أطلقت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب خطة شاملة للذكاء الاصطناعي، تهدف إلى ترسيخ ريادة الولايات المتحدة في هذا المجال الحيوي، ليس فقط من خلال امتلاك أقوى الأنظمة الذكية، بل عبر توظيفها بأساليب إبداعية تُحدث تحولاً جذرياً في الاقتصاد والخدمات العامة والأمن القومي. وتعكس الخطة رؤية الإدارة القائمة على دعم القطاع الخاص كمحرك أساسي للابتكار، في بيئة تنظيمية مرنة ومحفزة.
وترى الخطة أن إطلاق العنان لقوة الذكاء الاصطناعي يتطلب إزالة العوائق البيروقراطية والتنظيمية، وهو ما بدأته الإدارة بإلغاء الأمر التنفيذي 14110 الذي صدر خلال ولاية الرئيس السابق جو بايدن، لما يحمله من قيود ثقيلة على الابتكار.
وتشدد خطة العمل التي نشرها البيت الأبيض، على عدم تمويل الولايات التي تفرض قيوداً صارمة على استخدام الذكاء الاصطناعي، مع احترام حق الولايات في إصدار قوانين عقلانية لا تعرقل التقدم التكنولوجي.
وتسعى الإدارة إلى حشد آراء القطاع الخاص والمواطنين عبر مشاورات عامة يقودها “مكتب السياسة العلمية والتقنية”، لتقييم العقبات الحالية أمام تبني الذكاء الاصطناعي، كما تُلزم الخطة الوكالات الفيدرالية بمراجعة شاملة للوائح والقوانين التي تعرقل التطور، على أن تتخذ لجنة الاتصالات الفيدرالية ولجنة التجارة الفيدرالية إجراءات مماثلة لضمان بيئة تنظيمية داعمة.
وتضع الخطة حماية حرية التعبير في قلب التوجهات التكنولوجية، محذّرة من خطر تسخير الذكاء الاصطناعي لأجندات أيديولوجية. وتوصي بتعديل إطار NIST لإدارة المخاطر من خلال حذف إشارات إلى مفاهيم مثل “المعلومات المضللة” و”التنوع والإنصاف”، إلى جانب التأكد من حيادية النماذج التي تعتمدها الحكومة الفيدرالية، كما تقترح مراقبة النماذج القادمة من الصين للكشف عن أي تحيزات لصالح الحزب الشيوعي.
وتعزز الخطة من دعم النماذج مفتوحة المصدر، بوصفها حلاً فعالاً للمؤسسات الصغيرة والأكاديميين، وتوصي بتوفير بنية تحتية حوسبية مستدامة ومرنة لتيسير الوصول إلى القدرات الفائقة. كما تدعو إلى تأسيس خطة وطنية جديدة للبحث والتطوير، وتوفير منصة حكومية لتبادل هذه الموارد مع مختلف الأطراف.
وتلفت الخطة إلى أن التحدي الحقيقي يكمن في بطء تبني الذكاء الاصطناعي رغم توفر الأدوات، نتيجة غياب الثقة والمعايير، وتقترح إنشاء “مراكز امتياز” و”بيئات اختبار” لتسريع الاعتماد الآمن والفعال للذكاء الاصطناعي، إلى جانب مبادرات قطاعية بقيادة المعهد الوطني للمعايير والتقنية لتحديد احتياجات كل صناعة على حدة.
أما في الشق الأمني، فتطالب الخطة بتحديث تقييمات الذكاء الاصطناعي على مستوى الولايات المتحدة والخصوم، وتوسيع نطاق جمع المعلومات بشأن المشروعات الأجنبية المتقدمة التي قد تهدد الأمن القومي.
وتعتمد الخطة نهجاً يقوم على “أجندة العامل أولاً”، من خلال تعزيز التعليم الفني، وتسهيل الحصول على إعفاءات ضريبية للتدريب، وإنشاء مركز وطني لتقييم تأثير الذكاء الاصطناعي على سوق العمل، وتمويل برامج إعادة تأهيل للعاملين المتضررين، وتنفيذ تجارب عملية على مستوى الولايات لصياغة حلول قابلة للتطبيق.
وتُبرز الخطة ضرورة تعزيز التصنيع المحلي للتقنيات المتقدمة كالروبوتات والطائرات دون طيار، عبر استثمار موارد حكومية متنوعة في البحث والتطوير، وتيسير سلاسل التوريد الوطنية بالتعاون مع القطاع الخاص.
وفي مجال البحث العلمي، تسعى الخطة إلى إحداث ثورة في البنية التحتية المختبرية، من خلال تمويل مختبرات مؤتمتة مدعومة بسُحب بيانات ضخمة، كما توصي بتحفيز الباحثين على نشر البيانات، وإنشاء برنامج لتسلسل الجينوم على الأراضي الفيدرالية لتدريب النماذج البيولوجية المستقبلية.
وتنبه الخطة إلى أهمية تجاوز حدود الذكاء الاصطناعي الحالية من خلال استثمارات نظرية وتجريبية في نماذج ثورية جديدة، كما تسلط الضوء على التحديات المتعلقة بشفافية النماذج وسهولة تفسير قراراتها، وتدعو إلى تعاون بين هيئة البحوث الدفاعية، والمعهد الوطني للمعايير والتقنية، ومؤسسة العلوم الوطنية لإطلاق برامج بحثية تحقق اختراقات حاسمة.
وفي ميدان التقييم، تحث الخطة على تطوير أدوات علمية دقيقة لقياس كفاءة النماذج، مع إنشاء بيئات اختبار واقعية، وعقد اجتماعات دورية لتبادل الخبرات بين الجهات الحكومية والبحثية.
وعلى صعيد الإدارة الحكومية، ترى الخطة أن الذكاء الاصطناعي يمثل فرصة تاريخية لتعزيز كفاءة المؤسسات العامة، وتوصي بتشكيل مجلس مشترك للذكاء الاصطناعي، وتبادل الكفاءات بين الوكالات، وبناء صندوق مشتريات ذكي يُمكّن المؤسسات من اختيار أفضل النماذج بما يتوافق مع متطلباتها.
كما تطالب الخطة وزارة الدفاع بتسريع دمج الذكاء الاصطناعي في العمليات العسكرية والإدارية، وتحديد المهارات المطلوبة، وتأسيس ميدان اختباري افتراضي، وتطوير آلية لتصنيف المهام القابلة للأتمتة، وتحث على توقيع اتفاقيات تمنح الوزارة أولوية في استخدام الحوسبة الفائقة وقت الطوارئ، وتحويل الكليات العسكرية إلى حاضنات للتعليم والبحث في هذا المجال.
وتشدد الخطة على ضرورة حماية الابتكارات الأميركية في الذكاء الاصطناعي من الهجمات السيبرانية والتهديدات الداخلية، من خلال شراكات وثيقة بين القطاعين العام والخاص.
وتثير الخطة قضية “الوسائط المزيفة” محذرة من آثارها على العدالة، وتوصي بتطوير معيار رسمي من المعهد الوطني للمعايير والتقنية لتقييم هذه الوسائط، وتقديم إرشادات قضائية عبر وزارة العدل، لضمان عدم استغلالها في تضليل المحاكم.
وبذلك، تطرح إدارة ترمب وثيقة متكاملة، توازن بين تسريع الابتكار، وحماية القيم الأميركية، وتعزيز الأمن القومي في عصر الذكاء الاصطناعي.
تأسيس البنية التحتية
وضعت الولايات المتحدة خطة طموحة تهدف إلى إنشاء بنية تحتية وطنية قادرة على مواكبة متطلبات الذكاء الاصطناعي، من خلال إصلاح شامل في مجالات الطاقة، والصناعة، والأمن السيبراني، والتعليم الفني.
وترى الخطة أن عصر الذكاء الاصطناعي يتطلب توسعة غير مسبوقة في قدرات توليد الطاقة، إذ ظلت الشبكة الكهربائية الأميركية شبه راكدة منذ السبعينيات، في حين واصلت الصين توسيع شبكتها بوتيرة متسارعة، معتبرة أن هيمنة أميركا في هذا المجال لن تتحقق دون تغيير هذا الواقع، عبر بنية تحتية جديدة تشمل مصانع رقائق، ومراكز بيانات، ومصادر طاقة متقدمة.
وفي هذا السياق، تدعو الخطة إلى تبسيط إجراءات التراخيص البيئية، وتسريع بناء مراكز البيانات ومرافق تصنيع أشباه الموصلات، مع ضمان أن تكون هذه المشروعات خالية من أي تقنيات أجنبية معادية، وتوصي بتوسيع استخدام آلية “FAST-41” وتعديل قوانين مثل “قانون المياه النظيفة” لتسهيل إنشاء هذه البنية، مع توفير أراضٍ اتحادية مناسبة، وحماية مكونات الطاقة والاتصالات من الاختراقات الأجنبية.
وفي ما يتعلق بالشبكة الكهربائية، تدعو الخطة إلى تعزيز استقرارها الحالي، واستغلال الطاقات الاحتياطية، وتطوير تقنيات إدارة الشبكات، كما تشجع على دمج مصادر الطاقة الجديدة مثل الطاقة الحرارية الجوفية والاندماج النووي، وإصلاح الأسواق المالية للطاقة لتمكين هذه الاستثمارات.
وفي قطاع أشباه الموصلات، تطالب الخطة بإعادة التصنيع إلى الأراضي الأميركية دون فرض شروط أيديولوجية على الشركات، مع التركيز على إدماج أدوات الذكاء الاصطناعي في عمليات التصنيع.
أما في الجانب الأمني، فترى الخطة أن مراكز البيانات الخاصة بالاستخبارات والدفاع يجب أن تتمتع بأقصى درجات الحماية، مع وضع معايير جديدة لهذه البنى بإشراف وزارة الدفاع ووكالات الأمن القومي.
ولم تغفل الخطة البُعد البشري، إذ تدعو إلى تدريب قوة عاملة متخصصة تشمل فنيي الكهرباء والتبريد وغيرهم من المهن الفنية، عبر برامج تعليمية ومهنية بالشراكة مع القطاعين العام والخاص، تبدأ من المدارس وتصل إلى التلمذة الصناعية والجامعات التقنية.
وتولي الخطة أهمية خاصة لحماية البنى التحتية من التهديدات السيبرانية المرتبطة بالذكاء الاصطناعي، عبر إنشاء مركز وطني لتبادل معلومات الأمن السيبراني (AI-ISAC)، وإصدار إرشادات للقطاع الخاص، وتعزيز المعايير الأمنية في البرمجيات والأنظمة الذكية.
وتدعو أيضاً إلى إدماج الذكاء الاصطناعي في منظومات الاستجابة للطوارئ، من خلال تحديث الأدلة التشغيلية لوكالات الأمن، وتشكيل فرق متخصصة تتولى تقييم الحوادث والاستجابة لها بسرعة وفعالية.
تحقيق الريادة ومواجهة التنين
تسعى الولايات المتحدة إلى ترسيخ ريادتها في سوق الذكاء الاصطناعي العالمي، مدركة أن التفوق في هذا المجال لا يقتصر على الداخل، بل يتطلب بناء تحالفات استراتيجية ونفوذ دولي يحول دون استغلال الخصوم لثمار الابتكار الأميركي.
وتتمثل رؤية إدارة ترمب في تصدير الحزمة الكاملة من تقنيات الذكاء الاصطناعي إلى الحلفاء، وتشمل العتاد والبرمجيات والنماذج والمعايير، بما يضمن استقلال شركاء واشنطن عن التقنيات المعادية، ويكرّس الاعتماد على المنظومة الأميركية.
وتقترح الخطة إنشاء برنامج اتحادي في وزارة التجارة يستقبل عروض الكيانات الصناعية لتصدير حزم الذكاء الاصطناعي إلى الدول المتحالفة، على أن تُسهم الوكالات المختصة مثل هيئة التنمية التجارية، ووزارة الخارجية، وبنك التصدير والاستيراد في تسهيل هذه الصفقات وفق ضوابط أمنية أميركية صارمة.
في الوقت ذاته، تحذر الخطة من محاولات الصين للتغلغل في منظمات الحوكمة الدولية مثل الأمم المتحدة، ومجموعة السبع، والاتحاد الدولي للاتصالات، بهدف فرض أجندتها التقنية في مجالات مثل التعرف على الوجه والمراقبة، ولهذا تؤكد الخطة ضرورة تفعيل الدور الدبلوماسي الأميركي للدفاع عن الابتكار الحر والقيم الليبرالية، ومواجهة النفوذ الاستبدادي داخل هذه الكيانات.
ومن الجوانب المحورية أيضاً، تعزيز الرقابة على تصدير قدرات الحوسبة المتقدمة، إذ ترى الخطة أن رقائق الذكاء الاصطناعي المتطورة تُمثل مورداً استراتيجياً يمكّن الخصوم من تطوير قدرات اقتصادية وعسكرية متقدمة، كما تقترح استخدام مزايا التحقق من الموقع الجغرافي لضمان عدم وصول الرقائق إلى دول مثيرة للقلق، وتكثيف التنسيق مع أجهزة الاستخبارات لتحديد وجهات الاستخدام المشبوهة حول العالم.
وتلفت الخطة إلى وجود ثغرات في أنظمة الرقابة على صادرات صناعة أشباه الموصلات، إذ تُقيَّد الأجهزة الكبرى بينما لا تخضع بعض الأنظمة الفرعية للرقابة، ما يمنح فرصة للخصوم لاستغلال هذه الثغرات. وتقترح معالجة هذا النقص عبر لوائح جديدة تشمل جميع مكونات سلسلة الإنتاج.
وتدعو الخطة إلى توحيد إجراءات الحماية التقنية مع الحلفاء، عبر خطة دبلوماسية شاملة تقودها وزارة الخارجية، لضمان التزام الدول الصديقة بسياسات التصدير الأميركية ومنع أي محاولات “ردم الفجوات” التي قد تسمح بوصول التقنيات إلى أيدي خصوم واشنطن.
وفي ما يخص التهديدات الأمنية، تشمل الخطة تقييم المخاطر التي قد تنجم عن النماذج المتقدمة من الذكاء الاصطناعي، بما في ذلك استخدامها في الهجمات السيبرانية أو تصنيع أسلحة الدمار الشامل، وتقترح تشكيل فرق تقييم مشتركة تضم وزارة التجارة ووكالات الأمن القومي وخبراء مستقلين لتحديد نقاط الضعف في النماذج الأميركية، ومراقبة اعتماد البنية التحتية الأميركية على تقنيات أجنبية قد تتضمن أبواباً خلفية أو سلوكيات خبيثة.
وتولي الخطة أهمية كبيرة للاستثمار في الأمن البيولوجي، محذرة من أن الذكاء الاصطناعي قد يتيح لمجرمين أو دول معادية تصميم مسببات أمراض خطيرة أو جزيئات بيولوجية مؤذية، وتدعو إلى فرض إجراءات صارمة على مختبرات الأبحاث الممولة اتحاديًا، تلزمها باستخدام أدوات متقدمة للتحقق من تسلسل الحمض النووي وتحديد الجهات المتعاملة معها، فضلاً عن إنشاء آلية لتبادل بيانات الزبائن المشبوهين بين مزودي هذه الخدمات.
الصين وأميركا.. صراع على النفوذ
تأتي خطة العمل الأميركية في مشهد عالمي يتغير بوتيرة مذهلة، إذ يشهد قطاع الذكاء الاصطناعي سباقًا محمومًا على النفوذ والسيطرة، تغذّيه أرقام متسارعة ومصالح متقاطعة، بعدما تجاوز حجم السوق العالمية للذكاء الاصطناعي حاجز 279 مليار دولار في عام 2024، ومن المتوقع أن تقفز إلى أكثر من 1.8 تريليون دولار بحلول عام 2030، بمعدل نمو سنوي مركب يبلغ نحو 36%.
وتشمل هذه السوق قطاعات حيوية متعددة تمتد من البرمجيات والروبوتات إلى الرعاية الصحية والنقل والطاقة، ما يجعلها إحدى أكثر أدوات التأثير الجيوسياسي والاقتصادي حساسية في القرن الحادي والعشرين.
في قلب هذا المشهد، تتربع الولايات المتحدة على قمة السباق من حيث الاستثمارات والابتكار، إذ بلغت استثمارات أميركا في الذكاء الاصطناعي نحو 67.2 مليار دولار في عام 2024 في القطاع الخاص وحده، متقدمة بفارق شاسع عن الصين التي أنفقت نحو 7.8 مليارات دولار.
ويعود هذا التفوق إلى ريادة شركات عملاقة مثل “مايكروسوفت”، و”ميتا”، و”جوجل”، و”OpenAI”، التي تهيمن على البنية التحتية السحابية، وتملك أفضل النماذج اللغوية، إلى جانب منظومة تشريعية وتمويلية تُغذي هذه الطفرات بتدفقات مالية تخطّت 400 مليار دولار في عام 2025 فقط.
غير أن بكين لم تقف مكتوفة الأيدي. فطوال العقد الماضي، عملت الصين على سدّ الفجوة، معتمدة على استراتيجية قائمة على الابتكار المحلي، والإنتاج الضخم، وتكثيف الأبحاث العلمية، ونجحت في الاستحواذ على نحو 25 إلى 30% من قدرات الحوسبة العالمية المستخدمة في الذكاء الاصطناعي، وأنتجت مئات براءات الاختراع، ونشرت آلاف الأوراق البحثية، ما جعلها منافسًا مباشرًا لواشنطن، رغم ما تفرضه الأخيرة من قيود صارمة على تصدير الرقائق الدقيقة وأشباه الموصلات.