بعد ساعات من بداية الغارات الجوية الإسرائيلية على إيران، الجمعة الماضي، كان بإمكان المزارعين في العراق أن يرفعوا رؤوسهم ليروا أسراباً من الطائرات المسيّرة الإيرانية تتجه غرباً، في مسلك هجومي يعيد رسم قواعد الدفاع الجوي، بحسب تقرير نشرته مجلة Scientific American.

وفق المجلة فإن أكثر من 100 طائرة قطعت مسافة 1700 كيلومتر نحو إسرائيل، تصدر أصواتاً تشبه جزازات العشب.

من هذه الطائرات كانت “شاهد-136″، المصنوعة في الغالب من الفوم والخشب الرقائقي، بطول 3.5 أمتار، وجناحين بعرض 2.5 متر، ورأس حربي يزن ما بين 40 إلى 50 كيلوجراماً.

المسيرة الإيرانية “شاهد”

“عقل” الطائرة هو مستشعر بحجم قطعة حلوى صغيرة، يقيس كل حركة، بينما يستقبل نظام GPS بحجم بطاقة ائتمان إشارات من الأقمار الاصطناعية، ويتم تحميل مسار الطائرة مسبقاً (إحداثيات الطول والعرض والارتفاع)، قبل أن تطلقها صواريخ دفع صغيرة إلى السماء.

وتُعرف هذه الطائرات بصوتها العالي، إذ يعمل محركها بقوة 50 حصاناً، أي أقوى قليلاً من محرك سيارة “فولكسفاجن بيتل” من الستينيات، وتصدر ضجيجاً يعادل دراجة نارية صغيرة – والآن تخيل هذا الصوت مضروباً في مئة، فيما يسميه بعض الاستراتيجيين العسكريين “سرب بدائي”.

تتخذ أسراب الطائرات المسيّرة أشكالاً متعددة؛ ففي هجمات مثل تلك التي شنتها إيران مؤخراً على إسرائيل – أو استخدام روسيا لها ضد أوكرانيا، حيث تُعرف طائرات “شاهد” بـ”الدراجات الطائرة” – تكمن قوة السرب في عدده.

فصاروخ واحد بمدى مماثل قد يكلف أكثر من مليون دولار، بينما يمكن تصنيع طائرة “شاهد” بتكلفة تتراوح بين 20 إلى 50 ألف دولار.

تطلق قوات الحرس الثوري الإيراني المسيرة “شاهد” من قضبان محمولة، أو من شاحنات، ويقوم صاروخ دفع صغير بتسريعها قبل أن ينفصل عنها.

إغراق أنظمة الدفاع الجوي

ويصف مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية هذه الهجمات بأنها أدوات “تُستخدم بقدر ما تهدف إلى إغراق أنظمة الدفاع الجوي، تهدف إلى ضرب الأهداف، إذ تملأ شاشات الرادار، وتُجبر مراكز القيادة على اتخاذ قرارات بشأن استخدام صواريخهم الأكثر تطوراً”، وهو تماماً ما واجهته إسرائيل.

في الهجوم الأخير، وبينما كانت أكثر من 100 طائرة مسيّرة تتجه نحو تل أبيب، تم إسقاطها بواسطة مقاتلات، ومنظومة “القبة الحديدية”، ومدمرة أميركية في البحر المتوسط.

لم تكن هذه الطائرات قادرة على تعديل مسارها بناءً على تطورات المعركة. فـ”شاهد”، التي تعني “الشاهد” بالفارسية، هي طائرة من نوع “أطلقها وانسها”؛ لا يمكنها إرسال معلومات، أو استقبال تحديثات للمسار (رغم أن بعض النماذج الروسية منها زُوّدت بمعدات اتصال).

وتعتمد قوتها على الكثافة العددية؛ فالحرس الثوري يستطيع إطلاق موجات كثيفة منها، ما يُربك الطيارين والمشغلين وأنظمة الدفاع.

أسراب أكثر تعقيداً

في قلب معظم الأسراب التجريبية، توجد خوارزمية “بويدز” (Boids)، التي قدمها الباحث كريج رينولدز عام 1987. “بويد” تعني “كائن شبيه بالطائر”، وتقوم على ثلاث قواعد: البقاء قريباً من الآخرين (التمركز الجماعي)، وتجنب الاصطدام، ومطابقة السرعة.

وعندما تُطبق هذه القواعد على 1000 طائر افتراضي، تظهر على الشاشة محاكاة لسرب حقيقي. هذه هي البنية الأساسية لمنطق الأسراب، والهدف من استخدامها في الحروب.

حتى دون التواصل بين الطائرات، يمكن جعلها أكثر فتكاً عبر تزويدها بنظام GPS، واستقلالية، وأهداف مبرمجة مسبقاً، كما حدث في عملية “شبكة العنكبوت” الأوكرانية.

هجمات أوكرانيا

ففي 1 يونيو، قبل أقل من أسبوعين من تبادل الضربات بين إيران وإسرائيل، قاد سائقون غير مدركين لما يحملونه شاحنات مسطحة تحمل أكواخاً خشبية إلى مواقع قرب قواعد جوية روسية.

وعندما فُتحت الأسطح، انطلقت 117 طائرة رباعية صغيرة، بحجم علبة بيتزا متوسطة، مزودة بأنظمة رؤية ذاتية وحمولة تزيد قليلاً عن 3.2 كجم. كانت تُقاد عن بُعد، لكن في حال انقطع الاتصال، أو تم التشويش عليه، فإنها تقوم بتفعيل أنظمتها الذاتية، التي تم تدريبها على صور قاذفات بعيدة المدى لتحديد نقاط الضرب.

وعندما تطابق بث الكاميرا الحي مع الهدف، اندفعت الطائرة بكامل طاقتها وضربت الهدف. وتقول الاستخبارات الأوكرانية إن 41 طائرة روسية أُصيبت، بينما تشير تقديرات أكثر تحفظاً إلى تدمير ما لا يقل عن 12 قاذفة.

الريادة الأميركية في تكنولوجيا الأسراب

رغم أن القدرة على تحديد الأهداف ومهاجمتها تجعل حتى الأسراب البدائية أكثر خطورة، فإن القدرة على امتصاص البيانات، ومشاركتها بين الطائرات، والتكيف مع المعركة، تُعد أكثر فتكاً.

هذا ما اختبرته القوات الجوية الأميركية في ميدان “وايت ساندز” في نيو مكسيكو. ففي عام 2021، أجرت تجارب ضمن برنامج “القطيع الذهبي”، حيث أسقطت أربع قنابل صغيرة ذكية قادرة على التواصل فيما بينها لتحديد أي منها سيضرب أي هدف.

وقد تم اختبار هذه الاستراتيجية داخل “محاكٍ سحابي” يُدعى “الكولوسيوم”، حيث تمتلك كل قنبلة “توأماً رقمياً” لتطوير استراتيجيات في الزمن الحقيقي.

أما برنامج “أوفست”، التابع لوكالة المشاريع البحثية الدفاعية المتقدمة “داربا” DARPA، فيدفع الفكرة إلى أبعد من ذلك، عبر بيئة افتراضية قائمة على الألعاب، تهدف إلى تمكين طيار واحد من قيادة 250 طائرة مسيّرة في مدينة وهمية، تقوم بمسح الأزقة وإرسال نموذج ثلاثي الأبعاد، أشبه بـ”جوجل ستريت ڤيو” مسلح.

وبينما تراهن إيران وأوكرانيا على الكثافة والجرأة، تسعى برامج “أوفست”، و”كولوسيوم” إلى منح الأسراب ميزة “الاستقلالية التكيفية”.

أول حاملة مسيّرات طائرة

وتسابق الصين الزمن عبر تطوير طائرة “جيوتيان” الضخمة (أول حاملة مسيّرات طائرة)، بوزن 10 أطنان، قادرة على إطلاق 100 طائرة فرعية على ارتفاعات عالية.

كل هذا يضع البشرية تحت سماء قد تمتلئ قريباً بآلاف الطائرات المستقلة، لا أذكى من عصفور، لكنها تتفوق علينا في شيء واحد؛ القدرة على مشاركة كل ما تتعلمه فوراً.

مضادات المسيّرات

وقد يطلق المدافعون مستقبلاً “مضللات” ترسل إشارات GPS مزيفة لإرباك الطائرات، أو حتى جعلها تصطدم ببعضها.

وتعمل إسرائيل على تطوير ليزر لقطع أجنحة طائرات “شاهد”، بديلاً عن الصواريخ المكلفة، بتكلفة لا تتجاوز ثمن تذكرة مترو. لكن مع تطور الدفاع، سيتطور الهجوم، ودورة الابتكار ستتسارع أكثر فأكثر.

من كل ما سبق، تشير Scientific American إلى أن الطائرات المسيّرة الإيرانية من طراز “شاهد”، والطائرات الرباعية الأوكرانية، وبرنامج “القطيع الذهبي” الأميركي، تكشف، كل منها، عن ثلاث مسارات مختلفة نحو مفهوم “الاستقلالية الجماعية”، وكل منها يعيد رسم قواعد الدفاع الجوي.

شاركها.