اخر الاخبار

خطوة لأجل العدالة –

غزوان قرنفل

في لقائه مع ثلة من الجالية السورية في باريس، صرح الرئيس المؤقت أحمد الشرع لمن حضروا اللقاء بأن قرارًا بتشكيل هيئة وطنية للعدالة الانتقالية وأخرى لتحديد مصير المفقودين سيصدر قريبًا، وهذا أيضًا ما سبق للوزير أسعد الشيباني أن صرح به في خطاب ألقاه بالأمم المتحدة، على ما أذكر، وهو قرار مهم وخطوة بالاتجاه الصحيح للتأسيس لمسار واضح للمساءلة والمحاسبة عن الجرائم والانتهاكات التي ارتكبت بحق السوريين خلال سنوات الصراع على الأقل، فضلًا عن كونها تؤسس لمرحلة جديدة يفترض أن ترسخ مفاهيم جديدة ترفض ثقافة الإفلات من العقاب، وتعيد للعدالة معناها وقيمتها العليا في المجتمع، وتعلي من مبدأ سيادة القانون.

والحقيقة أنني أفضّل تأجيل الحديث عن الهيئتين إلى ما بعد صدور قرار بتشكيلهما، وبعد أن نعرف طبيعة المسار الذي ستعمل عليه كل منهما، وحدود دوريهما وكل ما يخص استقلاليتهما وآليات عملهما، فالحكم على الأمور حينذاك يكون أكثر موضوعية وإنصافًا من استباقها.

لكن سأخصص هذا المقال اليوم لنقطة واحدة أعتقد أنها أكثر من ضرورية، تتعلق بحق السوريين بالإنصاف ومحاسبة كبار رموز الإجرام في النظام السابق، وهم في أغلبيتهم تمكنوا مبكرًا من الفرار من سوريا بعد أن أعملوا بالسوريين قتلًا وإجرامًا ونهبوا مقدراتهم وركنوا الآن في منافيهم ينعمون بما نهبوا دون أن تطولهم يد العدالة.

ما أقصده هنا تحديدًا هو وجوب أن توقع السلطات السورية الجديدة على ميثاق روما المنشئ لمحكمة الجنايات الدولية وتصدّق عليه ليكون جزءًا من التزامات الدولة السورية القانونية الدولية، وذلك كمدخل لإعطاء تلك المحكمة صلاحية المساءلة عن الجرائم المرتكبة في سوريا ضمن حدود اختصاصها وصلاحياتها.

صحيح أن المادة “11” (الفقرة 2) من نظام روما الأساسي التي تتعلق بالاختصاص الزمني للمحكمة تنص على أنه: “إذا أصبحت دولة من الدول طرفًا في هذا النظام الأساسي بعد بدء نفاذه، لا يجوز للمحكمة أن تمارس اختصاصها إلا فيما يتعلق بالجرائم التي ترتكب بعد بدء نفاذ هذا النظام بالنسبة لتلك الدولة، ما لم تكن الدولة قد أصدرت إعلانًا بموجب الفقرة 3 من المادة 12″، بمعنى أن الجرائم المرتكبة قبل توقيع وتصديق الدولة على هذا الميثاق لن تكون من اختصاص المحكمة للنظر فيها، لكنها في نهاية الفقرة وضعت استثناء لهذا الأمر، وهو أنه يمكن أن تصبح لديها ولاية للمساءلة عن تلك الجرائم ومحاسبة مرتكبيها في حال أصدرت الدولة الموقعة وأودعت لدى المحكمة إعلانًا خاصًا يتضمن اعترافًا صريحًا منها باختصاص المحكمة الجنائية الدولية بشأن جرائم ارتكبت قبل توقيعها على الميثاق والتصديق عليه، فتكون بهذا الإعلان قد عقدت الولاية للمحكمة وصار لها الحق في المساءلة عن تلك الجرائم ومحاكمة مرتكبيها.

وهذا مانصت عليه الفقرة “3” من المادة “12” من نظام روما التي جاء فيها: “إذا كان قبول دولة غير طرف في هذا النظام الأساسي لازمًا بموجب الفقرة 2، جاز لتلك الدولة بموجب إعلان يودع لدى مسجل المحكمة أن تقبل ممارسة المحكمة اختصاصها فيما يتعلق بالجريمة قيد البحث، وتتعاون الدولة القابلة مع المحكمة دون أي تأخير أو استثناء وفقاً للباب 9”.

إذًا، نحن اليوم أمام فرصة مهمة وتاريخية لمساءلة أولئك الذين هزئوا بالقانون واسترخصوا حياة السوريين وهم كبار قادة النظام وأعمدة حكمه، بدءًا من بشار الأسد نفسه ووصولًا لكل أركان حكمه من القادة الأمنيين والعسكريين الكبار الذين تمكنوا من الفرار ويصعب أن تطولهم يد العدالة الوطنية.

والحقيقة أن هذا الالتزام القانوني لا يحقق فقط العدالة للسوريين عندما يرون بعض أو كل قادة بلدهم السابقين يمثلون أمام القضاء الدولي، ولا ينصف فقط الناجين وذوي الضحايا، وإنما يؤسس ويكرس قيمًا ومفاهيم جديدة للعدالة في بنية الدولة والمجتمع تسهم في صنع قطيعة مع الاستبداد ولا تتيح لأي حاكم أن يستفرد بشعبه ويعمل فيه سكاكينه وسواطيره وأسلحته التقليدية والكيماوية، غير عابئ بشيء متلطيًا وراء السيادة الوطنية والحصانة الرئاسية، فهي إذًا لن تتيح فرصة جديدة لتكرار الماضي وتؤسس في ذات الوقت لسياق جديد للعدالة.

فهل تفعلها السلطات الجديدة، وتتجه نحو هذا الخيار كأحد سبل ووسائل الحصول على العدالة للضحايا وذويهم وللسوريين أجمعين؟ أتمنى فعلًا ذلك، وأحث عليه حتى لا تتكرر مثل تلك المقتلة، وحتى تطوى فعلًا ثقافة الإفلات من العقاب وينال أولئك القتلة المجرمون ما يستحقون من عقاب.

المصدر: عنب بلدي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *