كشفت دراسة جديدة أجراها باحثون في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا، أن نظام التيارات المحيطية المعروف باسم “الدوران الانقلابي لخط الطول الأطلسي” (AMOC)، الذي ينقل الحرارة من نصف الكرة الجنوبي إلى الشمالي، وينظم المناخ العالمي، من غير المرجح أن ينهار بشكل كبير بسبب تغير المناخ، عكس بعض التوقعات السابقة.

وبينما تؤكد النماذج المناخية الحالية أن الاحتباس الحراري سيضعف التيار، تشير الدراسة الجديدة المنشورة في مجلة “نيتشر جيوساينس” (Nature Geoscience) إلى أن هذا الضعف سيكون محدوداً نسبياً.

يؤثر التغير المناخي على تيار الأطلسي بشكل مباشر من خلال ذوبان الجليد في جرينلاند، والقارة القطبية الجنوبية، حيث يضخ كميات هائلة من المياه العذبة الباردة إلى شمال المحيط الأطلسي، ما يقلل من ملوحة وكثافة المياه السطحية، ويضعف عملية الغوص العميق للمياه التي تشكل المحرك الرئيسي للتيار.

ارتفاع درجة حرارة المحيطات

كما أن ارتفاع درجات حرارة المحيطات يقلل من التباين الحراري بين المناطق الاستوائية والقطبية الذي يُعتبر القوة الدافعة للتيار، بالإضافة إلى ذلك فإن التغيرات في أنماط الرياح، وتوزيع الأمطار الناتجة عن الاحتباس الحراري تؤثر على ديناميكية التيار.

وسجلت القياسات الحديثة بالفعل ضعفاً في التيار بنسبة 15% منذ منتصف القرن العشرين، وتشير النماذج المناخية إلى أن استمرار الانبعاثات الكربونية بمعدلاتها الحالية قد يؤدي إلى مزيد من الضعف، مع احتمالية وصول التيار إلى نقطة التحول الحرجة التي قد تسبب انهياره الكامل، ما سيكون له عواقب كارثية على المناخ العالمي.

وأشارت الدراسة إلى أن الانخفاض سيحدث بشكل تدريجي في قوة وسرعة تدفق تيار الأطلسي مقارنة بحالته الراهنة.

وقال الباحثون إن تيار الأطلسي سيضعف بنسبة تتراوح بين 18% و43% بحلول نهاية القرن الحادي والعشرين، وهي نسبة أقل بكثير من بعض التقديرات السابقة.

جاءت هذه التقديرات كتعديل مهم للتوقعات المناخية السابقة التي كانت تتوقع ضعفاً شديداً يتراوح بين 50% و60%، أو حتى انهياراً كاملاً (100%)، ما يشير إلى أن التيار سيحافظ على أكثر من نصف قوته حتى نهاية القرن.

مرونة غير متوقعة

ويُظهر هذا الفرق الجوهري بين مفهومَي “الضَّعف” الذي يعني استمرار عمل التيار بكفاءة مخفضة وبين “الانهيار” الذي يعني توقفاً تاماً مع عواقب كارثية.

وأظهرت الدراسة مرونة غير متوقعة لنظام التيار المحيطي، حيث تبعد نقطة التحول لانهياره أكثر مما اعتُقد سابقاً، مؤكدة أن تأثيرات التغير المناخي ستكون تدريجية.

وذكرت الدراسة أن هذا الضعف المحدود سيُترجم إلى تغيرات مناخية أقل حدة في أوروبا وشمال أميركا، مع استقرار نسبي في الأنماط المطرية الاستوائية، وارتفاع بحري معتدل على السواحل الشرقية لأميركا، ما يخفف من سيناريوهات الكارثة المناخية السابقة، دون أن يلغي تماماً مخاطر الضعف التدريجي الذي سيظل مؤثراً على المناخ العالمي.

يعتمد هذا الاستنتاج على نموذج فيزيائي مبسط طوَّره الباحثون يأخذ في الاعتبار العلاقة بين اختلافات الكثافة وعمق التيار، بالإضافة إلى بيانات رصدية حقيقية تم جمعها على مدى 20 عاماً عبر شبكات مراقبة المحيط.

تنبؤات النماذج المناخية

ووجد الفريق البحثي أن النماذج المناخية التي تحاكي تياراً أعمق في الوقت الحالي تميل إلى التنبؤ بضعف أكبر في المستقبل؛ لأن التغيرات في درجة حرارة السطح، وملوحة المياه تؤثر على طبقات أعمق. في المقابل، فإن النماذج التي تفترض تياراً ضحلاً تُظهر مقاومة أكبر.

والدوران الانقلابي لخط الطول الأطلسي هو نظام معقد من التيارات المحيطية، يعمل كمحرك رئيسي للمناخ العالمي.

ويعمل النظام كحزام ناقل ضخم ينقل المياه الدافئة من المناطق الاستوائية نحو الشمال عبر سطح المحيط الأطلسي، بينما ينقل المياه الباردة والمالحة نحو الجنوب في الأعماق.

وتنقل هذه العملية الحيوية كميات هائلة من الحرارة، تؤثر بشكل مباشر على أنماط الطقس في مختلف أنحاء العالم.

يتكون ذلك النظام من عدة مكونات رئيسية: في الجزء السطحي، تحمل التيارات مثل تيار الخليج الدفء من المناطق الاستوائية نحو شمال المحيط الأطلسي. وعندما تصل هذه المياه الدافئة إلى مناطق خطوط العرض العليا بالقرب من جرينلاند وشمال أوروبا فإنها تبرد وتصبح أكثر كثافة، ما يجعلها تغوص إلى الأعماق ثم تبدأ رحلة العودة جنوباً عبر أعماق المحيط في دورة مكتملة عندما تعود إلى السطح في مناطق أخرى من العالم.

تأثيرات مناخية بعيدة المدى

ولهذا التيار تأثيرات مناخية بعيدة المدى، فهو المسؤول عن المناخ المعتدل نسبياً في شمال غرب أوروبا، حيث إن الحرارة التي ينقلها تعمل على تدفئة المنطقة، بمقدار يترواح بين 5 و10 درجات مئوية مقارنة بما سيكون عليه الحال بدون هذا التيار.

كما أن له تأثيرات مهمة على أنظمة الرياح الموسمية في إفريقيا والهند، حيث يؤثر على توزيع الأمطار الموسمية التي يعتمد عليها الملايين في زراعتهم وحياتهم اليومية.

وأشارت الدراسات التاريخية، من خلال تحليل الرواسب البحرية وغيرها من السجلات الطبيعية، إلى أن هذا التيار شهد تقلبات كبيرة في الماضي الجيولوجي.

ومن بين أشهر هذه التقلبات حدث خلال العصر الجليدي الأخير، عندما أدى ضعف التيار إلى تغيرات مناخية مفاجئة في شمال الأطلسي. واليوم، تشير القياسات المباشرة التي بدأت بشكل منهجي منذ عام 2004 إلى أن التيار قد ضَعف بنحو 15% خلال القرن الماضي، مع تسارعه في العقود الأخيرة.

ويُعتبر فهم ديناميكيات وطبيعة هذا التيار تحدياً علمياً كبيراً بسبب تعقيد التفاعلات بين درجة الحرارة والملوحة والرياح والتيارات الأخرى.

وتحاول النماذج المناخية الحديثة محاكاة هذه التفاعلات، ولكنها تُظهر اختلافات كبيرة في توقعاتها لمستقبل التيار.

وتشير بعض النماذج إلى إمكانية حدوث انهيار كامل للتيار في ظل سيناريوهات الاحتباس الحراري الشديدة، بينما تتنبأ أخرى بضعف تدريجي أكثر اعتدالاً.

التغيرات المستقبلية

وأشارت النتائج إلى أن عدم اليقين السابق في توقعات ضعف الدوران الانقلابي لخط الطول الأطلسي نابع جزئياً من تحيزات في نمذجة التدرج الكثافي للمحيطات في النماذج المناخية الحالية.

على الرغم من أن السجلات المناخية القديمة، مثل رواسب المحيطات، تُظهر أن التيار تعرَّض لضعف كبير في الماضي -كما حدث خلال الحد الأقصى الجليدي الأخير قبل 20 ألف عام- إلا أن الدراسة الجديدة تشير إلى أن التغيرات المستقبلية ستكون أقل حدة.

وسيكون لانهيار تيار الدوران الانقلابي لخط الطول الأطلسي تداعيات مناخية، وبيئية كارثية على نطاق عالمي، حيث سيؤدي إلى اضطراب حاد في أنماط الطقس عبر القارات، مع انخفاض درجات الحرارة بشكل كبير في شمال غرب أوروبا قد يصل إلى 10 درجات مئوية في بعض المناطق، مما يحول مناخها إلى شبه قطبي.

بينما سترتفع درجات الحرارة بشكل غير مسبوق في المناطق الاستوائية، مع تغيرات جذرية في أنظمة الرياح الموسمية في إفريقيا وجنوب آسيا، ما يهدد الأمن الغذائي لمئات الملايين.

كما سيسبب انهيار ذلك التيار في ارتفاع غير متكافئ في مستويات سطح البحر يصل إلى متر واحد على طول السواحل الشرقية لأميركا الشمالية مع زيادة كبيرة في وتيرة وشدة العواصف والأعاصير، بالإضافة إلى اضطراب النظم البيئية البحرية بسبب التغيرات في توزيع المغذيات ودرجات حرارة المياه، ما سيؤدي إلى انهيار مصايد الأسماك الرئيسية، وتأثيرات متتالية على السلسلة الغذائية البحرية العالمية، وكل ذلك سيكون مصحوباً باضطرابات اجتماعية واقتصادية وسياسية غير مسبوقة نتيجة لهذه الصدمة المناخية المفاجئة.

ومع ذلك، حذَّر الباحثون من أن حتى الضعف المحدود قد يؤثر على أنماط الطقس، مثل تبريد شمال أوروبا أو تغير أنماط الرياح الموسمية في إفريقيا والهند.

شاركها.