في أزمنة كانت الخرطوم تنام على الموسيقى وتصحو على حبات المطر، تغسل وجهها النيلي، ونائية تماماً عن الحرب، تفتحت عينا الممثلة والمغنية السودانية الشابة إيمان يوسف.
تفتحتا على رؤية والدها وهو يصيخ السمع، بطربٍ كبير، للكثير من الأغنيات السودانية، وخاصة محمد الأمين، ومصطفى سيد أحمد، إلى جانب أم كلثوم، وعبد الحليم حافظ، وفيروز، إضافة لأغنيات تراثية ليبية ويمنية.
كانت إيمان، تشاهد أباها كل صباح، يتهيأ للذهاب إلى عمله، وهو يستمع إلى الموسيقى، ومن ضمنها، موزارت وياني، وكأنما الألحان، عطرٌ يضوع بها روحه.
وشأن بيوت سودانية كثيرة، كان البيت، تعمره الموسيقى، وتمثل طقساً ثابتاً فيه، إلى جانب طقوس القهوة على الطريقة السودانية، والشاي.
الممثلة السودانية إيمان يوسف
السودانيون ألفوا على مدى عقود، سيل أغنيات كبار مطربيهم تتدفق من أجهزة المذياع، التي لا يخلو منها بيت، قبل أن يُقبلوا على ابتياع أجهزة أحدث تمكنّهم من الاستماع إلى موسيقاهم، وموسيقى غيرهم بـ”أشرطة الكاسيت”.
ويبدو أن الوالد “المثقف” ترك أثراً عميقاً على الصبية؛ إذ كانت تنصت، بعد حين، بحواسها كلها، إلى أغنيات من المغرب وإيطاليا آنذاك، ولربما وقعت أيضاً على “موشحات أندلسية” في طي أغنيات المغرب، وكذا الأغنيات الأوبرالية من إيطاليا.
“أنا منذ الصغر منفتحة على الفنون في كل العالم”، تقول، مشيرة إلى أنها وبعد الحرب، بدأت رحلة البحث عن الإيقاعات والموسيقى السودانية المركونة بعيداً في زوايا البلاد النائية، وترد ذلك إلى “الحنين” لبلادها، ربما.
وتقول يوسف لـ”الشرق” إنها كانت محظوظة جداً بوالد شغوف بالفنون، سرعان ما تشربت هي بما يهوى من أغانٍ، لتنتقل بعد ذلك إلى تشكيل ذائقتها الخاصة، باتجاهها لسماع أغنيات “عقد الجلاد”، وهي فرقة غنائية سودانية ذائعة الصيت، تؤدي مقطوعات وكلمات يراها البعض أكثر عمقاً من السائد، إلى جانب مصطفى سيد أحمد، الذي جلب إلى التجربة السودانية في عمومها قصائد غير مطروقة، تنزع إلى الفلسفة أحياناً، وتلاحق تجارب المطحونين أحياناً أخرى، وتنغمس عميقاً في الدعوة للحرية والكرامة الإنسانية.
بدأت إيمان يوسف، باكراً، حفظ كلمات الأغنيات، ساعدها في ذلك، خالها، الموسيقي السوداني الصافي مهدي، الذي كان يجلب إلى البيت واجباته في سني دراسته الجامعية الموسيقية، ليردد هذه الواجبات، وهي أغنيات، معهم، في شكل أقرب للأداء الكورالي.
وفي أجواء تحفُّها الفنون، في حي “المزاد” في الخرطوم بحري، ترعرعت إيمان، وحب الفنون يكبر في أعماقها تدريجياً.
المدينة ذاتها، كانت آنذاك، أكثر مدن العاصمة السودانية هدوءاً وسكينة، يحيط بها النيل الأزرق ونهر النيل، كسوارين من ماء. الحركة تسكن فيها رويداً رويداً بعد الأصيل، وتحتفظ بذاكرة مكانية مشبعة بالطقوس الإبداعية، من شمالها حيث طاف في سُوحها الشاعر السوداني الكبير، إدريس جمّاع، والفنان النور الجيلاني، إلى الحي الذي تقطنه إيمان، جنوباً، حيث كان محمود عبد العزيز يشكل ظاهرة فنية استثنائية. كل ذلك، إلى جانب الأسرة، غرس في نفسها توقاً متواصلاً للفنون.
فيلم وداعاً جوليا
لم تفتتن إيمان الصغيرة آنذاك بالموسيقى وحدها، فالكتب التي كان يقتنيها والدها والدراما شدّتها أيضاً، وبدأت بمحاكاتها، لتطور التجربة الغضة بتمثيليات قصيرة مرتجلة وعشوائية في البيت.
وتضيف لـ”الشرق” أنها ميّالة منذ البدء لـ”التجريب” الذي تُعلي من شأنه، وتعتبره رافعة رئيسية في الفنون. لكنها ترى أنها بحاجة لخوض غمار تجارب أكثر، لا سيما على مستوى السودان، “أما التجريب في الخارج، فسيشعرني بالسعادة”.
إيمان يوسف، التي هربت من الحرب في بلادها، إلى القاهرة، ترى في هذه المدينة فرصة كبيرة لاكتشاف الذات واكتساب مهارات جديدة. وحين كانت، وأسرتها، تفر من القتال في الخرطوم، إلى القاهرة، عبر رحلات برية وأخرى نهرية، لم يكن فيلمها، ذائع الصيت “وداعاً جوليا” قد عُرض بعد. تقول إنها، خلال هذه الرحلة، أعادت اكتشاف آلام الجنوب سودانيين وهم يغادرون السودان، وطنهم، إلى جنوب السودان، وطنهم، بعد استقلاله.
“وداعاً جوليا” الذي جسدّت فيه إيمان دور “منى” التي تعاني قهر زوجها والمجتمع، وتغني خلسة بعيداً عن الأنظار، غيّر منظورها الشخصي عن بلادها، وعن “الجنوب سودانيين” وآلامهم ومعاناتهم.
وتردف، في حديثها لـ “الشرق”، إن ذلك “لم يكن ناتجاً عن قلة المتابعة والاهتمام بهذه القضية، وإنما لأن الفيلم كشف لنا عن أوجه أخرى”.
الفن والثورة والحرب
قُدِّر لإيمان، كما تقول، أن تشهد تغييرات عميقة في بلادها، فتحت عينها على أشياء جديدة، فـ”الخرطوم كانت مطوّقة بإحساس الحرب”، مشيرة إلى أنها وأقرانها عاشوا مراحل صعود وهبوط منذ الثورة في 2019. فـ”الثورة كانت وعداً بالتغيير والشعور بالقدرة على فعل أشياء كبيرة، ولحظة لاسترداد الحقوق و.. الأخلاق”، فيما شكل “اعتصام القيادة العامة”، بالنسبة لها، حلماً للسودانيين وأشواقهم، لكن فضّه، ولّد إحباطاً وفاجعة، حسب وصفها، زادها ما وصفته بـ”الانقلاب” في أكتوبر 2021 “الذي وأد الأحلام”، لتقضي الحرب على ما تبقى، مؤقتاً.
“بعد ذلك أصبح مصير السودان غامضاً بالنسبة لنا”، تقول، مبينة أن “الحرب، لهذه الأسباب، كانت في أعماقنا، قبل أن تتفجر”.
وتنظر يوسف إلى الحرب بوصفها عاملاً جوهرياً في أن “يفقد الإنسان جزءاً من روحه وهويته”.
وتحلم إيمان يوسف، كما تقول لـ”الشرق”، بتجسيد دور عن الحرب الحالية، بكل هذه الذاكرة المثقلة بالأحلام الموءودة والأحاسيس المختلطة والأمل بمستقبل مغاير.
الفلسفة والفن
حصدت إيمان، بعد هذا الفيلم، جوائز عالمية، وتبقى متطلعة لأداء أدوار جديدة، موقنة أن الفنان كلما زادت ثقافته، غض النظر عن توظيفها في أعماله، ويساعد ذلك في صناعته على نحو مختلف، و”في هذه الحالة، يصبح أكثر إدراكاً لعمق الرسالة الفنية”، حسب قولها.
إيمان التي درست بجامعة الخرطوم وحصلت على البكالوريوس ثم الماجستير في إدارة الأعمال من نفس الجامعة، انتبهت في سنواتها الأخيرة لأهمية قراءة الفلسفة، بعد أن كانت مولعة بقراءة الرواية والمسرح. وتقول إن “الفلسفة تساعد كثيراً على فهم الذات والحياة وتفاعلاتها، والقراءة عموماً ترسخ فكرة أن يكون الإنسان ذاته، لا أحداً آخر”.
وتلخص فلسفتها في القراءة، في رؤية مقتبسة، ربما، من الفيلسوف الإغريقي، سقراط، في أنها ترى أن “الإنسان كلما قرأ أكثر وظنّ أنه بات يفهم على نحو عميق، اكتشف أنه لا يفهم الكثير”.
وترى أن “الجمع بين التكوين الأكاديمي في الفنون والإدارة أتاح لها تأسيس مسار مهني مميز يجمع بين الإبداع الفني والرؤية الاستراتيجية”؛ فهي لم تكتف بالتحصيل الأكاديمي في مجال إدارة الأعمال فحسب، بل قصدت “بيت العود” في الخرطوم، لتنهل من المصريين، ضياء الدين حافظ أسرار العزف على آلة “القانون”، وأمل إبراهيم، تنمية مهارات صوتها.
وفي كل ذلك شدّت الانتباه إليها، كعازفة ماهرة على آلة لا تجد حظها كثيراً في السودان، وكمؤدية، في فيلم “وداعاً جوليا”، وبعده أيضاً، لأغنية “جاري وأنا جارو”، للفنان السوداني الراحل، سيد خليفة، الذي عرفته خارطة الغناء العربية من خلال “المامبو السوداني” و”إزيّكم.. كيفنكم”.
ورغم أن أغنية خليفة كانت جزءاً من دورها الذي جسدته في الفيلم، عن المرأة السودانية المطحونة، المتنازعة بين “السجن المنزلي” والقيود، من جهة، وبين رغبتها في الانعتاق عبر الفن من ناحية أخرى، نفضت إيمان عن الأغنية، غباراً، ربما طمسها قليلاً، وأعادت تقديمها لأجيال سودانية، ربما لا تتذوق كثيراً أغنيات جيل العمالقة، من طينة سيد خليفة، ومحمد وردي، وعثمان حسين، ومحمد الأمين، وغيرهم من كبار فناني وطن النيلين.
التطلع إلى “هوليوود”
ولعل هذه الرؤية التي تتحدث عنها، هي ما جعلتها تتطلع لبلوغ عتبات “هوليوود”، لكنها ترى أن طريقها ليس مفروشاً بالورود؛ ففي نظرها “السوداني الوحيد الذي بلغ هذه المكانة العالمية في السينما، هو ألكسندر صديق، غير أن هوليوود تمثل فرصة كبيرة وحلماً لأي ممثل أو ممثلة”.
وتعبر إيمان يوسف، في حديثها مع “الشرق” عن شغفها البالغ بالسينما في إيطاليا وفي إيران، ولا سيما مخرجين من طينة أصغر فرهادي، وعباس كيارستمي، اللذين تقول إنهما يقدمان أعمالاً ذات “بصمة خاصة” تشتمل على نظرة فلسفية تجعلهما أكثر عمقاً من المألوف في الفن السابع، إلى جانب الأميركيين، مارتن سكورسيزي، وكوينتين تارانتينو.
ولعل افتتانها بهؤلاء المخرجين هو ما دفعها للقبول بأداء دور مُنى في “وداعاً جوليا”، الذي تراه دوراً “معقداً” ومقنعاً. وتعقيد الشخصيات، بنظرها، يمكّن من تقديم أكبر قدر من الإبداع.
وتتابع: “شخصية مُنى أثرّت علىّ بشكل كبير، وبقيت حبيسة لها لفترة، لدرجة رفض عروض في أعمال كوميدية، رأيت أنها لا تناسب مزاجي ولا المزاج السوداني، بشكل عام، بعد الحرب”.
تقول إيمان يوسف عن شخصيتها في “وداعاً جوليا”، إنها قربتها من نساء سودانيات ظللن يجأرن بالشكوى من الحياة ومن أزواجهن. وتضيف، بشأن الجرأة في الأعمال الدرامية، أن الفن ليس دوره إخفاء الحقائق والقضايا والصراعات، لأن “ما يجري حالياً جرئ جداً”، “فلماذا يتوقف الناس عند مشهد جرئ في فيلم، ويغضون الطرف عن الانتهاكات الكبيرة، ومعاناة جوليا على سبيل المثال، ويركزون على مثل هذه التفاصيل؟”.
وتشير إلى أن الفكرة من الفيلم، كأي فيلم، هي “إعادة فحص معنى الحياة”. وتفصح عن أنها تقرأ السيناريو أولاً، قبل قبولها عملا أو رفضه، لتعرف على نحو عميق رسالة الفيلم وحجم الدور، هل هو مؤثر أم لا، كما تلحظ بـ “عيني المتلقي” كيف سيشاهد دورها، وهل هو جديد تماماً أم مكرراً؟