بعدما تفاخر الرئيس الأميركي دونالد ترمب بتدمير القدرات النووية الإيرانية، حذر خبراء من أنه لا يزال من المبكر تقييم التأثير الفعلي على برنامج إيران النووي، إذ لا تزال هناك العديد من الأسئلة بعد ضربات الأحد، خاصة بشأن مكان وجود مخزون إيران الحساس من اليورانيوم المخصب.
واستهدفت الضربات الأميركية ثلاثة مواقع نووية إيرانية؛ هي أصفهان ومنشأتي التخصيب الرئيسيتين في فوردو ونطنز. ورغم الإبلاغ عن أضرار جسيمة، أعربت الوكالة الدولية للطاقة الذرية (IAEA) عن قلقها إزاء مخزون إيران من اليورانيوم المخصب بنسبة قريبة من الدرجة المستخدمة في تصنيع الأسلحة النووية.
وزعمت إيران أنها نقلت “سراً” معظم اليورانيوم المخصب لديها إلى موقع غير معلن قبل أن تشن الولايات المتحدة غارات جوية منسقة على منشآتها النووية.
كما أظهرت صور الأقمار الاصطناعية، الملتقطة قبل يومين من الهجوم على منشأة فوردو، 16 شاحنة بضائع على طريق يؤدي إلى المجمع. ونشرت شركة ماكسار تكنولوجيز، وهي شركة مقاولات دفاعية أميركية مقرها كولورادو، صوراً التُقطت في اليوم التالي تُظهر أن الشاحنات ابتعدت عن الموقع، وسط تساؤلات عديدة، لعل أهمها: لماذا لم يقصف الأميركيون والإسرائيليون هذه الشاحنات؟ وأليس من الطبيعي أنهم تتبعوا مسار الشاحنات فعرفوا وجهتها الأخيرة؟.
وبينما تُجري إدارة ترمب تقييماً شاملاً لحجم الأضرار، فإن السؤال الأساسي هو: هل تم فعلاً تدمير البرنامج النووي الإيراني؟ أم تم ببساطة نقله إلى منشآت أصغر وأكثر سرّية يصعب اكتشافها؟
ويشير خبراء ومحللون إلى أن الاجابة عن هذا السؤال تعتمد بشكل كبير على ما حدث لمخزون إيران البالغ 400 كيلوجراماً من اليورانيوم المخصب بنسبة 60%، وهي نسبة قريبة من نسبة الـ90% المطلوبة لصنع سلاح نووي، والتي تم استخراجها من منشأة فوردو، بحسب تقارير.
وقال نائب الرئيس الأميركي جي دي فانس، لشبكة ABC News، إن الكمية المفقودة يُحتمل أن تكون كافية لصناعة ما يصل إلى 10 قنابل نووية، مما أثار مخاوف حقيقية.
أين ذهبت 400 كيلوجرام من اليورانيوم المخصب؟
تمتلك طهران نحو 408.6 كيلوجرامات من اليورانيوم المخصب بنسبة 60%، وفقاً للوكالة الدولية للطاقة الذرية التابعة للأمم المتحدة، التي أفاد مفتشوها أنهم شاهدوا هذا المخزون آخر مرة في 10 يونيو. ويُعتقد أن هذه الكمية، إذا ما تم تخصيبها بشكل إضافي، يمكن نظرياً أن تكفي لإنتاج أكثر من 9 قنابل نووية.
وطالب المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية رافائيل جروسي، الاثنين، بالحصول على حق الوصول إلى المواقع النووية الإيرانية، قائلاً إن الوكالة بحاجة إلى “حصر” المخزون من اليورانيوم المخصب.
وازدادت المخاوف بشأن مصير هذا المخزون الحساس. ففي 13 يونيو، وهو اليوم الذي بدأت فيه إسرائيل هجومها ضد إيران، وجّه وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي رسالة إلى الوكالة الدولية للطاقة الذرية أعلن فيها عن تفعيل “إجراءات خاصة لحماية المعدات والمواد النووية”.
وقال رئيس قسم انتشار ونزع الأسلحة في مركز جنيف للسياسات الأمنية مارك فينو إن إيران توقعت الضربات الأميركية على منشآت التخصيب الثلاثة الرئيسية في نطنز وفرودو وأصفهان.
وأضاف فينو، في حديث لـ”الشرق”، إن إيران على الأرجح نقلت مخزون اليورانيوم المخصب “على هيئة غاز” إلى مواقع سرية وآمنة.
وأثيرت الشكوك بشأن ادعاءات ترمب بعد أن اعترف كبار المسؤولين الأميركيين بأنهم لا يعرفون مصير مخزون إيران من اليورانيوم الذي يكفي لصنع قنبلة نووية، وفقاً لصحيفة The Telegraph.
وفي حديثه لبرنامج “واجه الأمة” على شبكة CBS، قال وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو، الأحد، إنه يشك في أن إيران تمكنت من نقل اليورانيوم المخصب؛ وأن “علينا أن نفترض أن هناك الكثير من اليورانيوم المخصب بنسبة 60% مدفوناً عميقاً تحت الأرض هناك في أصفهان”.
لكن جيفري لويس، الخبير الأميركي في مجال منع الانتشار النووي والأستاذ في مركز جيمس مارتن لدراسات منع الانتشار النووي ومقره كاليفورنيا، قال إنه “غير مُقتنع” بالضربات الأميركية والإسرائيلية على إيران، لأنها “فشلت في استهداف عناصر مهمة من المواد النووية الإيرانية والبنية التحتية للإنتاج”.
وأضاف على “إكس” أن اليورانيوم الإيراني عالي التخصيب “كان مُخزّناً بشكل كبير في أنفاق تحت الأرض” بالقرب من موقع أصفهان، مشيراً إلى أنه على الرغم من الهجمات الأميركية والإسرائيلية المكثفة على المنشأة، “لا يبدو أنه بُذلت أي جهود لتدمير هذه الأنفاق أو المواد التي كانت بداخلها”.
وأكدت تقارير مسؤولين إسرائيليين ومحللين عسكريين أن إيران نقلت نحو 400 كيلوجرام من اليورانيوم المخصب بنسبة نقاء 60% قبل الهجمات. ويُرجّح أن هذه المواد نُقلت من فوردو وأصفهان إلى مكان سري.
وتشير التقديرات إلى أن اليورانيوم عالي التخصيب كان مخزّناً في نطنز، وسط إيران؛ وفي فوردو، المنشأة الرئيسية للتخصيب التي تم حفرها عميقاً داخل جبل قرب مدينة قُم؛ وكذلك في أنفاق بموقع أصفهان. وبعد أن يتم تبريده، يُخزَّن على شكل مسحوق داخل أسطوانات كبيرة، تشبه سخان الماء المنزلي.
وذكرت “فاينانشيال تايمز” أن المخزون من اليورانيوم المخصب بنسبة 60%، والذي يُعد جزءاً من مخزون إجمالي يزيد عن 8400 كيلوجرام، أغلبه من اليورانيوم منخفض التخصيب، ويعني أن طهران تمتلك القدرة على إنتاج ما يكفي من المواد الانشطارية اللازمة لصناعة عدة قنابل نووية خلال أيام، إذا ما اختارت ذلك، لكن عملية تحويل هذه المواد إلى سلاح فعلي قد تستغرق عدة أشهر أو حتى عاماً كاملاً.
وقال خبير الوكالة الدولية للطاقة الذرية يسري أبو شادي إن إيران لديها طبيعة جغرافية خاصة، وبها جبال كثيرة، ومنشآت محصنة تحت الأرض ومنها نطنز وفوردو.
وأضاف، في حديث مع “الشرق”، أن إيران، قبل الضربات الأميركية، اصطحبت المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية رفائيل جروسي إلى منشأة بجوار نطنز على عمق 800 متر تحت الأرض، ليس لإعلامه بمكان إخفاء اليورانيوم الإضافي، لكن حتى تظهر قدرتها على إخفاء الكميات التي تريدها من اليوارنيوم في مكان غير معروف تحت الأرض.
بينما أوضح رئيس هيئة الطاقة الذرية المصرية السابق علي إسلام أنه لا يعلن أحد على وجه التحديد أين موقع اليورانيوم المخبأ.
وقال في حديث مع “الشرق”، إن من حق الوكاله الدولية للطاقة الذرية تفتيش ومعرفة أماكن نقل هذه الكمية طبقاً لالتزامات الإبلاغ عن المواد النووية في اتفاقية الضمانات النووية.
هل لا تزال إيران قادرة على صنع قنبلة نووية؟
قبل الضربات، كانت إيران تملك حوالي 22 ألف جهاز طرد مركزي، وهي الآلات التي تُستخدم لتخصيب اليورانيوم، وقد تعرّض العديد منها لأضرار عندما تم استهداف منشأة نطنز، وفقاً لما قاله مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية رافائيل جروسي.
وأضاف جروسي أن هناك “أضراراً كبيرة جداً يُتوقع أنها وقعت في منشأة فوردو، بالنظر إلى الحمولة المتفجرة المستخدمة والطبيعة الحساسة جداً لأجهزة الطرد المركزي تجاه الاهتزازات”.
مع ذلك، يشير الخبراء إلى أنه لا يُعرف عدد أجهزة الطرد المركزي التي تملكها إيران حالياً، إذ يُعتقد أن بعضها مخزّن في مواقع غير معروفة.
وذكرت صحيفة Telegraph أن نقل إيران مخزونها إلى موقع سري يعني أنها قد تظل قادرة على امتلاك المواد اللازمة لتطوير سلاح نووي، وذلك اعتماداً على قدرة طهران على إعادة بناء المعدات الحيوية، بما في ذلك أجهزة الطرد المركزي، وهو الأمر الذي قد يستغرق سنوات.
وقال رونين سولومون، وهو محلل استخباراتي إسرائيلي، لصحيفة Telegraph إنه حتى لو نقلت إيران اليورانيوم، فسيكون الأمر “مثل وجود وقود بدون سيارة”، مضيفاً أنه لدى إيران اليورانيوم، لكنها لا تستطيع فعل الكثير به، ما لم تكن قد بنت شيئاً غير معلوم عنه على نطاق صغير.
وكانت إيران أعلنت، في أعقاب صدور قرار مجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذرية بشأن برنامجها النووي، وقبل ساعات قليلة من بدء الضربات الإسرائيلية، نيتها إنشاء مركز جديد لتخصيب اليورانيوم في موقع آمن ولا يمكن الوصول إليه، واستبدال بأجهزة الطرد المركزي القديمة في منشأة فوردو أخرى من الجيل السادس الأسرع في التخصيب.
وتخصيب اليورانيوم هو عملية زيادة تركيز نظير اليورانيوم-235 في اليورانيوم الطبيعي. ولصنع سلاح نووي، يجب تخصيب اليورانيوم إلى حوالي 90% من اليورانيوم-235.
وتعمل إيران على تخصيب اليورانيوم باستخدام أجهزة الطرد المركزي، التي تقوم بتدوير غاز سداسي فلوريد اليورانيوم بسرعات عالية لفصل نظائر اليورانيوم، ما يؤدي إلى زيادة تركيز اليورانيوم 235.
وكانت إيران تستخدم أجهزة طرد مركزي متطورة مثل IR-2m وIR-6 قبل الضربات. وتُقلل هذه الأجهزة الوقت اللازم لإنتاج يورانيوم صالح للاستخدام في صنع الأسلحة.
ووفقاً لجمعية الحد من الأسلحة، كان بإمكان إيران بناء قنبلة نووية في أقل من أسبوعين بفضل قدراتها السابقة.
وقال كبير مفتّشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية السابق يسري أبو شادي إن إيران تحتاج إلى تخصيب اليورانيوم إلى درجة نقاء 90% أو أكثر، مشيراً إلى أنه في حال امتلكت طهران نحو 500 كيلوجرام من اليورانيوم المخصب، فيمكنها تصنيع 10 قنابل ذرية.
وأكد أن قنبلة واحدة تحتاج إلى 42 كيلوجراماً من اليورانيوم المخصب، لكن تصنيع القنبلة عند درجة نقاء 60% أمر غير مفضل، لأن تأثيره ضعيف، وتصميم القنبلة سيكون ضخماً، ولن تجد طهران وسيلة لحمل أكثر من طن ونصف”.
من جانبه قال رئيس قسم انتشار ونزع الأسلحة في مركز جنيف للسياسات الأمنية مارك فينو إنه يمكن تصنيع سلاح ذري خام بنسبة 20% أو 60% من اليورانيوم عالي التخصيب، لكن ذلك يتطلب كميات كبيرة ولن يكون قوياً جداً.
وأضاف أنه للوصول إلى مستوى 90% من اليورانيوم عالي التخصيب، ستكون هناك حاجة إلى مئات من أجهزة الطرد المركزي.
مخاوف بشأن المخزونات المخفية
وقالت الوكالة الدولية للطاقة الذرية إن المنشأة المتضررة بالفعل في أصفهان تعرضت لعشرات الضربات الصاروخية، لكنها كانت تحتوي على القليل من اليورانيوم المخصب أو لا تحتوي عليه على الإطلاق عندما تعرضت للقصف.
وأثار ذلك المخاوف من إمكانية ملاحقة الولايات المتحدة وإسرائيل اليورانيوم “المهرب” للقضاء عليه قبل أن تتمكن طهران من صنع قنبلة نووية.
ورغم ادعاء الولايات المتحدة تدميرها القدرات النووية الإيرانية، أقرّ مسؤولون بجهلهم بموقع اليورانيوم المنقول.
وتعتمد قدرة إيران المستمرة على إنتاج أسلحة نووية على أجهزة الطرد المركزي والبنية التحتية المتبقية لديها. ويعتقد محللون أن إعادة البناء قد تستغرق سنوات، لكنها لا تزال تُشكل مصدر قلق أمني.
وفي حال قررت الولايات المتحدة أو إسرائيل، استهداف المخزون النووي المهرب، في حال معرفة موقعه، فإن ذلك سيؤدي إلى إطلاق غاز سام كيميائياً، لكنه لن يتسبب في انفجار نووي، بحسب فينو.
وأضاف أن ضربة أميركية أو إسرائيلية محتملة لمواقع تخزين اليورانيوم قد تتسبب في ضرر محلي للموظفين المتواجدين بالمواقع.
وأشار أبو شادي إلى أنه في حال استهداف هذه الكميات من اليورانيوم المخصب، فإنها ستصدر إشعاعات نووية، لكنها ضعيفة للغاية، ويمكن احتواء التلوث الناتج عنها.
وقال أبو شادي إن تسريباً وقع عندما تم استهداف نطنز وأصفهان، لكن لم يتسبب ذلك بضرر كبير، وهو لا تقارن بحوادث المفاعلات النووية مثل بوشهر الذي قد يكون كارثياً.
وأكد رئيس هيئة الطاقة الذرية المصرية السابق أن اليورانيوم المخصب يصبح أخطر بكثير إذا استخدم في مفاعل أبحاث أو محطة نووية لأن مواداً انشطارية شديدة الخطورة تتولد عنه في حالة حدوث حادث نتيجة استهدافه، إذ تنتج عنه سحابة إشعاعية ذات تأثير بيئي خطير لمئات بل آلاف الكيلومترات، ويشبه حادث تشرنوبيل أو فوكوشيما.