خالد كاكي من الوجوه الثقافية العراقية المعاصرة، يجمع بين الشعر والرسم والموسيقى والتأليف القصصي. ولد في مدينة كركوك عام 1971، وتخرّج من قسم اللغة الإسبانية بجامعة بغداد عام 1992، قبل أن ينتقل إلى مدريد في منتصف التسعينيات، حيث استقر فيها وواصل اشتغاله بالفن والأدب.

برز أخيراً مشروعه الجديد حول تأليف مقطوعات موسيقية، مستلهمة من أعمال أدبية روائية مهمة، بدأه بألبوم “دابادا”، عن رواية الكاتب العراقي الراحل حسن مطلك، ويتضمن 6 مقطوعات موسيقية، تم إنتاجها وتوزيعها على أهم المنصّات العالمية عام 2024.

في هذا الحوار، نتوقف مع خالد كاكي للتعرف أكثر على علاقة الموسيقى بالرواية، وتجربته في الموازنة بين الفنون الثلاث، التي شكّلت عالمه الإبداعي: الكلمة، اللون، والصوت.

ألبومك “دابادا” يجسّد رؤيتك الفنية في تحويل أجواء الرواية إلى موسيقى، كيف بدأت الفكرة؟

“دابادا” هو عنوان الرواية الوحيدة التي كتبها الروائي الشهيد حسن مطلك (1961 – 1990)، المعروف أيضاً بـ”لوركا العراق”، لارتباطِ اسمَيْ كليهما بالإعدام ظلماً وفي عمر مبكرة؛ كلمة نحتها الراحل لتكون سؤالاً محيّراً أكثر من كونها إجابة.

كان حسن كائناً شديد الشفافية والقلق؛ كائناً إبداعياً من نوع فريد، ومثقفاً عميق الإحساس بما حوله. كان مفرطاً في الولاء لحلمه بتغيير العالم نحو الأجمل والأكثر معنى، وهو الحلم الذي سيكلفه حياته لاحقاً. هذا ما يبدو لي جلياً في كل كلمة كتبها، وفي سيرة حياته القصيرة.

لماذا اخترت رواية “دابادا” تحديداً، وما الذي وجدته في نص يستحق أن يترجم موسيقياً؟

بشعورٍ عميق وصداقة لم تتحقق بيني وبينه، وبسبب فرق العمر والظروف، وإحساسي بتقارب فريد بين روحينا، قررت أن يكون ألبوم “دابادا”، تلك الموسيقى التي لم يؤلفها حسن مطلك، بل قمت أنا بذلك بالنيابة عنه. 

غير أنه رافقني روحياً ونفسياً وفكرياً من خلال عمله الروائي الفريد، خلال أوقات انشغالي بموسيقى روايته، فأصبحت أحاوره وأسمعه، وأقرؤه وأسأله ويسألني، ينصت إلى العمل الموسيقي، فيشذّب جملة هنا، ونغمة هناك.

بكيت وأنا أتخيّله يعود طفلاً إلى قريته “سديرة”، يلمس جدران الطين، ويشم القصب على ضفاف دجلة. بكيت بشدّة، وألّفت مقطوعة بعنوان “الطفل”، وأخرى بعنوان “نورس على دجلة”. هكذا التقيت بالراحل، حاولت مخلصاً استحضار روحه، لتكون شاهدة على صناعة موسيقى تصويرية ترافق أنفاسه، وهو يحصي أيام هذا العالم الماضي إلى الزوال.

كيف تقترب من الرواية عند بدء العمل على تحويلها إلى مقطوعة موسيقية؟ هل تقوم بقراءة النص أكثر من مرة، أم تركز على مشاهد وشخصيات محددة؟ 

أنا أصلاً كاتب قصص وشاعر، والموسيقى أداة أخرى أتعامل معها بنفس القدر من الإخلاص في التعبير، وهذه خصلة قد لاتتوفر إلا نادراً في شخص واحد. 

لا أقصد التفاخر، لكنها معلومة أساسية لفهم سياق العمل الذي نتحدث عنه. الرواية منزل كبير وفخم، أتنقل فيها بأفكاري وأحاسيسي لأصل إلى ما أراد كاتبها من خلال الموسيقى. 

تبدأ مسألة التناول بالمحاور الأساسية في العمل: المكان، الزمان، الشخوص، المراحل المهمة، البيئة التي ولد العمل فيها، الثيمة الأساسية، كأن يكون القلق أو الألم أو الذكريات. كلها أمور في غاية الأهمية بالنسبة لي عند محاولة التعبير عما أراد الكاتب نفسه التعبير عنه، لهذا اخترت النهر والقرية والقلعة والطفل والذكريات والأوجاع، لتكون عناوين للمقاطع.

إنتاج موسيقى تعبيرية مستلهمة من الأدب ليس أمراً مألوفاً في المشهد الفني العربي، ما هي أبرز التحديات التي واجهتك في تنفيذه؟

منذ بداياتي في الشعر والقصّة والتشكيل والموسيقى، عملت وحدي، والتحديات كانت نفسها دائماً، وكان السؤال: كيف ومتى وأين أستطيع أن أصنع ما أريد صنعه، وأين أنشره أو أجعله في متناول الجمهور؟ 

بخصوص الموسيقى، قبل أعوام كنا نصدر ألبوماً على شكل قرص “سي دي”، لكن ذلك انتهى، وأصبحت منصّات النشر الإلكتروني والمنابر، هي السوق والمصدر الأهم.

 هناك مفاهيم وتقاليد قديمة مهمة جداً تغيّرت. والتقنيات تغيرّت بدورها، وأصبح بإمكان أي شخص أن يتحوّل إلى منتج موسيقي إذا أراد، لكن بالطبع شركات الإنتاج العالمية ما زالت هي الطريق الأكثر ضماناً للترويج والنشر والتعريف بالمنجز.  

بعد ألبوم “دابادا” هل تخطط للاستمرار بتحويل روايات عربية أخرى إلى ألبومات موسيقية؟ 

ثمة الكثير من الأعمال الأدبية التي تستحق أن أتناولها موسيقياً. في الحقيقة، كنت أودّ أن تكون روايتي الأولى التي أشتغل عليها منذ وقت طويل، هو العمل الذي أُصدر معه ألبوماً موسيقياً، وهذه المرة الأولى التي أذكر فيها ذلك للصحافة، وهي فكرة أصيلة تراودني منذ بداياتي في الكتابة. 

ما أعنيه هو أن يُصدر كاتب روائي عملاً يرافق كل فصل فيه مقطع موسيقي من تأليفه، يوازي النص أو يكون خلفية له. لكن ظروفاً قاهرة منعتني من نشر روايتي، فقلت لابأس أن يكون الإحتفاء بعمل دابادا هو الأوّل من نوعه، هذا نصيب حسن، لعل روحه الخالدة تتقبل منا هذه الهدية. 

هل ترى في الموسيقى وسيلة سرد موازية أو حتى بديلة عن الكتابة التقليدية في إيصال الفكرة والمشاعر؟

الكتابة والموسيقى والرسم، كلها ثمار شجرة واحدة، وإن اختلف طعم أو لون أو شكل كل منها. بإمكان أدوات التعبير أن تكون متعددة للوصول إلى الفكرة نفسها، والقلائل هم من يمتلكون أكثر من وسيلة تعبير.

 لكل واحد أداة، ولكل فن خصوصياته وحيثياته. أحياناً نلجأ إلى الموسيقى لنعبّر عن أمر ما، وأحياناً إلى الكتابة. في فن الغناء، اجتمع كلاهما، النص الشعري والموسيقى.

الناس غالباً يعتبرون ذلك فناً واحداً وهو الغناء، لكن ينسون أن نصف الموضوع الغنائي وأساسه أحياناً كثيرة، هو الكلمة. العلاقة إذاً موجودة منذ القِدم، لكن ما أطرحه أنا، هو صناعة نص موسيقي يترجم الأدب إلى لغة الموسيقى. أما أن تكون بديلة، بالطبع فلا. أنا لا أبحث عن بدائل، بل عن إثراء الواقع بصيغ تعبيرية مبتكرة.    

بالنظر إلى تجربتك المتعددة بين الشعر والقصة والتشكيل والموسيقى، كيف يمكنك التوفيق بين هذه المسارات المختلفة؟ 

التنوّع ورطة كبيرة ولا أنصح أحداً به. لكنه أبداً لم يكن خياراً بمعنى الخيار العقلاني أو البراغماتي، بل كان سحراً لا أستطيع رفضه. 

اخترت أن أتبع سحر الأساليب وتعدّد الصنعات على حساب التخصّص. في النهاية، لا أنتظر الكثير من هذا العالم، بقدر ما أريد إسعاد ذلك الطفل الذي كنته ذات يوم ووعدته بالكثير. أشعر بالحرج من وعودي لنفسي الطفل عندما أتأخر في إصدار شيء جديد. ذلك أساس المشكلة لا أكثر.

بماذا تشتغل حالياً على مستوى الشعر والقصة والموسيقى والتشكيل؟

أكثر مايشغلني بصراحة – أو ماقصّرت فيه مع نفسي- هو استكمال كتابة أكثر من رواية تركتها أنصافاً وأرباع. حان الوقت للاشتغال عليها من جديد.

 بالنسبة للشعر، لدي أكثر من كتاب غير منشور، أخطّط لإصدار ما أستطيع منه. ولدي مشروع شعري فريد في صيغته أوشك على إكماله. سيكون كتاباً مختلفاً حقاً في طريقة إصداره، وهذا سرّ آخر أفشيه لكم. 

أما بالنسبة للموسيقى، فأنا أعمل على ألبوم جديد نشرت أول مقطوعة منه بعنوان “صلوات”، وهي سلسلة أعمال تأملية وروحانية. وهذا أقصى ما يسمح به وقتي حالياً.

خالد كاكي

بدأ مسيرته في سنّ مبكرة مع الرسم والخط العربي، بتأثير من شقيقه الفنان خليل كاكي. كما كتب أولى قصائده في المرحلة الابتدائية، وصنع آلة موسيقية يدوية وهو في الحادية عشرة.

أصدر عدداً من المجموعات الشعرية باللغتين العربية والإسبانية، ومنها: “بلا حذر” (1998)، و”هوامش الحارس” (2001)، “رماد شجر الرمّان” (2011). 

شارك في معارض تشكيلية في بلدان مختلفة، كما نال الجائزة الكبرى للشعر في مهرجان ليالي الشعر في رومانيا عام 2012.

حسن مطلك

أعدمه النظام العراقي السابق شنقاً في 18 يوليو 1990. خصّصت مجلة “ألواح” الصادرة في إسبانيا عددها بالكامل عنه (300 صفحة). كما خصّصت صحف عراقية وعربية عدّة أعدادها له ومنها صحيفتي المدى والزمان العراقييتين. كما كُتبت الكثير من الشهادات والدراسات حول أعماله.

شاركها.