تهليل سوريين لمقتل نصر الله.. محاولة لقراءة نفسية
أحمد عسيلي
شهدنا خلال الأسابيع الماضية موجة اغتيال قامت بها دولة الكيان الصهيوني طالت معظم كوادر وقيادات الصف الأول لـ”حزب الله”، بفارق عدة أيام بين كل حادثة وأخرى، وصلت تلك العمليات إلى أوجها بقتل الأمين العام حسن نصر الله ومجموعة أخرى من قيادات “الحزب” بتفجير عدة مبانٍ سكنية في الضاحية الجنوبية لبيروت، وتبع تلك الأخبار موجة فرح عامة أصابت كثيرًا من السوريين، عبروا عنها بأشكال مختلفة، من نشر لمقاطع فيديو راقصة، أو شكر لله، أو استذكار لبعض جرائم “الحزب” وتهديداته وقتله لمدنيين في سوريا، أو حتى توزيع للحلويات في الشارع، في مشهد مقارب لما قام به بعض أفراد الحاضنة الشعبية لـ”حزب الله” أو حتى بعض عناصره، في أثناء حصارهم لبعض المناطق السورية وتهجيرهم لأهلها.
بعيدًا عن الأبعاد السياسية أو التداعيات الاجتماعية لما حدث، سأحاول من خلال هذه المادة تحليل تلك المشاعر التي عاشها بعض السوريين من وجهة نظر نفسية بحتة، ملقيًا أيضًا جانبًا موقفي الذاتي، الإنساني والسياسي، من كل ما حصل، لأفسح المجال للصوت العلمي المحايد فقط للحديث.
فدعونا نبدأ بتلك القراءة النفسية بكل هدوء، وتمعن وحيادية:
أي حدث ما، سيستدعي رد فعل انفعاليًا معينًا (قراءة بوست على “فيس بوك”، رؤية مقطع فيديو، سماع حكاية ما) تعتمد شدته على العلاقة الخاصة التي تربطنا بهذا الحدث وقربه الذاتي أولًا، وعلى شدة الحدث وآثاره ثانيًا.
ولأوضح الفكرة، دعونا نتخيل امرأة (أو رجلًا) في مكان ما من العالم، مستقرة نفسيًا وعقليًا لحدود مقبولة، تجلس وحيدة في بيتها هي وطفلها النائم، تشاهد التلفزيون. لنفترض أن هذا التلفزيون بث خبرًا عن زلزال وقع في الجهة الأخرى من الكرة الأرضية، في مكان أو بلاد لا تربطها بها أي رابطة خاصة، قتل فيه ألف شخص، ولأنها سليمة نفسيًا، فستصاب بمشاعر حزن بالتأكيد على هؤلاء الضحايا، لكن غالبًا ستتوقف الحالة عند هذه النقطة، ولن تتخذ أي إجراء معين بعيدًا عن تلك المشاعر العابرة من الحزن والتأثر.
ثم يكون الخبر التالي مثلًا انهيار مبنى في المدينة أو المنطقة نفسها التي تعيش بها، ووفاة خمسة أشخاص مثلًا، فغالبًا ستحزن هذه المرأة على ضحايا مدينتها الخمسة أكثر من حزنها على الضحايا الألف في تلك البلاد البعيدة، وربما تقرر أن تذهب في اليوم التالي لرؤية ما حدث، وتقديم بعض المساعدة إذا استطاعت، مع أنه ربما لا تربطها أي علاقة شخصية بهؤلاء الضحايا، لكن القرب الجغرافي والبشري سيؤثر على حالتها الانفعالية بشكل أكبر، وربما القيام بفعل ما في اليوم أو الأيام التالية.
ثم لنفترض أن تلك المرأة سمعت صراخ طفلها مثلًا واكتشفت أن حرارته مرتفعة ويعاني من إقياء، فغالبًا ستصاب بذعر أكبر وربما تنسى الحادثتين اللتين سمعتهما في التلفاز وستركض فورًا إلى أقرب مستشفى.
إذًا، حجم الاستجابة أو رد الفعل الوجداني أو السلوكي في الحالات الطبيعية، يعتمد أولًا على العلاقة الشخصية التي تربطنا بتلك الحادثة (ارتفاع حرارة الابن ستؤثر أكثر من وفاة خمسة أشخاص يسكنون المدينة ذاتها) وشدة الحادثة (رؤية حادثة أدت إلى وفاة شخص لا نعرفه ستؤثر أكثر من رؤية حادث سيارة أدى إلى كسر رجل ذلك الشخص).
هذا ما شاهدناه حتى لدى مؤيدي “حزب الله”، بعد حادثة مقتل نصر الله، فموجة الحزن التي أصابتهم كانت كبيرة جدًا، مع أنه أذيع عن وفاة 22 قياديًا آخر كانوا معه في ذلك الاجتماع، وهدمت عدة مبانٍ سكنية ربما قتل فيها المئات، لكن كل المنشورات في ذلك اليوم لدى مؤيدي “الحزب” كانت تركز على الحزن والخسارة الكبيرة بوفاة حسن نصر الله، بل وشهدنا حالات من الصراخ والنواح في مطار “بيروت”، لم نشهد مثلها حتى بعد هدم قرى كاملة في الجنوب، وهذا عائد للعلاقة الشخصية (حتى لو كانت متخيلة) مع نصر الله وما يشكل من أهمية رمزية.
لكن هذه حالة معكوسة تمامًا بالنسبة لكثير من السوريين أو حتى اللبنانيين الآخرين، فنصر الله بالنسبة لكثيرين، إنسان شارك بالقتال في سوريا وحضّ عليه، وكثير ممن أسهموا في التعبير عن فرحهم، استذكروا الفيديو الذي يعترف فيه نصر الله بأنه أرسل مقاتلين إلى سوريا وأنه سيرسل المزيد، ولا شيء أكثر بديهية من أن المقاتلين مهمتهم القتل، وبالتالي هو يعلم أنه يرسل من يقتل السوريين.
دعونا نتابع القراءة النفسية لتلك الحادثة، حسن نصر الله قتله الكيان، ورأينا أنه لا بد من رد فعل انفعالي نفسي على تلك الحادثة، نتيجة قرب الحالة بشكل كبير جغرافيًا واجتماعيًا، هو يعتبر بالنسبة لكثير من السوريين جزءًا من آلة القتل (ودعونا نضع جانبًا صوابية أو خطأ هذا الاعتقاد، لكي نصل بالحيادية إلى الدرجة القصوى) وبالنسبة لهم هو قاتل، إذًا، سنكون هنا أمام ثلاثة احتمالات، طالما سلمنا أن رد الفعل النفسي أو السلوكي بديهي وطبيعي في تلك الحالة، وهذه الاحتمالات هي اللامبالاة أو الفرح أو الحزن.
اللامبالاة تجاه اغتيال شخصية بحجم ودور نصر الله ستكون دليلًا على خلل نفسي أو عقلي للأسباب التي شرحناها سابقًا.
والاحتمال الثاني الانقطاع النفسي عن العالم الخارجي، نتيجة أزمة شخصية أكبر وأكثر التصاقًا (إفلاس أو قصة عشق عاصفة مثلًا أو حالة حداد على قريب ما)، وهي حالات موجودة وشاهدتها لأشخاص لديهم هموم أكثر شخصية، تمنعهم من تشكيل رد فعل وجداني تجاه تلك الحادثة الأبعد حاليًا عن مجالهم النفسي.
الاحتمال الثالث هو الحزن، وهنا نتحدث عن شخص لديه قناعة أن نصر الله قتل شعبه، وهي قناعة قائمة على أسس واقعية حقيقية مجردة واعتراف صريح منه، فهل يمكن أن نتخيل شخصًا حزينًا على مقتل إنسان يعتقد أنه مجرم ويهدده بشكل دائم؟
وهنا أيضًا لدينا إشكاليتان:
الأولى: كيف يمكننا الفهم النفسي لهذا التهليل، في ظل كل تلك الظروف الصعبة التي تعيشها المنطقة، وتلك المقتلة التي تصيب الجميع؟
هذا السؤال درسه كثير من علماء النفس وكتب عنه كثيرون، المثال التقليدي لهذه الظاهرة هي فيلم “تايتنك”، ومعظم الناس شاهدوه وتأثروا بغرق تلك السفينة القائمة على قصة حقيقية موجودة، وجميع الناس تابعوا على الشاشات غرق المئات بل الآلاف من ركاب تلك السفينة من “الكومبارس”، لكن الحزن الأكبر كان على بطل الفيلم وقصة الحب المتخيلة تلك، وهذا عائد لسبب مفهوم جدًا، وهي الرابطة النفسية والعلاقة الخاصة المتخيلة التي أصبحت تربطنا مع قصة الحب تلك، فأصبح حزننا عليهم يفوق غرق البقية.
لنتذكر مثال السيدة السليمة نفسيًا (أو أحد منا) التي ستتأثر بوفاة خمسة أشخاص في الحي المجاور لها، أكثر من حزنها على وفاة مئات يبعدون عنها آلاف الكيلومترات، ولحسن نصر الله وجود طاغٍ (سلبي أو إيجابي) في نفسية الجميع، وبالتأكيد فإن ما أصابه، سيؤثر انفعاليًا أكثر مما أصاب البقية.
ومرة أخرى، هي حالة تنطبق على الطرفين، فكتابات الطرفين حزنًا أو فرحًا منذ لحظة الإعلان عن استهدافه تفوق كل أخبار المنطقة، بل كتب أحد المثقفين من الكتّاب اللبنانيين المؤيدين لنصر الله، مع أنه خارج حاضنته الشعبية، أن كل ما يمكن أن يحدث لإسرائيل لا يساوي إصبع نصر الله، فبالنسبة له، إصبع نصر الله أغلى من أرواح جميع من قتل، بل ووصلت الحالة لدى ممثل سوري، أن كتب أن حسن نصر الله أغلى من القدس، فنصر الله شخصية لها حضورها، ومصيرها سيؤثر بشكل متطرف على الجهتين.
بقيت هنا إشكالية أن قاتله هو الكيان، وقضية التعبير السلوكي عن هذا الفرح، وهو ما سنناقشه في الأسبوع المقبل.
مرتبط
المصدر: عنب بلدي