لا يشبه شهر آب سواه في ذاكرة سكان مدينة داريا بريف دمشق، فمنذ آب 2012، لم يعد هذا الشهر يعني فقط موسم قطاف العنب الذي اشتهرت به المدينة، بل بات يرتبط في أذهان أهلها بإحدى أكبر المجازر التي ارتكبها النظام السابق خلال سنوات الثورة السورية.
رؤى الضبع، إحدى الناجيات من مجزرة داريا، لا تزال تحتفظ بتفاصيل اليوم الذي فقدت فيه والدها وثلاثة من إخوتها، وتروي قصتها والدمع يلمع خلف ابتسامة باهتة. تقول: “أخذوا كل الرجال من البناء، بينهم أبي وإخوتي الثلاثة أجلسوهم في القبو وطلبوا منهم أن يديروا وجوههم إلى الحائط، قتلوا أخي أولًا، وعندما رآه أبي صرخ، فأطلقوا النار في فمه”.
تتوقف للحظة، ثم تضيف بصوت مكسور: “لن أنسى ملامح وجه أبي المهشم، أبي الجميل الذي فقد ملامحه”.
رؤى فصل من حكاية أكبر، حكاية مدينة حاولت أن تحيا في قلب الموت، فمجزرة داريا أسفرت عن مقتل ما لا يقل عن 700 شخص.
وشنت قوات النظام السوري حملة عسكرية على المدينة استمرت أيامًا، تخللها قصف وعمليات إعدام ميداني داخل البيوت وفي الشوارع.
استمرت الحملة من 20 إلى 25 من آب 2012، لتنتهي بكارثة إنسانية تُركت جثثها في الشوارع، توثّقها الصور، وتشهد عليها صرخات الأهالي.
وبينما كان أهالي داريا يستعدون للاحتفال بعيد الفطر وقطف أولى ثمار العنب، غيّر الرصاص والدم ملامح المدينة إلى الأبد.
أكثر من 700 ضحية
عند مدخل مدينة داريا، تستقبل الداخلين إليها عبارة كتبت بعد سقوط النظام: “بالله هونًا حين تدخلها، في كل شبر شهيد قائم فيها”، كلمات تلخص وجع مدينة تحولت إلى مقبرة جماعية في صيف 2012، بحسب ما تحدث فريق التوثيق في داريا ل.
وقال فريق التوثيق، إن حصيلة المجزرة بلغت أكثر من 713 ضحية، من بينهم 508 أشخاص موثقون بالاسم، يرقدون اليوم في مقبرة الشهداء الجماعية داخل المدينة.
أما 205 جثث أخرى، فقد كانت مجهولة الهوية، بعد أن طالتها يد التشويه والحرق والتنكيل.
100 شخص اعتُبروا في عداد المفقودين، بينما اُعتقل 264 آخرون خلال المجزرة، لم يُفرج سوى عن 58 منهم، فيما قتل الباقون تحت التعذيب أو غيبوا قسريًا في سجون النظام.
“أخذوهم من أمامي ولم يعودوا”، بهذه العبارة تلخّص “أم محمد”، امرأة سبعينية، ما حدث لأولادها. اعتُقل ابناها، أحدهما بعمر 24 عامًا والثاني 22 عامًا، ضمن مجموعة من الشبان.
نُفذ إعدام ميداني بنصف المجموعة، بينما اقتيد الآخرون إلى المعتقلات، بقيت “أم محمد” سنوات تعيش على أمل عودتهم، حتى سقط النظام وفتح سجن “صيدنايا”، لتكتشف أن ولديها قضيا منذ وقت طويل داخل جدرانه الصامتة.
كانت مجزرة داريا عملية ممنهجة بدأت بالحصار، ثم قصف مكثف، أعقبه اقتحام شاركت فيه قوات من جيش النظام السوري مدعومة بميليشيات، لتنفيذ عمليات قتل جماعي داخل البيوت، دون تمييز بين النساء، الأطفال أو كبار السن.
الإعدامات الميدانية جرت بطرق مختلفة، بالسلاح الأبيض، بالرصاص، وأحيانًا بالضرب حتى الموت.
نساء عشن المجزرة
لم تكن نساء داريا مجرد مشاهدات للأحداث، في الوقت الذي فقدت فيه العديد منهن أحباءهن.
تتذكر ردينة خولاني، إحدى المسعفات في المستشفى الميداني بداريا حينها، لحظات لا تنسى من معاناة السكان خلال أيام المجزرة.
“لا أنسى اليوم الذي جاءني فيه طفل فقد قدمه، وكان والده يحملها في يده وهو يقول: “أريد طريقة لإلصاقها، ساعديني أن أعيدها”.
“اتصل بي عمي وقال لي إنهم اعتقلوا أخاكِ مع مجموعة من نحو 30 شابًا. واجهت الضابط بلا خوف وقلت إنني لن أرحل دون أخي. حاول بكل الطرق تهديدي وإبعادي، لكنني لم أذهب”، قالت سوسن عبار، إحدى الناجيات من المجزرة.
وأضافت، “بعدما أصررت على موقفي، خرج الشبان جميعًا مع أخي”.
لم تحمل كثير من النساء تخصصات طبية، لكنهن شاركن في مساعدة الجرحى بالمستشفيات الميدانية. قالت ردينة خولاني، إحدى المسعفات في المدينة، “كنت مع أختي مريم نحاول أن نقدم ما نستطيع للجرحى. رغم أننا لم نكن طبيبات، إلا أننا استطعنا إنقاذ الأرواح بشجاعة وحب للحياة”.
“مدين لكِ بحياتي”، كلمات قالها شقيق إحدى الناجيات عندما أنقذته من قبضة النظام ومنحته فرصة جديدة للحياة.
“أم عمار”، من سكان داريا، تقول: “كنت أحاول أن أكون قوية أمام أحفادي طوال اليوم وأعوضهم عن فقد أهلهم، لكن في الليل كنت أبكي أولادي الذين قتلوا أمام عيني”.
بعد المجزرة التي أودت بحياة المئات في عام 2012، بدأ القصف المكثف على المدينة نهاية نفس العام، مما أدى إلى نزوح أغلب السكان.
وبينما تراجع عدد من في المدينة إلى القليل من المدنيين والمقاتلين، دخلت المدينة تحت حصار خانق استمر لأربع سنوات، تزامن مع تدمير شبه كامل للبنية التحتية.
في 26 من آب 2016، بدأت مرحلة التهجير القسري، حيث أجبر أهالي داريا على مغادرة المدينة بالكامل باتجاه مدينة إدلب.
وبعد أن تم تهجير السكان، أُغلقت المدينة تمامًا، لتتحول إلى مدينة مهجورة خالية من أي حياة، بينما استمر النظام في سرقة وتخريب المنازل التي تركها أصحابها وراءهم.
المصدر: عنب بلدي