تعيش مصر أحداثاً ثقافية استثنائية بدءاً من اختيار د. خالد العناني مديراً عاماً لليونسكو، ليصبح أول مصري وعربي يترأس تلك المنظمة الدولية العريقة.
كما شهدت مصر أجواء احتفالية ضخمة، في افتتاح المتحف المصري الكبير. هذا الصرح الثقافي لعب العناني نفسه دوراً مهماً في استكمال تشييده، إبّان توليه وزارة الآثار.
تخرّج العناني من جامعة حلوان، وحصل على الدكتوراه من جامعة بول فاليري في فرنسا، في تخصّص علم المصريات.
مدير عام اليونسكو الجديد خصّ “الشرق” بهذا الحوار حول المنصب والطموحات والتحديات التي يواجهها.
ماذا يعني لكم انتخابكم بالإجماع لإدارة منظمة اليونسكو؟
حين تمّ الإعلان عن حصولي على 55 صوتاً، مقابل صوتين فقط، شعرت بمزيج عميق من الامتنان والمسؤولية أكثر من أي شعور آخر.
كانت لحظة إنسانية صادقة، لحظة وعي بأن هذا الفوز ليس انتصاراً شخصياً، بل انتصار لفريق عمل مؤمن، ولدولة وضعت ثقلها خلف مرشّحها، ولمنطقة بأكملها أرادت أن يُسمع صوتها داخل اليونسكو.
مرّ في ذهني أيضاً مشهد الرحلة الطويلة التي سبقت هذه اللحظة. أشهر من العمل الدبلوماسي المكثّف، من اللقاءات والحوارات عبر القارات. من الإيمان بأن التراث والتعليم والثقافة يمكن أن تكون أدوات حقيقية للتقارب لا للخلاف.
لكن فوق كل ذلك، أدركت أن هذا التفويض الكبير، بهذا الإجماع غير المسبوق، يعني ثقة دولية يجب أن تُقابل بعمل حقيقي وجاد، وأن المسؤولية الآن أكبر من أي وقت مضى: مسؤولية قيادة منظمة عالمية في لحظة دقيقة من تاريخ البشرية.
لذلك، كانت تلك اللحظة بالنسبة لي بداية جديدة أكثر منها نهاية سباق انتخابي. بداية عهد من الالتزام بخدمة الثقافة، والسلام، والإنسان في كل مكان.
عمّت موجة فرح في الوطن العربي بإعلان توليكم تلك المنظمة العريقة كأول مصري وعربي، فكيف تنظرون إلى تطلعات الشعوب العربية في مجالات الثقافة والتعليم والآثار؟
موجة الفرح لم تكن بالنسبة لي مجرد تعبير عن الفخر، بل كانت رسالة عميقة تحمل آمال الشعوب العربية وتطلعاتها نحو مستقبل أكثر إشراقاً في مجالات الثقافة والتعليم والعلوم.
أنظر إلى هذه التطلعات باعتبارها حقاً مشروعاً ومسؤولية مشتركة. فالشعوب العربية تمتلك تراثاً حضارياً وإنسانياً عظيماً، لكنها في الوقت ذاته تتطلع إلى أن تتحوّل هذه الثروة الثقافية إلى قوة ناعمة فاعلة تسهم في التنمية المستدامة، وفي بناء جسور التواصل بين الشعوب.
في مجال التعليم، أرى أن أولويتنا هي تمكين الشباب العربي من التعليم الجيد المنفتح على المستقبل، مع الحفاظ على هويته الثقافية. أما في مجال الثقافة والآثار، فهدفنا أن نعمل على تعزيز حضور التراث العربي في خريطة التراث العالمي، ليس فقط باعتباره ماضيًا نفخر به، بل أساسًا لصياغة مستقبل يقوم على المعرفة والإبداع.
سوف أعمل على أن تكون اليونسكو منصّة للعالم العربي ليُعبّر عن نفسه بثقة، وليشارك برؤيته وخبراته في صياغة مستقبل الإنسانية — مستقبل قوامه التعليم، والسلام، والتفاهم المتبادل بين الثقافات.
تعاني “اليونسكو” من مشكلات مزمنة كالتمويل والتسييس، فكيف ستتعاطون مع تلك التحديات؟
تعاني منظمة اليونسكو بالفعل منذ سنوات من تحديات مزمنة تتعلق بالتمويل وبمحاولات التسييس التي أثّرت أحياناً على استقلالية القرار داخلها. وهذه من أهم الملفات التي أضعها في قلب أولوياتي منذ اليوم الأول لتولي المسؤولية.
تقوم رؤيتي في هذا الشأن على ثلاثة محاور رئيسة. أولاً: إصلاح منظومة التمويل من خلال تنويع مصادره وتعزيز الشراكات مع القطاعين العام والخاص. وتشجيع المساهمات الطوعية غير المشروطة من الدول الأعضاء. علينا أن نعيد الثقة بالمنظمة كمؤسسة تستثمر في الإنسان، لا كجهاز بيروقراطي، وأن نثبت أن كل دولار يُنفق في اليونسكو يعود بقيمة ملموسة على المجتمعات.
ثانياً: تحصين اليونسكو من التسييس عبر الالتزام الصارم بمبادئ الحياد والموضوعية، والعودة إلى جوهر رسالتها الأصلية. العلم، والثقافة، والتعليم كجسور للسلام والتفاهم بين الشعوب. لن تكون المنظمة ساحة لتصفية الحسابات السياسية، بل منصة للحوار الإنساني والتعاون الدولي.
ثالثاً: تعزيز الكفاءة والشفافية الداخلية، من خلال مراجعة الهياكل الإدارية وتبسيط الإجراءات لضمان سرعة التنفيذ وجودة الأداء، بما يجعل اليونسكو أكثر قدرة على الاستجابة للتحديات الحديثة.
إن إعادة الحيوية إلى المنظمة لا تكون بالشعارات، بل بالفعل الجماعي، وأنا مؤمن بأن اليونسكو قادرة على استعادة دورها الريادي عالمياً متى ما عملنا معاً بإخلاص وإيمان برسالتها الإنسانية السامية.
هل سيؤثر انسحاب بعض الدول مثل الولايات المتحدة على أداء المنظمة؟
إن انسحاب أي دولة من الدول الأعضاء، لا سيما إذا كانت من الدول ذات الثقل السياسي والاقتصادي، يُحدث أثراً على أداء المنظمة، سواء من ناحية التمويل أو المشاركة في صنع القرار. غير أن اليونسكو بطبيعتها منظمة أممية قائمة على التعددية والتعاون الدولي، وأثبتت عبر تاريخها أنها قادرة على الصمود والتكيّف مع التحديات السياسية والمالية على حد سواء.
من وجهة نظري، فإن انسحاب بعض الدول لا ينبغي أن يُنظر إليه كأزمة، بل كفرصة لتعزيز استقلالية المنظمة، وإعادة تعريف شراكاتها الدولية، على أساس الثقة المتبادلة والمصالح المشتركة.
علينا أن نعمل على تنويع مصادر التمويل، وتوسيع قاعدة المساهمات الطوعية من الدول والمؤسسات والأفراد، حتى لا ترتبط استدامة برامجنا بقرار سياسي هنا أو هناك. كما أنني مؤمن بأن قوة اليونسكو الحقيقية لا تُقاس بعدد أعضائها فقط، بل بقدرتها على التأثير الإيجابي في حياة الشعوب.
سنعمل بكل جهد لإبقاء الأبواب مفتوحة أمام الحوار والتعاون مع كل الدول، بما في ذلك تلك التي انسحبت، لأن رسالة اليونسكو تتجاوز الخلافات السياسية، وتقوم على بناء السلام من خلال التعليم والثقافة والعلم والتفاهم الإنساني.
بكلمة واحدة، لن نسمح لأي انسحاب أن يحدّ من طموحنا، بل سيكون حافزًا لنا لتحقيق المزيد من الكفاءة، والاعتماد على الذات، والعمل الجماعي الحقيقي من أجل الإنسانية جمعاء.
إصلاحات مقبلة
ما أبرز الإصلاحات التي تعملون عليها الآن؟
أبرز الإصلاحات التي أودّ أن أدشنها داخل منظمة اليونسكو حال تأكيد انتخابي من قبل المؤتمر العام مطلع الشهر المقبل، تتركز في جعلها أكثر فاعلية ومرونة وقدرة على الاستجابة للتحديات المعاصرة، من خلال حزمة من الإجراءات المؤسسية والهيكلية التي تمسّ جوهر عمل المنظمة.
أولاً، أعمل على إعادة هيكلة منظومة الحوكمة والإدارة لتصبح أكثر كفاءة وشفافية، عبر تقليص البيروقراطية، وتحديث آليات اتخاذ القرار، بما يضمن سرعة التنفيذ دون الإخلال بالرقابة والمساءلة.
ثانياً، هناك توجه واضح نحو التحوّل الرقمي الكامل لعمل المنظمة، سواء في إدارة البرامج، أو في التواصل مع الدول الأعضاء. نعمل على إنشاء منصّة رقمية موحّدة تسهّل تبادل البيانات والخبرات، وتتيح الوصول المفتوح إلى موارد اليونسكو المعرفية والتعليمية والثقافية.
ثالثاً، أُولي اهتماماً كبيراً بملف التمويل المستدام، من خلال تنويع مصادر الدخل، وتشجيع الشراكات مع القطاعين العام والخاص، والمؤسسات الأكاديمية، والمجتمع المدني، بما يضمن استقلالية القرار المالي واستمرارية المشاريع الحيوية.
رابعاً، هناك محور جوهري يتمثل بتمكين الشباب والنساء داخل المنظمة وفي الدول الأعضاء، عبر إطلاق برامج تدريبية ومسارات قيادية جديدة، لأن تجديد الدماء هو السبيل لتجديد الفكر.
أخيراً، أعمل على تعزيز الحضور الميداني لليونسكو، بحيث لا تبقى مجرد مؤسسة مركزية في باريس، بل تمتد فعلياً إلى الميدان، أي إلى المدارس والمواقع التراثية والمجتمعات المحلية في كل قارة.
هدفنا أن تصبح اليونسكو في السنوات القادمة أكثر قرباً من الناس، وأكثر تأثيراً في الواقع، وأكثر قدرة على صنع الفارق في التعليم والثقافة والعلوم على مستوى العالم.
تزخر المنطقة العربية بتراث مادي ومعنوي هائل ومع ذلك تضررت الآثار نتيجة الحروب المستمرة، هل يمكن أن تكون هناك قوانين تمنع التعرّض للتراث الإنساني وعقوبات رادعة لمن يدمرها؟
سؤال في غاية الأهمية، لأنه يلامس جوهر رسالة اليونسكو في صون التراث الإنساني باعتباره ذاكرة البشرية المشتركة لا ملكية تخص دولة بعينها.
بالفعل، المنطقة العربية تمتلك أحد أغنى الأرصدة التراثية في العالم، لكنها في الوقت ذاته من أكثر المناطق التي تعرضت مواقعها الأثرية للدمار نتيجة الحروب والنزاعات والإرهاب والاتجار غير المشروع بالآثار.
من هذا المنطلق، أرى أن الوقت قد حان لأن يتطور الإطار القانوني الدولي لحماية التراث، حيث لا يقتصر على الاتفاقيات القديمة مثل اتفاقية لاهاي لعام 1954 أو اتفاقية حماية التراث العالمي لعام 1972. بل يتم تحديثها لتشمل آليات تنفيذية أكثر صرامة وشمولية.
سنعمل في اليونسكو على الدفع نحو اعتماد ميثاق دولي محدّث لحماية التراث في مناطق النزاع، يتضمن توصيات بإنشاء نظام إنذار مبكر لحماية المواقع المهددة، وآليات رصد دولية.
لكن الجانب القانوني وحده لا يكفي، فالحماية الحقيقية تبدأ بالوعي والتعليم وبناء احترام التراث في وجدان الشعوب. ولذلك سنعمل على برامج تعليمية وتوعوية في الدول الأعضاء لترسيخ مفهوم أن حماية التراث ليست مسؤولية الحكومات فقط، بل واجب إنساني مشترك. فالتراث الذي يُدمَّر اليوم هو جزء من ذاكرة الإنسانية، وضياعه خسارة لنا جميعًا، وليس لشعب أو دولة بعينها.
ملف نهب الآثار
في السياق نفسه ماذا عن ملف سرقة ونهب الآثار. هل يمكن وضع آليات محكمة لإيقاف تلك التجارة غير المشروعة واستعادة ما يتم نهبه؟
سؤال مهم للغاية، لأنه يمسّ أحد أخطر التحديات التي تواجه التراث الإنساني، وهو النهب والاتجار غير المشروع بالآثار، وهي جريمة لا تقل خطورة عن تدمير المواقع نفسها.
من هذا المنطلق، نولي في اليونسكو هذا الملف أولوية قصوى، ونعمل على تطوير منظومة أكثر فعالية لمكافحة هذه الجريمة. تشمل تعزيز التعاون الدولي المشترك بين الدول والمؤسسات الأمنية والقضائية، واستخدام التكنولوجيات الحديثة، والتعاون مع المنصّات الإلكترونية المختلفة للحدّ من ظاهرة بيع القطع الأثرية عبر الإنترنت.
في النهاية، حماية التراث ليست فقط مسألة استعادة أحجار أو تماثيل، بل هي استعادة جزء من هوية الشعوب وذاكرتها التاريخية. وسأعمل من موقعي على أن تكون اليونسكو صوتاً قوياً وعادلاً لكل دولة سُرق منها جزء من تاريخها، حتى يعود إلى مكانه الطبيعي: بين أيدي أصحابه، وبين صفوف التاريخ الإنساني المشترك
كيف برأيكم نستطيع الحفاظ على تراثنا المصري والعربي في شقّه المادي واللامادي، وهل يمكن أن يفيد الذكاء الاصطناعي بذلك؟
الحفاظ على تراثنا المصري والعربي يمثّل في جوهره حفاظاً على هويتنا وذاكرتنا الجماعية. فهو ليس مجرد ماضي نحتفي به، بل رأسمال ثقافي وإنساني يُلهم حاضرنا ومستقبلنا.
ولتحقيق ذلك، يجب أن نتحرك على مسارات متكاملة تبدأ بالتوثيق الرقمي الشامل لكل عناصر التراث، باستخدام أحدث التقنيات مثل التصوير ثلاثي الأبعاد والمسح بالليزر والواقع الافتراضي، بما يضمن حفظ نسخة رقمية دقيقة للأجيال القادمة.
كما أن الإدارة المستدامة للمواقع التراثية، تمثّل عنصراً أساسياً في هذا الجهد. فالمواقع الأثرية ليست كيانات جامدة، بل منظومات حيّة تحتاج إلى تخطيط وإدارة تشاركية بين الدولة والمجتمع المحلي، توازن بين الحفاظ عليها وتنميتها سياحياً وثقافياً دون المساس بأصالتها.
وفي موازاة ذلك، يظل الوعي الثقافي هو الركيزة الأعمق للحفاظ على التراث، لأن صونه يبدأ من المدرسة والأسرة، عبر ترسيخ قيم الانتماء والاعتزاز بالهوية. فالمجتمعات الواعية بثقافتها هي الأقدر على حمايتها ونقلها.
أما الذكاء الاصطناعي، فهو اليوم أداة استثنائية يمكن توظيفها لخدمة التراث الإنساني، سواء من خلال تحليل النقوش القديمة واللغات المندثرة، أو التنبؤ بمخاطر التغيّرات المناخية على المواقع الأثرية. كذلك رصد ومكافحة الاتجار غير المشروع بالآثار عبر تتبع الصور والبيانات على الإنترنت.
الذكاء الاصطناعي، في النهاية، ليس بديلاً عن الإنسان، بل شريك في حماية ذاكرته الإنسانية. ومهمتنا في اليونسكو هي أن نضمن أن يكون هذا التقدّم العلمي في خدمة الثقافة والهوية، لا على حسابهما. وأن نستثمره لبناء جسر بين الماضي والمستقبل، يجمع الإنسان بتراثه لا يفصله عنه.
رسالة إنسانية
يُعدّ التعليم من الملفات الأساسية في عمل منظمة اليونسكو، فما هي تصوراتكم لتطويره وتوفيره خصوصاً في الأماكن التي انهارت فيها سلطة الدولة كما في اليمن والسودان؟
التعليم هو جوهر رسالة اليونسكو، وهو الأساس الذي تُبنى عليه كل جهود التنمية والسلام. في المناطق التي تعاني من النزاعات أو انهيار مؤسسات الدولة، فإن التحدي لا يقتصر على توفير التعليم، بل على ضمان استمراريته وحمايته من أن يصبح ضحية للصراع.
رؤيتي في هذا الملف تقوم على ثلاثة محاور متكاملة. أولها التعليم في حالات الطوارئ، من خلال برامج مرنة، توفّر بيئات تعليمية آمنة للأطفال حتى في أصعب الظروف، سواء عبر المدارس المؤقتة، أو المنصّات الرقمية منخفضة التكلفة. أو دعم المبادرات المجتمعية المحلية التي تملأ فراغ الدولة.
ثانيها تأهيل المعلمين وبناء قدراتهم، لأن المعلم في هذه السياقات هو ليس مجرد ناقل معرفة، بل حامل رسالة أمل واستقرار. يجب أن نوفّر له التدريب، والدعم النفسي، والأدوات الرقمية التي تمكّنه من أداء دوره بفعالية.
أما المحور الثالث فهو الشراكات الدولية، فالتعليم في مناطق الأزمات لا يمكن أن يكون مسؤولية دولة واحدة أو جهة واحدة. علينا توحيد الجهود بين الحكومات، والمنظمات الأممية، والمجتمع المدني، والقطاع الخاص، لتعبئة الموارد، وضمان الوصول إلى كل طفل محروم من حقه في التعلّم.
هدفي هو أن نُعيد للتعليم دوره كحائط صدّ أمام التطرّف، وكجسر نحو مستقبل أفضل، وأن نُثبت للعالم أنه حتى في زمن الحروب، يمكن للعلم أن يكون بارقة النور التي لا تنطفئ.
									 
					