تسبب القصف الأميركي والإسرائيلي للمواقع النووية الإيرانية في معضلة بالنسبة لمفتشي الأمم المتحدة في إيران؛ تتعلق بكيفية معرفة ما إذا كانت مخزونات اليورانيوم المخصب، وبعضها قريب من درجة النقاء اللازمة لصنع الأسلحة النووية، قد دفنت تحت الأنقاض أم تم إخفاؤها في مكان سري.

وبعد الهجمات على ثلاثة من أهم المواقع النووية الإيرانية، في فوردو ونطنز وأصفهان، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترمب أنه “تم محو” المنشآت باستخدام الذخائر الأميركية، بما في ذلك قنابل خارقة للتحصينات.

لكن الوكالة الدولية للطاقة الذرية التابعة للأمم المتحدة، التي تراقب برنامج طهران النووي، قالت إنه لم تتضح بعد الأضرار التي لحقت بمنشأة فوردو، وهي منشأة في أعماق جبل تنتج الجزء الأكبر من اليورانيوم الإيراني عالي التخصيب.

وقال المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية، رافائيل جروسي، إنه من المرجح للغاية أن تكون أجهزة الطرد المركزي الحساسة المستخدمة في تخصيب اليورانيوم داخل فوردو قد تضررت بشدة.

لكن هناك غموضاً أكبر بكثير بشأن ما إذا كان قد تم تدمير تسعة أطنان من اليورانيوم المخصب في إيران، من بينها أكثر من 400 كيلوجرام من اليورانيوم المخصب إلى درجة نقاء قريبة من الدرجة اللازمة لصنع الأسلحة.

وتسعى حكومات الغرب جاهدة لتحديد ما حدث لهذا اليورانيوم.

وتحدثت رويترز إلى أكثر من 10 مسؤولين حاليين وسابقين مشاركين في جهود كبح البرنامج النووي الإيراني، قالوا إن الهجمات ربما وفرت الغطاء المثالي لإيران لإخفاء مخزونها من اليورانيوم، ومن المرجح أن يكون أي تحقيق وبحث تجريه الوكالة الدولية للطاقة الذرية شاقا ويستلزم وقتاً طويلاً.

عملية معقدة

وقال أولي هاينونن، الذي كان كبير مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية في الفترة من 2005 إلى 2010، إن البحث سيتضمن على الأرجح عملية معقدة لاستعادة المواد من المباني المتضررة، بالإضافة إلى البحث الجنائي وأخذ العينات البيئية، وهو ما يستغرق وقتاً طويلاً.

وقال هاينونن، الذي تعامل على نطاق واسع مع إيران في أثناء عمله بالوكالة الدولية للطاقة الذرية، ويعمل الآن في مركز ستيمسون للأبحاث في واشنطن “قد تكون هناك مواد لا يمكن الوصول إليها، أو متناثرة تحت الأنقاض أو فقدت أثناء القصف”.

ووفقاً لمقياس للوكالة الدولية للطاقة الذرية، فإن الكمية التي تزيد على 400 كيلوجرام من اليورانيوم الإيراني المخصب بنسبة نقاء تصل إلى 60%، وهي درجة قريبة من نسبة النقاء 90% تقريباً اللازمة لصنع الأسلحة، تكفي إذا ما تم تخصيبها بدرجة أكبر لصنع تسعة أسلحة نووية.

وحتى لو تبقى جزء بسيط من هذه الكمية دون معرفة مصيره، فسيكون مصدر قلق كبير للقوى الغربية التي تعتقد أن إيران تبقي على الأقل خيار صنع الأسلحة النووية مطروحاً.

وهناك مؤشرات على أن إيران ربما نقلت بعضاً من اليورانيوم المخصب قبل أن يتعرض للهجمات.

نقل اليورانيوم

وقال جروسي إن إيران أبلغته في 13 يونيو، وهو أول يوم من الهجمات الإسرائيلية، إنها ستتخذ إجراءات لحماية معداتها وموادها النووية. ورغم أن إيران لم تفصح عن مزيد من التفاصيل، قال إن ذلك ربما يشير إلى النقل.

وقال دبلوماسي غربي مطلع على ملف إيران النووي، بعد أن طلب عدم ذكر اسمه بسبب حساسية الأمر، إن أغلب اليورانيوم المخصب في فوردو سيكتشف فيما بعد أنه نقل قبل أيام من الهجمات الأشد “كما لو أنهم علموا تماماً أنها ستحدث”.

وقال بعض الخبراء إن صفاً من المركبات ومن بينها شاحنات ظهرت في صور بالأقمار الاصطناعية خارج فوردو قبل ضربه، بما يشير إلى نقل اليورانيوم المخصب إلى مكان آخر. لكن وزير الدفاع الأميركي بيت هيجسيث قال الخميس، إنه ليس على علم بأي معلومات مخابرات تشير إلى أن إيران نقلته.

واستبعد ترمب أيضاً مثل تلك المخاوف. وفي مقابلة الأحد، مع برنامج على قناة فوكس نيوز، أصر على أن الإيرانيين “لم ينقلوا أي شيء”.

وقال “هذا أمر خطير للغاية لتنفيذه. إنه ثقيل جداً.. ثقيل جداً جداً. من الصعب جداً تنفيذ هذا الأمر… إضافة إلى ذلك، لم نلمح بشكل كبير لأنهم لم يعلموا أننا قادمين إلا عندما نفذنا كما تعلم”.

ولم يستجب البيت الأبيض لطلب للحصول على تعليق. وأحالت وزارة الخارجية الأميركية رويترز إلى التصريحات العلنية التي أدلى بها ترمب.

وقال دبلوماسي غربي ثان إن التحقق من وضع مخزون اليورانيوم سيشكل تحدياً كبيراً بالنظر إلى القائمة الطويلة من الخلافات بين الوكالة الدولية للطاقة الذرية وطهران، بما شمل عدم تقديم إيران لتفسير له مصداقية لآثار اليورانيوم التي عثر عليها في مواقع غير معلنة.

وتابع قائلاً “ستكون لعبة قط وفأر. وتقول إيران إنها تفي بكل التزاماتها أمام الوكالة.

صورة ضبابية

قبل أن تشن إسرائيل حربها التي دامت 12 يوماً بهدف تدمير قدرات إيران النووية والصاروخية، كانت الوكالة الدولية للطاقة الذرية تتمتع بإمكانية الوصول بانتظام إلى مواقع تخصيب اليورانيوم الإيرانية، وتراقب الأنشطة داخلها على مدار الساعة، إذ أن طهران موقعة على معاهدة حظر الانتشار النووي التي تضم 191 دولة. لكن الآن، جعلت الأنقاض والرماد الصورة ضبابية.

وعلاوة على ذلك، هددت إيران بوقف العمل مع الوكالة. ووافق البرلمان الإيراني الأربعاء الماضي، على تعليق التعاون مع الهيئة التابعة للأمم المتحدة، مدفوعاً بالغضب من عدم قدرة نظام حظر الانتشار النووي على حماية البلاد من الضربات التي تعتبرها دول كثيرة غير قانونية.

وتقول طهران إن قراراً صدر هذا الشهر عن مجلس محافظي الوكالة المؤلف من 35 دولة، قال إن إيران انتهكت التزاماتها المتعلقة بحظر الانتشار؛ مهد الطريق لهجمات إسرائيل من خلال توفير غطاء دبلوماسي، وهو ما نفته الوكالة.

وبدأت هجمات إسرائيل في اليوم التالي من صدور القرار.

ونفت إيران مراراً امتلاكها برنامجاً نشطاً لتطوير قنبلة نووية. وخلصت الاستخبارات الأميركية إلى أنه لا دليل على أن طهران تتخذ خطوات نحو تطوير مثل تلك الأسلحة، في تقرير رفضه ترمب قبل شن الغارات الجوية.

مع هذا، يقول الخبراء إنه لا يوجد مبرر لتخصيب اليورانيوم إلى درجة نقاء 60% لبرنامج نووي مدني، والذي يمكن تشغيله بتخصيب اليورانيوم عند درجة أقل من 5%.

تفتيش المنشآت النووية

وبصفتها طرفاً في معاهدة حظر الانتشار النووي، يتعين على إيران تقديم تقارير بمخزونها من اليورانيوم المخصب. ويتعين على الوكالة بعد ذلك التحقق من تلك التقارير عبر وسائل تشمل عمليات التفتيش.

إلا أن صلاحيات الوكالة محدودة، فهي تفتش المنشآت النووية الإيرانية المعلنة، لكنها لا تستطيع إجراء عمليات تفتيش مفاجئة في مواقع غير معلنة.

وتقول الوكالة إن إيران لديها عدداً غير معروف من أجهزة الطرد المركزي الإضافية المخزنة في مواقع لا تعلم بها، وهي أجهزة يمكن بها إنشاء موقع تخصيب جديد أو سري.

ويجعل هذا تعقب المواد التي يمكن تخصيبها لدرجة نقاء أكبر، وخاصة تلك الأقرب إلى درجة صنع القنبلة، ذو أهمية كبيرة.

وكتبت كيلسي دافنبورت، من جمعية الحد من الأسلحة ومقرها واشنطن، على منصة إكس الجمعة “ربما لم يكن مخزون إيران من اليورانيوم المخصب بنسبة 60% جزءاً من المهمة، لكنه يشكل جزءا كبيراً من خطر الانتشار لا سيما إذا لم يُكشف عن مصير أجهزة الطرد المركزي”.

ويمكن للوكالة تلقي معلومات استخباراتية من الدول الأعضاء، ومنها الولايات المتحدة وإسرائيل، وهي تتلقاها بالفعل. غير أنها تقول إنها لا تأخذ المعلومات على نحو مسلم به وتتحقق بشكل مستقل منها.

وبعد قصف مواقع تخصيب اليورانيوم، يعتقد مسؤولون أن إسرائيل والولايات المتحدة هما الدولتان الأكثر احتمالاً لاتهام إيران بإخفاء اليورانيوم أو استئناف تخصيبه.

ولم يستجب مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لطلب للتعليق على هذه القصة.

مطاردة الأشباح

وأظهر بحث مفتشي الأمم المتحدة دون جدوى عن مخابئ كبيرة لأسلحة الدمار الشامل في العراق، والذي سبق الغزو الذي قادته الولايات المتحدة عام 2003، الصعوبة الهائلة في التحقق من ادعاءات القوى الأجنبية بشأن مخزونات المواد المخفية، في ظل قلة المعلومات التي يمكن الاعتماد عليها.

وكما هو الحال في العراق، ربما ينتهي الأمر بالمفتشين إلى مطاردة الأشباح.

وقال دبلوماسي غربي ثالث “إذا كشف الإيرانيون (عن مكان) وجود 400 كيلوجرام من اليورانيوم عالي التخصيب، فستكون المشكلة قابلة للحل. ولكن إذا لم يفعلوا ذلك، فلن يتأكد أحد أبداً مما حدث لها”.

وقالت الوكالة الدولية للطاقة الذرية، التي تمثل 180 من الدول الأعضاء، إنها “لا تستطيع ضمان أن يكون التطوير النووي الإيراني سلمياً تماماً، لكنها لا تملك أي مؤشرات موثوقة على وجود برنامج أسلحة منسق”.

ودعمت الولايات المتحدة خلال الأيام الماضية، أعمال التحقق والمراقبة التي تنفذها الوكالة، وحثت طهران على ضمان سلامة مفتشيها في البلاد.

وستكون مهمة حصر كل جرام من اليورانيوم المخصب، وهو المعيار الذي تعتمده الوكالة الدولية للطاقة الذرية، طويلة وشاقة.

قالت الوكالة إن منشأة نطنز، المقامة فوق الأرض وهي الأصغر من بين المنشأتين اللتين تخصبان اليورانيوم بنسبة تصل إلى 60%، جرى تسويتها بالأرض خلال القصف، مما يشير إلى احتمال التخلص من جزء صغير من مخزون إيران من اليورانيوم المخصب.

وتعرضت منشأة تخصيب اليورانيوم الإيرانية فوردو لقصف عنيف، عندما أسقطت الولايات المتحدة أكبر قنابلها التقليدية عليها، وهي منشأة مقامة في عمق جبل كانت تنتج الجزء الأكبر من اليورانيوم المخصب بنسبة 60%. ولا تزال الأضرار التي لحقت بأقسامها تحت الأرض غير واضحة.

كما قُصفت منطقة تحت الأرض في أصفهان كان يُخزَّن بها معظم اليورانيوم الإيراني الأعلى تخصيباً، مما تسبب في أضرار بمداخل الأنفاق المؤدية إليها.

ولم يتسن للوكالة الدولية للطاقة الذرية إجراء عمليات تفتيش منذ بدء الهجوم الإسرائيلي على إيران، وهو ما يجعل الوضع هناك ضبابياً.

وقال جروسي الأربعاء، إن الظروف في المواقع التي تعرضت للقصف ستجعل عمل مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية هناك صعباً، مشيراً إلى أن الأمر قد يستغرق بعض الوقت. وقال “توجد أنقاض، وقد تكون هناك ذخائر غير منفجرة”.

وقال هاينونين كبير مفتشي الوكالة السابق إن من الضروري أن تتحلى الوكالة بالشفافية، وأن تعرض على الفور ما يتمكن مفتشوها من التحقق منه بشكل مستقل، بما في ذلك أي شكوك وما بقي مجهولاً.

وأضاف “يمكن للدول الأعضاء بعد ذلك إجراء تقييمات المخاطر الخاصة بها”.

شاركها.