة شؤوننا، بل هو ممثل عنّا بصفتنا مواطنين أوكلنا إليه بموجب ما نملكه من حقوق دستورية، مهمة إدارة شأننا وحماية مصالحنا وحفظ أمننا ورفاه عيشنا.
لذلك ربما حان أوان إلقاء السياط التي نجلد فيها بعضنا، وأكوام الحجارة التي نهيئها جانبًا قبل الدخول لمواقع التواصل لنرجم فيها من يخالفنا الرأي والرؤية، فأنت لست بالضرورة أن تكون على ضفة الصواب. دعوا الناس يعرضوا أفكارهم مقابل أفكاركم، فالعقل يحتاج إلى تنوع المعارف والآراء. دعوا الناس يعبدوا إلههم كيفما شاؤوا لا وفق ما تعتقدون، ويلبسوا ويستتروا وفق مشيئتهم لا بحسب ما ترغبون، فالله لا يمنح بشرًا هو خالقه بعضًا من صلاحياته وسلطانه.
إذا شعرت بعد أن تقرأ أو تقرئي هذي السطور أنها غير متوازنة وتعبر عن أفكار مضطربة لا دلالات محددة وواضحة لها ولا رابط منطقي بينها، ولا تنشئ سياقًا لموقف من حدث أو مسألة ما، وأن كاتبها لا شك مضطرب الذهن، فهذا يؤشر إلى أنني نجحت في توصيل رسالتي إليك إذًا سيدي/سيدتي، لأنها مجرد سطور تحاول التعبير عن حجم الاضطراب والتشوش الذي يعانيه كثير من السوريين، حتى إن بعضهم صار يؤمن بمبدأ ونقيضه أو فكرة ما ويدحضها بآن واحد، فالمسألة بالنسبة له هي نحن أم هم وعلى أي ضفة يقف هؤلاء، فنفس المبدأ إن كان لنا فهو مطلق الصواب والحقيقة، وإن كان لهم فهو خائب وفاسد وخطر على ديننا وسلامة مجتمعنا.
سنحتاج إلى ردح من الزمن لنتعافى، لكننا حقًا سنتعافى.
المصدر: عنب بلدي