كشفت دراسة جديدة أُجريت على أكثر من 40 ألف مريض في الولايات المتحدة أن غياب الكالسيوم من الشرايين التاجية لا يعني فقط انخفاض احتمال الوفاة بسبب أمراض القلب، بل يشير أيضاً إلى انخفاض خطر الوفاة الناجمة عن أمراض أخرى غير مرتبطة بصحة القلب.

وتُعد هذه النتائج، التي عُرضت في الجلسات العلمية لجمعية القلب الأميركية لعام 2025 بمدينة نيو أورلينز، من بين أبرز الاكتشافات التي قد تغير الطريقة التي ينظر بها الأطباء إلى مؤشرات صحة الإنسان العامة.

بدأت الدراسة من حقيقة علمية معروفة وهي أن وجود الكالسيوم في الشرايين التاجية يُعد مؤشراً قوياً على احتمال الإصابة بمرض الشريان التاجي.

والكالسيوم الذي يظهر داخل الشرايين معدن بالفعل، لكنه لا يوجد هناك في صورته الطبيعية المفيدة كما في العظام والأسنان، بل في صورة ترسبات غير مرغوبة تتكون داخل جدران الأوعية الدموية مع مرور الوقت، وعندما تتأكسد الدهون، ويتعرض جدار الشريان للتلف، يبدأ الجسم بمحاولة إصلاح المنطقة المتضررة، فتتجمع خلايا مناعية وكوليسترول لتشكل لويحات دهنية سرعان ما تمتص أيونات الكالسيوم من الدم، فتتحول إلى كتل صلبة من أملاح الكالسيوم مثل فوسفات الكالسيوم.




كما أن وجود هذا المعدن في الشرايين علامة على تصلبها وشيخوختها، إذ يحد من مرونتها، ويزيد خطر انسدادها أو تلف الأنسجة المحيطة، ليصبح بذلك الكالسيوم – الذي يفترض أن يكون رمزاً للقوة في العظام – إشارة على الضعف حين يظهر في الأوعية الدموية.

“صفر في اختبار الكالسيوم التاجي”

أظهرت النتائج أن الأشخاص الذين يمتلكون نتيجة “صفر” في اختبار الكالسيوم التاجي يتمتعون بنسبة عالية من نقاء الشرايين من التكلسات أو اللويحات المتقدمة.

في المقابل، يرتفع خطر الإصابة بالأزمات القلبية مستقبلاً بشكل مباشر مع ارتفاع مستوى الكالسيوم التاجي، لكن المفاجأة الكبرى التي كشفتها الدراسة الجديدة هي أن وجود أي مقدار من الكالسيوم في الشرايين التاجية لا يرفع فقط خطر الوفاة من أمراض القلب، بل يزيد أيضاً احتمال الوفاة بسبب أمراض أخرى لا علاقة لها بالجهاز القلبي الوعائي.

وعمل الفريق البحثي منذ سنوات على تحليل قاعدة بيانات طبية ضخمة تضم 40 ألفاً و18 مريضاً من منظومة “إنترماونتن هيلث” في مدينة سولت ليك بولاية يوتا، وخضع جميع هؤلاء المرضى لفحوص القلب بعد أن قيَّم الأطباء أنهم معرَّضون لخطر الإصابة بأمراض القلب أو لديهم بوادر تدل على ذلك، ومن بين هؤلاء، تبيّن أن 7967 مريضاً لا يحملون أي أثر لتكلس الشرايين، في حين أظهر 32 ألفاً و51 مريضاً وجود مستويات متفاوتة من الكالسيوم التاجي.

وتابع الفريق البحثي، المرضى لمدة خمس سنوات بعد الفحص الأولي ليرصد حالات الوفاة بمختلف أسبابها، سواء كانت قلبية أو غير قلبية.

وأظهرت التحليلات أن الأشخاص الذين كانت لديهم أي نسبة من الكالسيوم التاجي كانوا أكثر عُرضة للوفاة بمعدل يتراوح بين ضعفين إلى ثلاثة أضعاف مقارنة بأولئك الذين كانت نتائجهم صفرية، ويكشف ذلك عن علاقة وثيقة بين تكلس الشرايين وبين تدهور الحالة الصحية العامة، حتى لو لم تكن الوفاة ناجمة عن أمراض القلب مباشرة.




وأوضحت النتائج أن نحو ربع الوفيات فقط بين من لديهم كالسيوم تاجي حدثت بسبب أمراض القلب والأوعية الدموية مثل الجلطات أو قصور القلب، بينما وقعت الغالبية نتيجة أمراض أخرى، وهو ما أثار تساؤلات بشأن السبب الكامن وراء هذا الترابط الغامض بين تكلس الشرايين والوفيات من أسباب غير قلبية.

وأشارت التحليلات الأولية إلى احتمال وجود صلة بين تراكم اللويحات في الشرايين التاجية وتراكمها في شرايين أعضاء أخرى من الجسم، مثل الدماغ أو الكلى أو الرئتين، مما يزيد خطر الإصابة بأمراض مزمنة مختلفة.

العلاقة بين صحة القلب والجسم

أظهرت الدراسة كذلك أن التصلب العصيدي، أو ما يُعرف بتراكم اللويحات الدهنية داخل الأوعية، قد لا يقتصر تأثيره على نظام الدورة الدموية فحسب، بل قد يؤثر أيضاً على آليات دفاع الجسم. ويُرجح أن وجود التصلب في الأوعية قد يضعف ما يعرف بـ”المراقبة المناعية”، وهي العملية التي يتعرف بها الجهاز المناعي على الخلايا غير الطبيعية ويقضي عليها، مما قد يزيد من احتمال الإصابة بأمراض مثل السرطان أو الالتهابات المزمنة.

وتعمل نتائج الدراسة على إعادة رسم العلاقة بين صحة القلب وصحة الجسم ككل، فلطالما كان يُنظر إلى اختبار الكالسيوم التاجي بوصفه أداة لتقييم خطر الإصابة بالنوبات القلبية أو انسداد الشرايين فقط، غير أن هذا البحث يشير إلى أن غياب الكالسيوم قد يكون علامة على صحة عامة جيدة تتجاوز القلب نفسه.

ويفتح ذلك الباب أمام استخدام هذه الفحوص كوسيلة للتنبؤ بخطر الوفاة الإجمالي، لا في أمراض القلب فقط، بل في مختلف الحالات الطبية.

واستخدمت الدراسة مبدأ إحصائياً صارماً لمقارنة مجموعتي المرضى، مع الأخذ في الاعتبار الفروق في العمر والجنس وعوامل الخطر الأخرى مثل التدخين وضغط الدم والسكري ومستويات الكوليسترول. وبعد التعديل لهذه المتغيرات، ظل وجود الكالسيوم التاجي مرتبطاً بزيادة خطر الوفاة بشكل واضح، مما يؤكد أن العلاقة ليست مصادفة، ولا تقتصر على الفئة العمرية أو الحالة الصحية العامة.

وكشفت البيانات أيضاً أن المرضى الذين سجلوا صفراً في اختبار الكالسيوم يتمتعون بحماية قوية ضد أمراض القلب خلال فترة المتابعة، كما تقل لديه معدلات الوفاة الناجمة عن أمراض أخرى، وتشير هذه الملاحظة إلى أن الجسم الذي يخلو من ترسبات الكالسيوم في شرايينه التاجية ربما يتمتع بنظام أيضي ومناعي أكثر كفاءة، أو أن غياب الالتهاب المزمن في الأوعية الدموية ينعكس إيجاباً على أجهزة الجسم كافة.

وأثارت هذه النتائج اهتمام الأطباء والباحثين على حد سواء، إذ توحي بأن التصلب العصيدي ليس مجرد حالة قلبية، بل قد يكون ظاهرة جهازية تؤثر في أنسجة متعددة. ويطرح هذا الفهم الجديد تساؤلات حول إمكان تطوير أدوات تشخيصية أو علاجية تقي من هذه التأثيرات المتعددة.

وأشار الباحثون إلى أن فهم الآليات الدقيقة وراء هذه العلاقة لا يزال يتطلب المزيد من الدراسات، فالنتائج الحالية، رغم وضوحها الإحصائي، لا تفسر بعد سبب ارتباط تكلس الشرايين بارتفاع الوفيات غير القلبية.

وقد تساعد الدراسات المستقبلية التي تركز على أنواع الأمراض التي تسببت في هذه الوفيات على تحديد العوامل البيولوجية أو الالتهابية التي تتوسط هذا الارتباط.

مؤشر الشيخوخة

وأكد الفريق البحثي أن الخطوة التالية ستكون تحليلاً مفصلاً لحالات الوفاة غير القلبية التي رُصدت في الدراسة، وذلك لتحديد ما إذا كانت ناجمة عن السرطان أو الالتهابات أو أمراض التنكس العصبي أو أمراض الكلى أو غيرها.

ويساعد هذا التحليل على تحديد ما إذا كان الكالسيوم التاجي يمثّل مؤشراً عاماً لشيخوخة الأوعية الدموية، أم أنه يعكس عمليات بيولوجية أوسع تتعلق بتدهور أنظمة الجسم الأخرى.

واستخدم الباحثون نتائج هذه الدراسة لتشجيع الأطباء على النظر إلى فحوص الكالسيوم التاجي باعتبارها أداة تتجاوز نطاق أمراض القلب، فبدلاً من اعتبارها اختباراً مخصصاً لتقييم خطر الجلطات، يمكن استخدامها لتقدير الصحة العامة والتنبؤ بالمضاعفات التي قد تنشأ في أجهزة الجسم الأخرى.

وسعت الدراسة إلى توسيع مفهوم “الصفر الكالسيومي” من كونه إشارة إلى قلب سليم إلى كونه مقياساً لمؤشر الشيخوخة الحيوية في الجسم، فالأشخاص الذين تظهر نتائجهم خالية من التكلسات قد يتمتعون بمرونة خلوية أعلى، وبأوعية دموية أكثر شباباً، وبقدرة أفضل على مقاومة الالتهابات المزمنة التي تسبق العديد من الأمراض المميتة.

وربطت النتائج بين هذه الملاحظات وفكرة أن التكلس ليس مجرد ترسب للمعادن، بل هو انعكاس لعمليات التهابية وأكسدية مزمنة تؤثر على أنسجة الجسم، وعندما تكون هذه العمليات محدودة أو غائبة في القلب، فمن المحتمل أنها غائبة أيضاً في بقية الجسم، ما يفسر انخفاض معدل الوفاة الكلي.




وتسعى النتائج إلى تحفيز الأبحاث المستقبلية التي تدمج بين دراسات القلب والمناعة والسرطان، إذ قد يكون الرابط المشترك بينها هو الالتهاب المزمن وانخفاض كفاءة إصلاح الأنسجة.

ولفتت الدراسة إلى أن فهم هذا الرابط قد يساعد على ابتكار تدخلات وقائية جديدة تعزز الصحة العامة، وليس فقط الوقاية من أمراض القلب.

واعتمد الفريق البحثي في تحليلاته على بيانات دقيقة من أنظمة تصوير متقدمة تجمع بين قياسات الأداء القلبي والتصوير المقطعي للبنية الشريانية، ما يسمح بتقدير دقيق لكمية الكالسيوم في الشرايين. وأظهرت هذه البيانات أن حتى الكميات الصغيرة من الكالسيوم قد ترتبط بارتفاع ملحوظ في معدلات الوفيات، مما يعزز أهمية الفحص المبكر والمتابعة الدورية.

أقوى المؤشرات

أظهرت الدراسة أيضاً الحاجة إلى رفع الوعي بأهمية فحوص الكالسيوم التاجي كإجراء وقائي، فبينما يعتقد كثيرون أن هذه الفحوص مخصصة فقط لمن يعانون أعراضاً قلبية، كشفت النتائج أنها قد تكون مفيدة حتى للأشخاص الأصحاء ظاهرياً، إذ تتيح التعرف على العلامات المبكرة لشيخوخة الأوعية قبل ظهور الأعراض.

كما أظهرت النتائج أن نسبة صغيرة من المرضى فقط كانت نتائجهم خالية تماماً من الكالسيوم، مما يعكس انتشاراً واسعاً لتكلس الشرايين حتى بين الأشخاص غير المصابين فعلياً بأمراض قلبية، ويشير هذا إلى أن عمليات التصلب والتكلس تبدأ مبكراً في الحياة، وغالباً ما تظل صامتة لسنوات قبل أن تتطور إلى أمراض مزمنة.

وأكدت الدراسة كذلك أن غياب الكالسيوم من الشرايين التاجية هو من أقوى المؤشرات على طول العمر المتوقع وصحة الجسم العامة، مشيرة إلى أن هذه النتيجة تفتح الباب أمام إعادة تعريف مفهوم “المخاطر الصحية”، بحيث لا تقاس فقط بمؤشرات القلب والضغط والكوليسترول، بل أيضاً بعلامات الشيخوخة الوعائية التي يمكن رصدها بالتصوير المقطعي.

وتعمل هذه النتائج على ترسيخ فكرة أن القلب هو مرآة لصحة الجسم، فالشرايين التاجية التي تبقى خالية من التكلس لا تعني فقط قلباً سليماً، بل جسداً أكثر مقاومة للاضطرابات المزمنة، وجهازاً مناعياً أكثر كفاءة في مقاومة الشيخوخة المرضية.

ومع توسع الدراسات في هذا المجال، قد يتحول اختبار الكالسيوم التاجي إلى أداة قياسية في تقييم الحالة الصحية الشاملة لكل فرد.

وبهذا، أظهرت الدراسة أن الجسم الذي يخلو من ترسبات الكالسيوم في شرايينه يعيش حياة أطول وأكثر صحة، وأن ما يحدث داخل الأوعية الدموية لا ينعكس على القلب وحده، بل على مصير الإنسان كله.

شاركها.