في وقت تبدو فيه البيانات الشعرية أنها طوت صفحتها الأخيرة، وأن التجمّعات الأدبية التي عرفتها الثقافة العراقية والعربية في محطاتها المفصلية، لم تعد قابلة للتكرار، في ظل تبدّل الذائقة وتحولات وسائط التلقي. ظهر عدد من الشعراء العراقيين الشباب، ليعلنوا ولادة تشكيل شعري جديد تحت اسم “جماعة صفر”. 

ليس من المفاجئ ظهور أصوات شعرية جديدة، فهذا أمر مألوف، بل عودة فكرة “الجماعة” إلى الواجهة. تركت تجارب سابقة، مثل “جماعة الشعر الحرّ” و”جماعة كركوك” في العراق، ومجلة “شعر” في بيروت، أثراً عميقاً في النصوص والوعي الشعري. كما شكّلت محطات بارزة في تاريخ الشعر العربي الحديث. لكن تلك الحقب أصبحت جزءاً من الذاكرة، ومادة للتأريخ والنقد، أكثر من كونها فعلاً حياً ينبض في الحاضر. 

استجابة لمرحلة 

تضم جماعة صفر 8 شعراء سبق لهم أن نشروا أعمالاً فردية، وهم صفاء سالم إسكندر، عامر الطيب، إبراهيم الماس، نور درويش، أوس حسن، زين العابدين سرحان، عباس حسين، وعلي العطار. 

حمل إعلانهم عن “رؤيتهم الشعرية” ملامح طموح خاص، يعيد الاعتبار لفكرة الجماعة في مشهد شعري عربي وعراقي، غلبت عليه الفردية في السنوات الأخيرة، وخلا من المغامرات الجماعية، كما افتقر إلى مشروعات واضحة تسعى إلى إعادة التفكير بمفهوم الشعر، أو دفعه نحو آفاق مغايرة.

في حديثه مع “الشرق”، عن دوافع تأسيس جماعة “صفر”، وتقديم رؤيتها الشعرية الجديدة، يرى مؤسسها الشاعر صفاء سالم إسكندر، أن ولادة هذه الجماعة “لم تكن صدفة بقدر ما كانت استجابة لمرحلة مأزومة”.

 يقول: “حضورنا في هذا التوقيت أمر صحي وضروري، فغايتنا أن نمنح الشعر صوتاً واضحاً وسط هذا الخراب. نحن جيل مظلوم، لم تلتفت إليه العيون، والأسباب وراء ذلك كثيرة”.

يضيف: “يتجاوز المشروع مجرد التعريف بالشعراء الجدد، أو محاولة إيصال أصواتهم، ليشكل إطاراً أوسع يحمل طابعاً جماعياً.

يشبّه إسكندر جماعته بـ”الفرقة الأوركسترالية”، حيث يجتمع الشعراء المختلفون تحت همّ أدبي واحد، لكن كل واحد منهم يحتفظ بآلته الخاصة ونبرته الفردية. 

بهذا المعنى، تحاول “صفر” أن تمنح التعدد قيمة، وأن تحوّل التجربة الفردية إلى فعل جماعي، يتشارك في بناء مناخ شعري جديد، لا بوصفه ترفاً ثقافياً، بل حاجة وجودية في مواجهة واقع مضطرب.

الشعر وإنتاج الممكن

تقوم الرؤية التي تطرحها جماعة “صفر” على رفض مزدوج: رفض للشعر الذي يكتفي بوصف الواقع من دون خلخلته، ورفض لفائض اللغة حين يتحوّل إلى سطح أملس منفصل عن طاقته التفجيرية.

بهذا المعنى، تضع الرؤية الشعر في موقع “القوة المزلزلة”، لا كزخرفة أو إعادة إنتاج للمألوف، بل كنبوءة مضادّة تنتج الممكن بدل أن تنتظره.

يقول إسكندر في حديثه: “نحن لا نرفض الشعر في تنوّعه، ولا ندّعي احتكار صوته أو شكله، بل على العكس، أكدنا في رؤيتنا أننا نعترف بكل وجوه الشعر. غير أن ما نكتبه ينطلق من التجربة التي نعيشها نحن، من اختبارنا المباشر للحياة وللخراب الذي يحيط بنا. لذلك فإننا نتجاوز الحضور الثابت أو الشكل المألوف، لأننا نبحث عن شعر يحرّض المخيلة، ويخترق السطح ليصل إلى الجوهر”.

من الناحية الجمالية، تستند الجماعة إلى مفاهيم مثل “الاقتصاد الشعري”، و”تكثيف الممكن”، و”اقتراح اللامرئي”. وهي مفاهيم تحيل إلى طموح في صياغة لغة شعرية مكثّفة، لا تنشغل بالمحاكاة أو التزيين، بل بالانحراف عن الخطوط المستقيمة وإثارة الدهشة الدائمة.

 في المقابل، ترفض الجماعة في رؤيتها أن يُقاس الشعر بمعايير أخلاقية أو سياسية، مفضّلة أن تبقى وظيفته الأساسية الانفلات من القبضة وإعادة الاعتبار لصوت الإنسان الحر.

ويعلّق إسكندر على هذه النقطة قائلاً: “قصيدة النثر العراقية اليوم لم تصل بعد إلى هذا المستوى بالشكل الذي نطمح إليه. ما تزال بعض النصوص تستسهل الاعتماد على اليومي المباشر أو الوصف السطحي، بما يجعله يبدو شعراً وهو في الحقيقة لا يتجاوز التقليد أو التكرار”.

ويتابع: “ما ندعو إليه ليس قطيعة مع الأشكال السائدة، بقدر ما هو بحث عن معجم جديد وحساسية مختلفة للغة. نصوص تبتعد عن الاستهلاك، وتمنح الشعر طاقة متجددة، قادرة على إحداث الدهشة والاختراق، بدل الاكتفاء بالواجهة المألوفة”.

محاولة لإنقاذ الشعر 

يبدو أن اختيار اسم “صفر” لم يكن تفصيلاً عابراً، بل إشارة تنأى عن الارتباط المباشر بالتجارب السابقة، وتعلن عن بداية مختلفة، أشبه بعتبة أولى في زمن مضطرب. 

غير أن هذا الاختيار، بما يحمله من دلالات على البدء والانفصال، يضع الجماعة أمام تحدٍ واضح: كيف تترجم الرؤية إلى نصوص شعرية حيّة، تتجاوز الشعارات والمواقف إلى الإبداع الفعلي؟

يقول الشاعر العراقي في حديثه: “ندرك أن أي جماعة شعرية مهددة بأن تظل مجرد إعلان حماسي إن لم تترجم رؤيتها إلى فعل. لذلك نضع أمامنا منذ البداية فكرة الاستمرارية بوصفها شرطاً أساسياً، من خلال الإنتاج الشعري نفسه، بأن نواصل الكتابة الفردية والجماعية، ونبحث دائماً عن صياغات جديدة للشعر، تجعل منه أداة حيّة لا مجرد تكرار”. 

يضيف: “نحن نراهن على النصوص أولاً، فهي جوهر وجودنا. وعبر تنظيم قراءات، وإصدار مطبوعات، نحن لا نريد أن نكون صدى لمرحلة، بل مساهمة في رسم ملامح مشهد أدبي مستمر”.

قوة شاهدة

في السياق العراقي، يأتي ظهور الجماعة من رحم جيل تشكّل وعيه وسط صدمات متلاحقة: الغزو الأميركي، الحروب، الفساد، اجتياح “داعش”، الجائحة، الإبادة المستمرة في غزة، وحروب المنطقة. 

هذه التجارب صنعت كتابة متمرّدة، رافضة، ومجرّبة، حتى وإن بلغت حدّ المبالغة أحياناً. ومن هنا، فإن بروز جماعة “صفر”، لا يُقرأ كحراك جمالي صرف، بل كمسعى لاستعادة الشعر بوصفه قوة شاهدة ومقاومة، لا مجرد خطاب منفصل عن واقع الخراب.

قد لا يكون هدف الجماعة تجديد شكل القصيدة، كما فعلت بيانات الحداثة العربية السابقة، لكنها تحمل رغبة جادّة في إعادة الشعر إلى حريته الأولى: إلى النقطة التي يبدأ منها كل شيء.

 فاسم “صفر” لا يعني النفي لما سبق، بقدر ما يمثّل دعوة للبدء من جديد، لإعادة مساءلة الشعر: أين يقف اليوم؟ ما وظيفته؟ وكيف يمكن أن يظل صوتاً أصيلاً وسط ضجيج التفاهة؟

بهذا المعنى، تشكّل “صفر” مغامرة تضاف إلى تاريخ المغامرات الشعرية العراقية والعربية. إنها محاولة لإنقاذ الشعر من الغرق المحتمل، ومنحه حياة جديدة في عالم يزداد قسوة. 

لكن نجاح هذه المغامرة سيبقى مرهوناً بقدرة أعضائها على الوفاء بوعد النص، وترجمة رؤيتهم إلى شعر يترك أثراً فعلياً، ويجعل من “صفر” حقاً بداية لا انتهاء.

شاركها.