في وقتٍ تتصاعد فيه أزمات المعيشة، ويكافح المواطن المصري العادي من أجل توفير أساسيات الحياة، جاء مشروع قانون الإيجار القديم بصيغته الحالية ليزيد من مخاوف الملايين، ويضع شرائح واسعة من المصريين في مواجهة شبح الإخلاء والتشريد، القانون الذي طُرح تحت لافتة “تحقيق العدالة بين المالك والمستأجر”، بات يُنظر إليه كتهديد مباشر للاستقرار المجتمعي، لا سيما وأنه يسعى لتحرير العلاقة الإيجارية بشكل مفاجئ، دون مراعاة للواقع الاقتصادي أو الاجتماعي للغالبية الساحقة من سكان الوحدات المؤجرة منذ عقود.
الشارع المصري لم يتأخر في الرد، آلاف المواطنين قالوها بصوت واضح: “إحنا مش ضد المالك.. بس مش هندفع التمن لوحدنا”. فالقضية لا تتعلق برفض تطوير العلاقة الإيجارية، بل بالكيفية التي تُدار بها هذه العملية، وبالظلم الذي قد يقع على الطرف الأضعف فيها.
المشكلة الأكبر في مشروع القانون ليست فقط في آثاره الاجتماعية، بل في العوار الذي يحمله بين سطوره. فالقانون يسعى لإلغاء عقود قانونية قائمة، تم إبرامها في ظل تشريعات سابقة وبرعاية الدولة، دون تعويض مناسب أو بدائل واقعية، كما أنه يساوي بين مستأجر فقير يسكن شقة قديمة بدخل محدود، وآخر يمتلك عقارات لكنه يحتفظ بوحدة إيجار قديم كميراث أو كمقر مهجور.
ويُغفل القانون تمامًا التصنيف الاقتصادي والاجتماعي للمستأجرين، ولا يضمن أي حماية للفئات الأولى بالرعاية، بل يكتفي بتحميلهم عبء العلاقة الجديدة دون أن يوفر لهم خيارات أو مسكن بديل، وفي الوقت ذاته لا يتضمن القانون أي التزام من الدولة ببرامج إسكان انتقالية، ولا يُنشئ صناديق لدعم الملاك المتضررين، بل يُحمّل التغيير كاملًا للمستأجر وحده، في تجاهلٍ واضح لمبدأ العدالة الاجتماعية والتكافل الذي يفترض أن يكون أساسًا لأي إصلاح.
أخطر ما في الأمر، أن القانون المقترح ينتهك مبدأ عدم رجعية القوانين، وهو أحد أركان العدالة القانونية، إذ يفرض أثرًا رجعيًا على عقود قائمة منذ عشرات السنين، ويجعل ملايين الأسر في مهب الريح، وهذا يتناقض بوضوح مع نص المادة 78 من الدستور المصري، التي تقر بأن “السكن حق لكل مواطن”، وتُلزم الدولة بتوفيره بشكل يحفظ الكرامة الإنسانية.
في خضم هذا الجدل، تبرز دعوة مشروعة وعقلانية: لماذا لا يتم عرض القانون على استفتاء شعبي؟ إن كان الهدف هو العدالة، فلا ضرر من أن يقول الشعب كلمته، فالقانون لا يمس فئة محدودة، بل يطال حياة الملايين، والاستفتاء سيكون أداة ديمقراطية حقيقية تمنح المواطن حق التعبير عن موقفه، وتمنح الدولة فرصة لقراءة المشهد الشعبي بوضوح، كما أن اللجوء إلى استفتاء عام سيقلل من حالة الاحتقان المجتمعي، وسيؤكد أن ما يُتخذ من قرارات كبرى لا يتم إلا بمشاركة الناس، لا بفرض الأمر الواقع عليهم.
في النهاية، لا أحد يرفض التطوير أو تحقيق التوازن بين حقوق المالك والمستأجر، لكن التطوير لا يكون بإلغاء حقوق قائمة، ولا بإخراج الناس من بيوتهم دون رحمة، الدولة لا تُقاس فقط بقوة قوانينها، بل بعدالتها الاجتماعية، ورعايتها للفئات الأضعف. وإذا كان الهدف هو إصلاح العلاقة الإيجارية، فلتكن البداية من الإنصاف، لا من الطرد، ولتكن الوسيلة هي التدرج والحوار، لا الصدمة والانقسام.
إن القانون بصيغته الحالية لا يحقق العدالة، بل ينذر بخلل جديد، والشارع المصري بكل وضوح يرفضه، لأنه ببساطة يدافع عن حقه في السكن.. في الأمان.. في الكرامة. فهل يستجيب صانع القرار لصوت الناس؟ وهل نحظى بحوار مجتمعي حقيقي قبل أن تتحول بيوت الغلابة إلى قضية مرفوعة أمام المحاكم، بدلًا من أن تظل مأوى لآلاف الأسر الكادحة؟ نعم للإصلاح، لا للتشريد، نعم للسكن كحق.. لا كسلعة.