لم تعد الأسابيع الأخيرة في الساحل السوري مجرد حركة احتجاجية عابرة، بل أصبحت لحظة يتشكل فيها مشهد جديد تتجاور داخله صورتان متعارضتان: نهج سلمي يطرح مطالبات خرجت إلى العلن بثقل قيل إنه “لم يكن متوقعًا”، ونهج عسكري غير ملموس أو واضح المعالم على الأرض، إلا أن تسريبات وتحليلات إعلامية تتحدث عنه باستمرار.
وتبدو الصورة الأولى هي الأكثر تماسكًا وظهورًا، إلا أن حضورها لا يلغي الأسئلة الثقيلة حيال ما يجري في الظل، ولا المخاوف من أن تنتج تقاطعات الأجندات الإقليمية والدولية مسارًا تصعيديًا جديدًا، ما يطرح أسئلة ملحة حول حقيقة ما يريده العلويون فعلًا من الحكومة في دمشق، وما لهذه الحكومة وما عليها من خطوات نحو تكريس سوريا جامعة، خاصة أن المزاج الشعبي العام للعلويين يتجه نحو تأسيس دولة مواطنة وعدالة لجميع السوريين، على قاعدة “لا غالب ولا مغلوب”.
الصحفي في جريدة “النهار” عبد الله سليمان علي، وصف في حديث إلى ما يعيشه العلويون اليوم بأنه أقرب إلى حالة اجتماعية- سياسية قيد التشكل، لا إلى “برنامج طائفي” أو مطالب موحدة، فالمجتمع خرج من تجربة قاسية تركت آثارًا عميقة في الذاكرة والهوية وآليات الأمان، ويدخل الآن لحظة يُعاد فيها تعريف موقعه داخل الدولة بعد أن تراكمت عليه ثلاث طبقات غير متجانسة: ذاكرة مثقلة بالفقد، وتمثيل مضطرب، واشتباه أمني.
أول ما يُرصد، بحسب علي، هو أن العلويين يتحركون داخل سردية غير مستقرة، فهم مطالَبون بالخروج من إرث النظام السابق، ومطالَبون في الوقت نفسه بالصمت عن سردية موتاهم أو تخفيفها لتنسجم مع خطاب وطني جديد.
هذه الازدواجية تولّد توترًا بين الحاجة إلى المراجعة والحاجة إلى الاعتراف بالجرح، قال علي، ويزداد هذا التوتر حين يشعر العلويون بأن موقعهم يُعاد تعريفه ضمن معادلة سياسية جديدة تصنفهم، صراحة أو ضمنًا، كطرف خاسر، ظهرت ملامحها في شعارات وممارسات تنزع عنهم حقهم في سردية متوازنة عن الحرب، وتضعهم في خانة جماعية مطالَبة بالإقرار بالهزيمة قبل العودة إلى المجال العام، على حد تعبيره.
وأضاف الصحفي أن العلويين يلاحظون أن قانون العدالة الانتقالية يركّز على جرائم النظام السابق من دون إطار لمعالجة الجرائم التي طالتهم على أيدي فصائل متعددة طوال 14 عامًا، وهذا لا ينطلق من تبرئة أحد، بل من سؤال عمّن تشملهم العدالة ومن تستثنيهم.
الطبقة الثانية، بحسب الصحفي في جريدة “النهار”، فرضتها التدخلات الخارجية والفراغ التمثيلي، إذ إن غياب جهة تعبّر عن المزاج العلوي جعل المشهد مفتوحًا لتقديرات متضاربة، من ربط بعض الحركات بخط “حلف الأقليات”، إلى تأثير شبكات نفوذ خارجية، وصولًا إلى أدوار رمزية لشخصيات مقيمة في الخارج.
كل ذلك ولّد انقسامًا حول معنى الصوت الشرعي، وخلق هشاشة في أي محاولة لتنظيم فعل سياسي داخلي، وفي هذا السياق يمكن فهم التباين بين من يميل إلى اللامركزية الموسعة ومن يطرح الفيدرالية، وهي ميول تأتي غالبًا كرد فعل على “المجازر والإقصاء” أكثر مما تعبر عن مشروع كياني مسبق، وفق علي.
وتابع أنه في ضوء هذا التعقيد، تبدو المقاربة الرسمية للملف العلوي بحاجة إلى مراجعة منهجية، وبناء بيئة سياسية متوازنة يتطلب إعادة تعريف العلاقة بين الدولة وهذا المكوّن خارج ثنائية الرعاية أو الشبهة، أي الانتقال من التعامل معه بوصفه “ملفًا حساسًا” إلى اعتباره طرفًا طبيعيًا في المجال العام.
الطبقة الثالثة، بحسب علي، تتعلق بالاشتباه الأمني الذي نشأ منذ سقوط النظام وتعزز بعد تقارير عن محاولات تسليح مرتبطة بشخصيات من النظام السابق، وقبل ذلك استخدام مصطلح “الفلول” بعد “مجازر آذار”، هذا الخلط جعل من الصعب على المجتمع أن يفصل بين الاحتجاج المدني ومخاطر أن يُفسَّر أي حراك كتمرد أو عسكرة جديدة.
وهنا يصبح العلوي مطالَبًا دائمًا بإثبات سلميته قبل التعبير عن رأيه، وكأن وجوده السياسي مشروط سلفًا بإثبات أنه لا يشكّل مصدر قلق، قال علي.
كما أسهمت رسائل متناقضة من السلطة في زيادة الاضطراب، من خطاب “انتهاء حكم الأقليات”، إلى تصريح الرئيس السوري في المرحلة الانتقالية، أحمد الشرع، بأن “أبناء منطقة الرئيس ليسوا جميعًا رئيسًا”، إلى تمرير السماح بشتائم طائفية في مظاهرات دعا إليها دون محاسبة، ثم العودة للحديث مؤخرًا عن أن “العلويين كانوا الأكثر تضررًا من النظام السابق”.
هذا “التذبذب”، وفق توصيف علي، لا يمنح الطائفة انطباعًا مريحًا ولا يسمح لها بحسم خياراتها.
ويتجلى انسداد الخيارات في التزامن بين دعوة الشيخ غزال غزال إلى احتجاج سلمي، وبين تقارير دولية عن مشاريع تسليح يقودها مقربون من النظام السابق.
ويجد الصحفي أنه بهذا التزامن بات الخيار السلمي نفسه محاطًا بالشبهات، فكل وقفة احتجاجية يمكن أن تُفسَّر كتحضير لتصعيد، وكل خطاب مدني قابل لإعادة التأويل بأدوات أمنية.
أما السلطة، وفق علي، فليست في موقع أفضل، إذ إن السماح بالحراك قد يُقرأ كقبول ضمني بمطالب لامركزية أو فيدرالية، بينما مواجهته بعنف قد تفتح الباب أمام خيار الدفاع الذاتي والعسكرة.
أكد علي أن ما يريده العلويون اليوم ليس قائمة مطالب جاهزة، بل بيئة تسمح لهم بالخروج من هذه الطبقات الثلاث في آن واحد:
• مراجعة الذاكرة من دون محوها.
• الاحتجاج من دون أن يُعاد تأويل وجودهم كتهديد.
• المشاركة السياسية من دون وصاية أو تمثيل مفروض.
إنه بحث عن انتقال من موقع الجماعة المتهمة أو المستخدمة، إلى موقع جماعة مواطنين لهم الحق في دخول الحياة السياسية بلا امتيازات وبلا أحكام مسبقة، يختم علي.
متظاهرون من أبناء الطائفة العلوية في دوار الأزهري وسط مدينة اللاذقية – 25 تشرين الثاني 2025 (AFP)
المطالب “أبسط مما يُصوَّر إعلاميًا”
ليس من الصعب على الحكومة الانتقالية كسب أكثر من ثلاثة ملايين إنسان إلى جانبها في سعيها لإدارة البلاد بعد سنوات الدم الطويلة، بحسب ما يرى الصحفي الاستقصائي في “سيريا أنتولد” كمال شاهين.
يضاف هذا المجموع، وفق حديث شاهين ل، إلى كوادر الحكومة من الخبرات العملية والإدارية اللازمة للإقلاع بالعملية الاقتصادية والاجتماعية.
وفي ظل الأوضاع المتوترة التي تشهدها مناطق الساحل السوري، والدعوات المتزايدة للاعتصامات والإضرابات، وتعدد الجهات التي تدعي تمثيل العلويين سياسيًا، يشدد شاهين على أن الحاجة باتت ملحة لقراءة دقيقة لمطالب هذه الشريحة الاجتماعية المهمة.
وأضاف الصحافي الاستقصائي، أنه من خلال واقع المعايشة والتحليل، يبدو جليًا أن المطالب الأساسية للعلويين أبسط بكثير مما يُصوَّر إعلاميًا، ويمكن للحكومة كسب ثقتهم عبر إجراءات عملية ورمزية مدروسة.
وأشار شاهين إلى أن الوضع الاقتصادي المتردي، والأمني الهش، وممارسات التسريح الوظيفي التعسفي، والضغط المستمر على المجتمع، كلها عوامل تزيد من حالة الاستياء والتوجّه نحو “الطلاق” مع سوريا الجديدة، معتبرًا أن استقرار الأمور الأمنية ومنع الممارسات التعسفية كفيلان بتهيئة المناخ لاستقرار سياسي ومجتمعي حقيقي في الساحل السوري.
تتمثل الخطوات الرمزية، وفق شاهين، ببدء الاعتراف الرسمي بالمجازر والانتهاكات التي تعرض لها العلويون، مع التأكيد على مبدأ المسؤولية الفردية ورفض تحميل الكتلة البشرية العلوية مسؤولية جرائم النظام السابق، وإصدار قوائم اسمية للمتهمين بارتكاب انتهاكات ضد كل السوريين، وإجراء محاكمات عادلة ونزيهة تطول الجميع دون استثناء، مؤكدًا أن هذا إجراء بالغ الأهمية لطي صفحة الماضي.
كما أن زيارة الشرع للعلويين في الساحل السوري تنقل المجموعة إلى حيز جديد، إذ إن الحديث معهم حول آلامهم وآمالهم، واتخاذ خطوات جدية نحوها، كفيل بقطع الطريق أمام المشاريع الانفصالية إلى حد كبير.
في حين أن الخطوات العملية التي يجب اتخاذها، وفق شاهين، تتضمن معالجة ملف المعتقلين من الجيش السوري السابق بشكل شفاف، وتحويلهم إلى المحاكم المختصة، وإشراف محامي عائلاتهم والمجتمع المدني على هذه العملية.
كما شدد شاهين على أهمية تجريم خطاب الكراهية الطائفي في كل أنحاء سوريا، إضافة إلى مشاركة الأهالي في إدارة مناطقهم أمنيًا وعسكريًا عبر مجالس محلية تمثيلية، وإيقاف الحملات الإعلامية التحريضية ضد الجماعة العلوية، معتبرًا أن هذه الخطوات ستسهم في استعادة الثقة.
ويجد شاهين أن الحكومة اليوم مطالبة بتبني رؤية وطنية شاملة، تعيد للعلويين شعورهم بالانتماء إلى سوريا الجامعة، عبر معاملتهم كمواطنين كاملي الحقوق والواجبات، لا كطائفة تُستخدم دريئة في الصراعات السياسية، كما أن تحقيق الاستقرار في الساحل سينعكس إيجابًا على كل البلاد، ويشكل خطوة أساسية نحو المصالحة الوطنية الحقيقية التي لا تستثني أحدًا.
“2254” الطريق إلى سوريا جامعة
الكاتب والمترجم السوري الدكتور ثائر ديب، قال ل، إن المطلوب، للوصول إلى دولة جامعة، يجب أن يشمل جميع السوريين، وليس جميع الطوائف أو بعضها، ويكون ذلك بتطبيق القرار الدولي “2254”، معتبرًا أن تطبيق هذا القرار فيه خلاص جميع السوريين بمن فيهم النظام الجديد وقاعدته الاجتماعية، وإلا فإننا أمام إعادة إنتاج لتجربة النظام السابق.
ويرى ديب أن القرار “2254” هو نص سوري كتبه وطنيون ديمقراطيون سوريون، وتبنته الأمم المتحدة، مؤكدًا أن كل تأجيل للبدء بتطبيق بنوده هو أخذ واعٍ وبتحريض خارجي للبلاد إلى مزيد من الجراح.
مرتبط
المصدر: عنب بلدي
