حسابات السياسة تطغى على الملاحقات القضائية لعمدة إسطنبول

لم يكن قرار إلغاء الشهادة الجامعية لرئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو، مفاجئاً في الأوساط التركية، على خلفية القضايا التي تلاحقه منذ سنوات، إلا أن صدمة كبرى هزت البلاد، صباح الأربعاء، بعد اعتقال أحد أبرز الشخصيات السياسية والمرشح الأقوى لمنافسة الرئيس رجب طيب أردوغان في انتخابات الرئاسة 2028.
جاء اعتقال إمام أوغلو، رفقة 99 شخصاً، على خلفية “تحقيقات بقضايا فساد مالي وارتباطات بتنظيم إجرامي”، وفق الاتهامات، إذ تم اعتقاله بعد ساعات من إلغاء شهادته الجامعية، وإصدار النيابة العامة بياناً تم خلاله وصف المدعى عليه بأنه “زعيم منظمة إجرامية”.
وتضمن تقرير النيابة العامة التركية، شهادات لرجال أعمال كانوا مقربين من إمام أوغلو، قالوا فيها إنه “تم إجبارهم على التبرع بأموال تحت التهديد، وإجراء عمليات بيع وشراء وهمية واستخدام ما يسمى الخزائن السرية لنقل الأموال بشكل غير قانوني”.
وبعد انتشار أنباء اعتقال رئيس بلدية إسطنبول، واجه مستخدمو مواقع التواصل الاجتماعي، صعوبة شديدة في الوصول إلى حساباتهم، دون إصدار بيان رسمي يوضح السبب، فيما رجح متابعون أن السلطات قيدت الوصول لمواقع التواصل الاجتماعي منعاً لانتشار الشائعات.
كما أغلقت السلطات بعض محطات القطار الرئيسية في أكبر مدن تركيا (إسطنبول) للحيلولة دون أي احتجاجات على اعتقال إمام أوغلو، ورغم ذلك خرجت مظاهرات حاشدة تنديداً باعتقال واحد من أكثر الشخصيات المعارضة أهمية في البلاد.
وكان حزب الشعب الجمهوري، الذي ينتمي إليه إمام أوغلو البالغ من العمر 54 عاماً، متفوقاً على حزب الرئيس التركي أردوغان، في العديد من استطلاعات الرأي مؤخراً، بينما كان يستعد لاختيار إمام أغلو مرشحاً رئاسياً في الانتخابات المقبلة.
ويواجه عمدة إسطنبول، تحقيقين منفصلين يتضمنان اتهامات بـ”تزعم منظمة إجرامية والرشوة والتلاعب في عطاءات”.
وقال زعيم حزب الشعب الجمهوري المعارض، أوزجور أوزيل، خلال مؤتمر صحافي، إن حزبه “سيختار إمام أوغلو مرشحاً رئاسياً الأحد بغض النظر عن الظروف”، وأضاف: “تشهد تركيا انقلاباً على الرئيس القادم. نحن هنا أمام محاولة انقلاب”.
وفي رسالة مكتوبة بخط اليد تداولتها مواقع التواصل الاجتماعي، قال إمام أوغلو، إن الأتراك سيردون على “الأكاذيب والمؤامرات والمكائد” التي تُحاك ضده. وفي وقت سابق، قبل مغادرته منزله متوجهاً إلى مركز الشرطة، أكد أنه “لن يستسلم أمام الضغوط”.
على الصعيد الرسمي، قال رئيس دائرة الاتصال بالرئاسة التركية، فخر الدين ألطون، إن ما جرى من “اختصاص السلطة القضائية، وهي جهة مستقلة، وعلى الجميع أن يحترم أي قرار تتخذه”.
اتهامات بتسييس القضية
وقال مصدر في حزب العدالة والتنمية الحاكم، لـ”الشرق”، إن “اعتقال إمام أوغلو تم بقرار من المدعي العام الرئيسي في إسطنبول، وهو قرار قضائي بامتياز، ولا أحد يتدخل في عمل السلطة القضائية”.
واعتبر المصدر، أن “بعض أحزاب المعارضة تحاول تقويض نزاهة التحقيقات التي تجريها السلطة القضائية بدوافع أيدلوجية أو سياسية”، مؤكداً أن “الرئيس التركي لا علاقة له بقضية المدعى عليه، والقضاء يتصرف بنزاهة بعيداً عن أي تسييس من قبل الحكومة”.
لكن الكاتب والصحافي التركي، فائق بولوت، لا يتفق مع ما تحدثت عنه المصادر الرسمية، إذ يرى أن الاعتقال “عمل مسيس” لـ”منع إمام أوغلو من المشاركة في الانتخابات”.
وقال بولوت في تصريحات لـ”الشرق”، إن “السلطات اعتقلت رئيس بلدية إسطنبول الكبرى بهدف منعه من المشاركة في الانتخابات الرئاسية المقبلة، وإذا استمرت على هذا المنوال، فقد تتمكن بالفعل من منعه من الترشح أو المشاركة في أي انتخابات مقبلة”.
وأبدى منصور يافاش، رئيس بلدية العاصمة التركية أنقرة، والرجل الثاني في حزب الشعب الجمهوري المعارض، اعتراضه على إلغاء الشهادة الجامعية لرئيس بلدية إسطنبول، لكن بعد عملية الاعتقال عاد يافاش ليقول خلال لقاء تلفزيوني إنه “لا أحد فوق المحاكمة”، قبل أن يستدرك بأن “التوقيت غير مناسب وطريقة التوقيف أعطت صورة سيئة أمام العالم”، فيما وُصفت هذه التصريحات بأنها “انقلاب ناعم” على إمام أوغلو من أحد أهم حلفائه.
جدالات قانونية
بدوره، قال رئيس اتحاد الإعلاميين الأجانب في تركيا، المحاضر بكلية الإعلام بجامعة إسطنبول، أيمن الخالد، لـ”الشرق”، إنه “يمكن رؤية قضية اعتقال إمام أغلو بالتهم الموجهة إليه من خلال النظر في الإجابات عن أهم الأسئلة التي تحيط بالحدث، والسؤال الأول الذي يُطرح في الساحة هو هل هذا الاعتقال قضية مسيسة؟”.
وأضاف الخالد: “هنا يختلف النظر إلى مثل هذه القضية بين رؤية أنصار إمام أوغلو ممثلين بحزب الشعب الجمهوري، الذي ينتمي إليه، الذين يصفون هذه الخطوات بأنها ذات دوافع سياسية تهدف إلى إقصاء منافس محتمل للرئيس أردوغان في الانتخابات الرئاسية المقبلة، ومثلها رؤية الجهات التي تحمل موقفاً مسبقاً من سياسات أردوغان”.
وتابع: “في المقابل ومن الناحية القانونية، يمكن النظر إلى قضية إمام أوغلو على أنها ذات أساس قانوني بناءً على الاتهامات الموجهة إليه، والتي تشمل الفساد، التلاعب في المناقصات، وتزعّم منظمة إجرامية، وهذا إذا كانت الأدلة المقدمة في لائحة الاتهام قوية ومدعومة بقرائن قانونية واضحة، فإن القضية قد تكون بعيدة عن التسييس، وتندرج في إطار مكافحة الفساد، وهو ما تدافع عنه الحكومة التركية، وتطرحه من خلال وجهة النظر القانونية كونها منظمة بلائحة اتهام تستمد شرعيتها من القوانين المعمول بها ضد الجرائم الجنائية المنصوص عليها قانونياً، وسبق وأن تمت بموجبها ملاحقة مسؤولين حكوميين ومحليين قضائياً بتهم مماثلة، وقد جاء الاعتقال بناءً على تحقيقات مستمرة وأدلة مادية”.
وأوضح الخالد، أنه “إذا كانت الأدلة موثقة بشكل جيد، فمن الطبيعي أن يتم التحقيق والمحاكمة وفق الإجراءات القانونية، وتدافع الحكومة عن موقفها بالقول إن العديد من المسؤولين الحكوميين، بمن فيهم أعضاء في الحزب الحاكم، تمت محاكمتهم بتهم الفساد، دون أن يكون الأمر مسيّساً، والفيصل في النهاية سيكون في المحاكمة وما إذا كانت ستجري بشكل عادل وشفاف دون تدخل سياسي”.
واعتبر الخالد أن السؤال الآخر المطروح هو، “هل الملفات القضائية ضد إمام أوغلو ستمنع ترشحه في الانتخابات الرئاسية المقبلة؟، والجواب هو أن إلغاء شهادته الجامعية قد يمنعه من الترشح للانتخابات الرئاسية المقبلة، إذ يشترط القانون التركي حصول المرشح على شهادة جامعية، بالإضافة إلى ذلك، يواجه إمام أوغلو عدة تحقيقات وقضايا قد تؤثر على أهليته السياسية”.
وأشار رئيس اتحاد الإعلاميين الأجانب في تصريحاته لـ”الشرق” إلى أنه “إذا ثبتت التهم بشكل واضح، فسيكون التأثير سلبياً عليه، وسيجد صعوبة في الترشح حتى لو تمت تبرئته لاحقاً خصوصاً وأن تهمة دعم الإرهاب هي الأخطر؛ لأنها تمثل خطاً أحمر دولياً، وقد تدمر مستقبله السياسي نهائياً إذا لم يستطع الدفاع عن نفسه وإثبات براءته”.
وأضاف: “أما بخصوص ما إذا كانت عملية الاعتقال هذه ستؤثر على منصبه الحالي كرئيس بلدية، فحتى الآن، لم تصدر معلومات رسمية حول تأثير الاعتقال على منصبه الحالي كرئيس لبلدية إسطنبول، ومع ذلك، قد تؤدي التحقيقات الجارية والاتهامات الموجهة إليه إلى تداعيات قانونية قد تؤثر على استمراره في هذا المنصب”.
“شعبية متزايدة” رغم الاتهامات
وتابع الخالد: “في النظام القانوني التركي، يتم تنظيم مسألة غياب رئيس البلدية؛ بسبب الاعتقال أو التوقيف الاحتياطي وفقاً للقوانين واللوائح المحلية، وعند تعرض رئيس بلدية للاعتقال بتهم جنائية مثل الفساد، الرشوة، الإرهاب، أو التزوير، يتم اتباع الإجراءات القانونية لشغل منصبه وضمان استمرارية العمل البلدي وعدم تعطيله، وإذا تم تأكيد التهم الموجهة لرئيس البلدية وأُدين قضائياً، قد يتم عزله رسمياً من منصبه، وفي هذه الحالة، يتم تعيين رئيس بلدية جديد وفقاً للإجراءات القانونية المحددة، إذ تحتفظ الحكومة المركزية بسلطة الإشراف على البلديات”.
وزاد: “في بعض الحالات قد تتدخل وزارة الداخلية لتعيين مسؤول مؤقت لإدارة شؤون البلدية، حتى يتم انتخاب أو تعيين رئيس جديد، وفي حالات أخرى يتم تعليق مهام رئيس البلدية مؤقتاً حتى انتهاء التحقيقات أو المحاكمة، إذ تحرص تركيا بموجب تنظيمها القانوني على ضمان استمرارية العمل البلدي، وتقديم الخدمات للمواطنين، حتى في حالات غياب المسؤولين الرئيسيين بسبب قضايا قانونية”.
واعتبر الخالد أن اعتقال إمام أوغلو قد يؤدي إلى زيادة شعبيته بين أنصاره ومؤيديه، خاصة إذا اعتُبر الاعتقال ذا دوافع سياسية، مشيراً إلى أن “هناك من يرى أنه سيؤدي إلى التقليل من شعبيته، ذلك أن طبيعة التهم الموجهة إليه ذات طابع قانوني، وفي جرائم يأتي وصفها على أنها جرائم يرفضها المجتمع التركي بشكل كبير؛ لأنها مخالفة للنظام العام والأعراف بما لا يليق بمنصب مثل رئيس بلدية إسطنبول”.
وأضاف: “إضافة إلى أن تهمة دعم الإرهاب إذا ما تحققت فعلاً، فذلك يعتبر عاملاً مدمراً لشخصيته ليس داخل تركيا فقط، بل وربما دولياً؛ لأن قضية ملاحقة الأنشطة الإرهابية تعتبر من الجرائم الملاحقة دولياً ما يعني تدمير مستقبله السياسي بالكامل، وحتى الصحافة المعارضة للحكومة قد تجد نفسها في موقف محرج إذا حاولت التغطية على قضايا فساد مثبتة؛ لأن ذلك قد يفقدها مصداقيتها”.