غزوان قرنفل

بينما يعمل العالم على أحدث أنظمة التشغيل وتطبيقات الذكاء الاصطناعي وغيرها من البرمجيات خارقة التطور، قررت السلطة السورية الانتقالية إدارة البلاد على طريقة برنامج “ويندوز 1.0″، الذي صدر قبل 40 سنة بالتمام والكمال، وتزعم أنها تعمل على نقلنا إلى الزمن المعاصر بتلك الأدوات البدائية.

والحديث هنا بطبيعة الحال ليس تمامًا عن نظام “ويندوز”، ولا شك أن فطنة القارئ وحصافته ستقوده حتمًا لإدراك أن الأمر ليس إلا كناية عن تصوير واقع أداء هذه السلطة وطريقة مقاربتها لإدارة شؤون الدولة والمجتمع بأدوات وطرائق غاية في البدائية، رغم أننا نطوي الربع الأول من القرن الـ21.

دعونا بداية نتفق على بعض القواعد أو الخطوط الأساسية، التي أزعم أنها لا تشكل مساحة صدام أو اختلاف بين أبناء المجتمع السوري عمومًا، ومنها أن الدول لا تدار بعقلية الفصيل، ولا تؤسس على الاستئثار والتفرد، ولا تترسخ بالفرض والإكراه، وأن الدستور يجب أن يكون مرآة ما يراد أن يكون عليه المجتمع، وأن منطق الغلبة لا يفضي إلا إلى الاحتراب والدمار والتحلل والزوال، وأننا لسنا أمويين ولا عباسيين ولا فينيقيين بل شعب سوري يتعين عليه أن يتعايش في هذه الجغرافيا وأن يفهم أن خلاصه يكون بالتطلع إلى المستقبل لا إلى الماضي، وأن ما حصل عليه السوريون من حرية في الكلام ليس هبة ولا منحة من الحاكم بل حق انتزع بالصبر والمكابدة، وأن ما سيحصل عليه السوريون أيضًا من شراكة وطنية في الحكم والإدارة والثروة والقرار، كلها حقوق سيتحصلون عليها لا بمنّة من حاكم، بل هي حق يقر به ويمتثل لمقتضيات ممارسته، فالدولة الجديدة ملك لكل سوري أينما كان وأينما وجد وليست حقًا حصريًا لا لـ”هيئة تحرير الشام” ولا لغيرها من الفصائل، وليست ملكًا خالصًا للسنّة بل لكل السوريين على اختلاف مللهم، وأن التحرير فعل مجتمعي سوري في المقام الأول أسهم فيه كل بما يستطيع وما قدر له، ودفع أغلبية السوريين أثمانه، لكن ما نراه مع الأسف بعد مضي ستة أشهر على هذا النصر ليس كذلك، ولا تزال السلطة تدار بخلاف ما يجب أن تكون عليه، ويكاد يكون كل ما قامت به من أفعال وما اتخذته من قرارات يخالف ليس فقط تلك المبادئ العامة وإنما يخالف القانون ويتجاوز الدستور.

من المسلّم به أن الدستور الذي هو الناظم لعلاقة السلطة بالمجتمع ولعمل مؤسسات السلطة، وهو مصدر مشروعيتها ومشروعية الأفعال والأقوال والإجراءات والقرارات التي تصدر عن تلك المؤسسات إذا ما امتثلت لنصوصه وقواعده، سواء أكان هذا الدستور صادرًا عن الإرادة الحرة للناس أو عن السلطة نفسها ومفصلًا على مقاسها. وبالتالي يترتب على تجاوز أحكامه أو تجاهلها من قبل تلك السلطة بطلان تصرفاتها وكل ما صدر عنها خلاًفا لما ورد فيه، ويجعل مشروعيتها نفسها محل شك.

مناسبة الخوض في هذا الأمر الآن هو أن السلطة الانتقالية الحالية يفترض أنها موجودة لتنقل الدولة السورية والمجتمع السوري من حال التردي والانهيار الذي ورثته عن نظام الاستبداد السابق إلى حال مختلف، تستخدم فيه كل ما هو ميسر ومتاح لها من موارد بشرية ومادية لتحقيق نقلة، مهما كانت متواضعة، بهدف إرساء القواعد التأسيسية للدولة بالشكل الذي يتوافق عليه السوريون والذي يعبر عن عموم مصالحهم وشراكتهم الوطنية.

لكن واقع الحال يؤشر إلى أن ما تفعله السلطة هو التأسيس لمنظومة سلطوية وليس لمؤسسات دولة، وأن ما اتخذته من قرارات وإجراءات وما أبرمته من عقود يؤسس لسلطة خارج نطاق الدستور، ويمهد السبيل لدولة الرعية بديلًا عن دولة القانون، والأمثلة على ذلك كثيرة، وقد أشرت إلى بعضها في غير مقال كتبته في هذا الشأن، ولا بأس من تجديد الإشارة لبعض هذه الأمثلة، كتعيين ستة من المقاتلين الأجانب في مراكز قيادية بالجيش السوري الجديد رغم أنهم غير سوريين، وكذلك القرار بضم المقاتلين الأجانب لبنية الجيش السوري الجديد ضمن لواء خاص بهم رغم أنهم لا يحملون الجنسية السورية بعد، ولم يحسم أمر تجنيسهم من عدمه، وكذلك قرار تشكيل هيئة سياسية لا نعرف طبيعتها الدستورية ولا صفتها أو دورها في بنية الحكم والسلطة. وكذلك قرار تعيين رئيس لمجلس الدولة خلافًا لما نص عليه القانون، وكذلك جل القرارات التي اتخذت من قبل لجنة السلم الأهلي بإطلاق سراح موقوفين لأنه ثبت لديها أنهم غير ضالعين بارتكاب جرائم أو لأنهم منحوا الأمان قبل تسليم أنفسهم، بينما هي لا تملك هذا الحق أصلًا الذي هو من اختصاص القضاء، ولا تملك أن تمنح أحدًا ما الأمان رغم أنها تملك حق العفو عنه بعد صدور حكم قضائي بحقه! تعيينات وتسريحات وإبرام عقود في غفلة من السوريين ودون رقابة أي سلطة على تلك العقود، كل ذلك يتم خلافًا للقانون.

لذلك أعتقد أنه صار من المهم الآن أن تدرك السلطة أن ما تقوم به وما تسعى لتأسيسه لا يسهم في بناء دولة، ولا ينقل سوريا إلى المستقبل، إلا بتحديث الرؤية وبرنامج العمل وإتمام عملية إعادة التشغيل مجددًا إن كنا حريصين على سلامة سوريا ووحدتها، والبداية تكون بالمكاشفة والشفافية وإشراك الناس من مختلف المشارب والوصول إلى توافقات ومشتركات وطنية، فسوريا ليست غنيمة لغزوة دمشق ومن شاركوا بها ولن تكون، بل هي مغنم للسوريين جميعًا، وعلى من آلت إليهم مسؤولية القرار إدراك ذلك والعمل عليه.

المصدر: عنب بلدي

شاركها.