حذّر خبيران في مقال مشترك نشرته مجلة “فورين بوليسي”، من أن إصرار إسرائيل على التصعيد ضد مصر في ظل استمرار الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، قد يؤدي إلى تقويض اتفاقية “كامب ديفيد” الموقعة عام 1978، ودعيا الحكومة الإسرائيلية إلى “إعادة تقييم” نهجها تجاه القاهرة قبل فوات الأوان.
وقال الدبلوماسي الإسرائيلي المتقاعد مايكل هاراري، الذي شغل مناصب متعددة في مصر وبريطانيا وقبرص، وجابرييل ميتشل، مدير المبادرات الاستراتيجية في جامعة “نوتردام” بالقدس، إن الهجوم المفاجئ الذي شنّته حركة حماس في 7 أكتوبر 2023، شكّل بداية عهد جديد من عدم الاستقرار في علاقات إسرائيل الإقليمية.
وأوضح الكاتبان في مقالهما المشترك، أنه بينما ركّزت الأنظار الدولية على غزة، امتدت تداعيات الحرب إلى ما هو أبعد من حدود القطاع، وتحديداً إلى مصر، التي تُعد الجار العربي الأهم لإسرائيل، وشريك استراتيجي منذ توقيع اتفاقية “كامب ديفيد”.
وأشار المقال إلى أن سلسلة القرارات التي اتخذتها إسرائيل منذ بدء حرب غزة ساهمت في توتر العلاقات الثنائية مع القاهرة، محذراً من أن استمرار هذا التوتر لا يهدد فقط أحد أعمدة الأمن الإقليمي الإسرائيلي، بل يُضعف أيضاً مكانتها الاستراتيجية الأوسع في منطقة الشرق الأوسط.
ومع بدء العملية العسكرية الإسرائيلية في مدينة غزة، شدد الكاتبان على ضرورة أن “تُعيد إسرائيل تقييم نهجها تجاه مصر”، قبل أن تُلحق “أضراراً دائمة” بما وصفاه بـ”السلام البارد، لكنه فعّال”، الذي يربط بين البلدين.
مخاوف مصر الأمنية والإنسانية
وقالت مصر إن الحرب الإسرائيلية على غزة تمثّل تهديداً مباشراً لأمنها القومي، وأشار الكاتبان في هذا السياق، إلى الرفض المصري القاطع للمحاولات المستمرة من قبل إسرائيل، سواءً كانت معلنة أو تجري من خلف الكواليس، لدفع القاهرة إلى استقبال لاجئين فلسطينيين في سيناء.
وقال الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إن تهجير الفلسطينيين يعد “خطاً أحمر”، نظراً لما قد ينجم عنه من تداعيات خطيرة على الاستقرار الداخلي في مصر، فضلاً عن تعارضه مع موقف القاهرة الراسخ في دعم الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني.
وفي هذا الإطار، بذلت مصر جهوداً كبيرة لحشد توافق عربي بشأن تصوّر بديل لـ”اليوم التالي” للحرب، يقوم على تشكيل إدارة فلسطينية تكنوقراطية تتولى إدارة قطاع غزة.
ووفقاً للمقال، فإن الإصرار الإسرائيلي على الترويج لما تسميه بـ”الهجرة الطوعية” للفلسطينيين، إلى جانب دعم خطة إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب المعروفة إعلامياً بـ”ريفييرا غزة”، لم يُنظر إليه في القاهرة على أنه مجرد افتقار للرؤية الدبلوماسية، بل اعتُبر أيضاً “استفزازاً متعمداً” يهدد الاستقرار في مصر.
ولفت الكاتبان إلى أن هذا التوتر في العلاقات قد يُفسّر عدم قيام الرئيس السيسي بزيارة البيت الأبيض خلال ولاية ترمب الثانية.
تكاليف الحرب على الاقتصاد المصري
وعلى الجانب الاقتصادي، أشار المقال إلى أن الحرب كلّفت مصر ثمناً باهظاً، إذ تضرر قطاع السياحة، كما أدت هجمات جماعة الحوثي إلى تحويل مسارات الشحن العالمية بعيداً عن قناة السويس، التي تُعد مصدراً حيوياً للعملة الأجنبية للقاهرة.
ولفت المقال إلى أنه بالإضافة إلى هذه التحديات القائمة، تشعر مصر بالقلق أيضاً من التأثيرات الاقتصادية المحتملة للممر الاقتصادي المقترح لربط الهند بالشرق الأوسط وأوروبا، والذي قد يؤدي، من خلال إنشاء طرق تجارية إقليمية بديلة تمر عبر إسرائيل والأردن، إلى “تهميش” دور القاهرة في التجارة الإقليمية وحرمانها من عوائد حيوية.
“تدهور دبلوماسي خطير”
وأوضح المقال أن سيطرة الجيش الإسرائيلي على معبر رفح الحدودي بين مصر وغزة في مايو 2024، واستمرار عملياته على طول ممر فيلادلفيا، شكّلا أخطر أزمتين في العلاقات المصرية-الإسرائيلية منذ عقود.
وأشار المقال إلى أن مصر ترى أن هذه التحركات انتهاكاً لبنود اتفاقية “كامب ديفيد”، ومساً بالسيادة المصرية في سيناء، ورداً على ذلك، قامت القاهرة بإغلاق معبر رفح، وأوقفت التنسيق المتعلق بإيصال المساعدات إلى غزة، كما تبنت خطاباً أكثر حدة تجاه إسرائيل.
واعتبر الكاتبان أن” الوساطة الأميركية خلال تلك المرحلة كانت حاسمة في استمرار تدفق المساعدات، والحفاظ على قنوات الاتصال بين المسؤولين في البلدين”.
“انهيار كامل”
وأشار المقال إلى أن إسرائيل لوّحت باستخدام علاقتها الاقتصادية مع مصر كورقة ضغط لحثّ القاهرة على التعاون، بحسب تقارير إعلامية، فإن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الطاقة إيلي كوهين يدرسان مراجعة اتفاقية تصدير الغاز الطبيعي الموقعة حديثاً مع مصر، والتي تصل قيمتها إلى 35 مليار دولار، بمشاركة الشركات المشغلة لحقل “ليفياثان” في البحر المتوسط، ومن ضمنها شركة Chevron الأميركية العملاقة.
ووفقاً لصحيفة “إسرائيل هيوم”، فإن هذا التحرك جاء على خلفية تقارير إعلامية تتهم مصر بـ”خرق اتفاقية السلام مع إسرائيل”.
وأكد الكاتبان أن مثل هذه التصريحات تعكس اتجاهاً متزايداً لدى عدد من كبار المسؤولين الإسرائيليين نحو التشكيك في موثوقية مصر كشريك، وكذلك في التزامها باتفاقية “كامب ديفيد”.
وشددا على أن هذا النهج يهدد بدفع العلاقات الثنائية، المتوترة بالفعل، بين مصر وإسرائيل نحو نقطة “الانهيار الكامل”، ما يعرّض ما وصفاه بـ”الركيزة الأساسية لمنظومة الأمن الإقليمي الإسرائيلي” للخطر.
الدور المصري
وأشار الكاتبان إلى أن مصر كانت أول دولة عربية توقّع معاهدة سلام مع إسرائيل، حافظت بموجبها على الهدوء على طول حدودهما المشتركة لأكثر من أربعة عقود، وأتاح هذا الاستقرار لإسرائيل توجيه مواردها نحو تهديدات أخرى، بدءاً من “حزب الله” في لبنان وصولاً إلى الأنشطة الإيرانية في جميع أنحاء المنطقة.
وأضافا: “لا شك في أن مصر، من خلال مواقفها المتساهلة تجاه حركة حماس، لم تكن دوماً الجار المثالي لإسرائيل، لكن تقويض اتفاقية كامب ديفيد ينذر بإعادة حالة عدم اليقين الاستراتيجي إلى الحدود الجنوبية لإسرائيل، وهو عبء إضافي لا حاجة له في ظل التحديات الأمنية المتزايدة التي تواجهها القوات الإسرائيلية”.
وقالا إن مصر تظل وسيطاً محورياً في الدبلوماسية العربية، إذ كان دورها في الوساطة مع “حماس” والفصائل الفلسطينية الأخرى ضرورياً ولا غِنى عنه، ولذا فإن استبعاد القاهرة من هذه العملية يضعف قدرة إسرائيل على النجاح في مفاوضات وقف إطلاق النار وإعادة الرهائن المستقبلية، فضلاً عن التأثير السلبي على الدبلوماسية الإقليمية بشكل أوسع.
ووفقاً لما جاء في المقال، فإن الدول العربية التي تدرس إمكانية تطبيع علاقاتها مع إسرائيل، تراقب عن كثب كيفية تعامل تل أبيب مع شركائها الإقليميين الحاليين، وفي حال تدهور العلاقات مع مصر بشكل أكبر، فقد تستنتج هذه الدول أن الالتزامات الإسرائيلية غير موثوقة.
وشدد المقال على أن هذا الأمر لا يقتصر على الجانب السياسي فحسب، بل يمتد أيضاً إلى التعاون الاقتصادي، إذ ضاعفت مصر من استيرادها للغاز الإسرائيلي، رغم دعوات المقاطعة وسحب الاستثمارات.
ولفتا إلى أن المتشائمين يرون أن أزمة الطاقة التي عانت منها مصر تثبت أن هذه الاتفاقيات الأخيرة تستند إلى مصالح ضيقة ومحدودة، ولكن الواقع يشير إلى أن حقلي “ليفياثان” و”تمار” يمثلان أصولاً استراتيجية لا تربط إسرائيل بمصر فحسب، بل بأسواق الطاقة الإقليمية أيضاً.
وأضاف المقال أنه صحيح أن استخدام هذه الأصول كورقة تفاوضية قد يمنح إسرائيل نفوذاً على المدى القصير، لكنه سيقوّض في النهاية الثقة طويلة الأمد اللازمة للتعاون المستدام في مجال الطاقة، وسيُسرّع بحث القاهرة المستمر عن موردين إضافيين للغاز الطبيعي.
وقال الكاتبان إن التعاون في مجال الطاقة يخلق حالة من الاعتماد المتبادل بين مصر وإسرائيل، فكما أن تهديد تل أبيب بقطع إمدادات الغاز يضر بالنظام المصري، فإن نجاح القاهرة في تنويع مصادرها من الغاز يمثل خسائر اقتصادية واستراتيجية لإسرائيل.
خطوات تصعيدية
ولفت المقال إلى أن مصر اتخذت عدة خطوات أدت لخفض العلاقات الثنائية بين البلدين، بينها تجميد تبادل السفراء منذ الربيع الماضي، ورفضها المصادقة على السفير الإسرائيلي الجديد لدى القاهرة، وامتناعها عن تعيين سفير لها في إسرائيل.
ورغم هذه التوترات، قال الكاتبان إن مصر نجحت خلال فترة الحرب في تحقيق توازن دقيق بين الحفاظ على تعاونها الاقتصادي والأمني مع إسرائيل من جهة، والتعبير عن معارضتها لسياساتها من جهة أخرى.
وأكد الكاتبان أنه “رغم بقاء معاهدة السلام سارية، فإن النسيج الذي حافظ على اتفاقية كامب ديفيد منذ عام 1979 بدأ يتآكل، وسط غياب الثقة المتبادلة بين الطرفين”، وحذرا من تمادي إسرائيل في الضغط على مصر.
واعتبر الكاتبان أن إعادة بناء الثقة مع القاهرة سيُرسل رسالة واضحة للدول الإقليمية الأخرى بأن “إسرائيل قادرة على ممارسة ضبط النفس والتوصل إلى تسويات”.
دور الأطراف الخارجية
وشدد المقال على أهمية دور الأطراف الثالثة، وعلى رأسها الولايات المتحدة التي رعت اتفاقية “كامب ديفيد”، ولعبت دور الوسيط بين مصر وإسرائيل لعقود.
ودعا الكاتبان الدول الأوروبية والدول العربية المجاورة، التي تشترك في مصلحة الحفاظ على العلاقات المصرية-الإسرائيلية، إلى المساهمة في هذه الجهود.
وتابع المقال: “البداية تكون من خلال إرسال إشارات دعم واضحة للنظام المصري، والتخلي عن (وهم ريفييرا غزة)، والتعامل بجدية مع خطة اليوم التالي التي اقترحتها مصر بشأن القطاع، إلى جانب فتح قنوات اتصال خلفية لسد الفجوة الأمنية بين الجانبين”.
وشدد المقال على أن السلام مع مصر “ليس مجرد ذكرى من الماضي، بل يشكّل ركيزة حيوية ومتطورة باستمرار في منظومة الأمن الإقليمي الإسرائيلي”.
وأضاف أن “العلاقات القوية مع مصر تُعزز الاقتصاد الإسرائيلي، وتُقلل من عزلتها الدبلوماسية، وتُعزز دفاعاتها”، محذراً من أن التفريط في هذه العلاقات سيكون “خطأ تاريخياً”.