شهدت الحرب بين إيران وإسرائيل استهداف منتزه “جاف يام نيجف” للتكنولوجيا المتقدمة في مدينة بئر السبع جنوب إسرائيل، التي أعلنت سقوط صاروخ إيراني به، الجمعة، باعتباره من أكثر المواقع الاستراتيجية أهمية في منظومة الابتكار العسكري والأمن السيبراني الإسرائيلية. 

ويصف الموقع الرسمي للمجمع التكنولوجي مكانه على أنه في قلب صحراء النقب، ولا يضم فقط عشرات الشركات العالمية والمؤسسات البحثية، بل يشكل أيضاً محوراً لمبادرة إسرائيلية كبرى تهدف إلى نقل وحدات التكنولوجيا العسكرية الإسرائيلية النخبوية إلى الجنوب.

وبجوار المنتزه، تقوم قوات الجيش الإسرائيلي ببناء مجمع ضخم للقيادة السيبرانية والاستخبارات، ما يجعل من بئر السبع “عاصمة سيبرانية” ناشئة، تتقاطع فيها حدود الدفاع الإسرائيلي والبحث الأكاديمي والتطوير الصناعي.

واستهدف هجوم صاروخي إيراني مجمع “جاف يام نيجيف” التكنولوجي في مدينة بئر السبع، الجمعة، وأشارت وكالة الأنباء الإيرانية “إرنا” إلى أن المجمع التكنولوجي المستهدف “يضم مؤسسات عسكرية وسيبرانية نشطة”.

إعادة تمركز عسكري استراتيجية

وتكمن أهمية المنتزه بشكل أساسي في قربه من مجمع القيادة السيبرانية والسيطرة والاتصالات والمعلوماتية (C4I) التابع للجيش الإسرائيلي، والذي بدأ العمل على بنائه عام 2018 ضمن استثمار ضخم تصل قيمته إلى مليارات الشواكل (عملة إسرائيل هي الشيكل).

ومن المتوقع أن يستوعب هذا المجمع حوالي 5 إلى 7 آلاف جندي وضابط من وحدات الاستخبارات والأمن السيبراني النخبوية، إذ تصف الحكومة الإسرائيلية هذا الانتقال من قواعد مركز إسرائيل إلى منطقة بئر السبع بأنه “أولوية استراتيجية”. 

ويهدف إلى خلق بيئة متكاملة تجمع بين الوحدات التكنولوجية العسكرية، والجامعة، ومجمّع الشركات، مما يتيح تطويراً سريعاً للقدرات السيبرانية والحفاظ على الكفاءات التقنية في الجنوب، إذ يُشار إلى هذا التجمع المتكامل اليوم باسم “مدينة السايبر” في إسرائيل.

دمج بين الدفاع والبحث والتكنولوجيا

وما يميز منتزه “جاف يام نيجف” عن غيره من المجمعات التكنولوجية هو الدمج المخطط له بين الجيش الإسرائيلي والابتكار الأكاديمي والتقني. ويفصل الطريق فقط بين المنتزه وجامعة بن جوريون في النقب، إحدى أبرز مؤسسات البحث العلمي في إسرائيل، خصوصاً في مجالات الأمن السيبراني والذكاء الاصطناعي والهندسة.

وتقوم الجامعة بتخريج نحو ثلث المهندسين في إسرائيل سنوياً، وتدير عشرات مراكز الأبحاث التي تتعاون مباشرة مع الشركات داخل المنتزه، كما يساهم هذا التعاون في خلق منظومة ديناميكية تُسرّع من تحويل الأبحاث إلى تطبيقات عملية، خصوصاً في المجالات الدفاعية والتكنولوجية المتقدمة.

ويقدم المجمع نموذجاً فريداً ومبتكراً للشراكة بين القطاعين العام والخاص، وتضافر جهود البحث والتطوير التكنولوجي، والحكم المحلي، والصناعات والشركات الرائدة من إسرائيل وخارجها. 

والشركاء في هذا المشروع هم شركة “جاف يام”، وجامعة “بن جوريون” في النقب، وبلدية بئر السبع، وشركة KUD الدولية للتطوير، وشركاء من القطاع الخاص، بدعم من الحكومة الإسرائيلية.

الأمن السيبراني

ومنذ تأسيسه، تموضع منتزه “جاف يام نيجف” كمركز إسرائيلي للابتكار السيبراني. وحددته الحكومة الإسرائيلية كموقع للحرم السيبراني الوطني، ما أتاح تقديم حوافز سخية للشركات العاملة في مجال الأمن السيبراني وتطوير الأنظمة الدفاعية.

ويضم المنتزه العديد من الشركات المتخصصة في هذا المجال، مثل CyberArk وL7 Defense، إلى جانب شركات دفاعية عالمية مثل Leidos و Rafael Advanced Defense Systems وDRS (RADA)، إذ تستفيد هذه الشركات من قربها من وحدات الجيش السيبرانية، ومراكز البحث الجامعي مثل Cyber@BGU، لتطوير حلول متقدمة ميدانية في بيئة تعاونية مباشرة.

البنية التحتية والأثر الاقتصادي

ورغم أن الأهمية العسكرية تشكل المحرك الأساسي لتخطيط المنتزه، إلا أن له تأثيراً اقتصادياً وعمرانياً كبيراً، حيث يمتد على مساحة تقارب 9.3 هكتارات، ومن المتوقع أن يصل مجموع مساحات المباني فيه إلى 200,000 متر مربع عند اكتماله.

ويضم المنتزه حالياً أكثر من 70 شركة من كبرى شركات التكنولوجيا في العالم.

وتشمل قائمة الشركات الكبرى العاملة في المنتزه:  Intel، IBM، Microsoft، Oracle، Cisco، PayPal، Dell وغيرها. وقد اختارت هذه الشركات إقامة مراكز تطوير في بئر السبع للاستفادة من الكفاءات المحلية والحوافز الحكومية.

وبحلول عام 2020، وفّر المنتزه أكثر من 2,500 وظيفة في مجالات التكنولوجيا المتقدمة، وتشير التقديرات إلى أن العدد قد يصل إلى 10 آلاف وظيفة مع اكتمال المشروع، إذ يعيش نحو 80% من العاملين حالياً في بئر السبع أو في مدن قريبة منها، ما يعزز من النمو العمراني والاقتصادي للمنطقة.

وقد صنّفت الحكومة الإسرائيلية المنطقة كمجال تنمية من المستوى “A”، ما يعني أن الشركات التي تعمل هناك تستفيد من منح مالية وتسهيلات ضريبية ودعم في البنية التحتية، في إطار استراتيجية لجذب الاستثمارات إلى الجنوب.

ولا يُنظر إلى منتزه “جاف يام نيجف” اليوم كمجمّع أعمال فقط، بل يُعد أحد الأصول الوطنية في البنية الدفاعية والتقنية لإسرائيل، إذ يجمع بين وحدات الجيش السيبرانية، والبحث الجامعي المتقدم، وأكبر الشركات التكنولوجية في مكان واحد.

وفي ظل التحديات الأمنية المتزايدة ذات الطابع الرقمي والعابر للحدود، يبرز المنتزه كنموذج استباقي لبيئة مبتكرة قائمة على التعاون الوثيق بين الجيش والجامعات والشركات.

وبينما لا تزال النتائج بعيدة المدى لهذا المشروع قيد التقييم، بات تأثيره على مدينة بئر السبع والنقب واضحاً، ويعيد رسم الخريطة التكنولوجية لإسرائيل نحو الجنوب.

شاركها.