اخر الاخبار

دواء الأميركيين.. من يدفع الثمن؟

ما أن وقّع الرئيس الأميركي دونالد ترمب هذا الأسبوع أمراً تنفيذياً لخفض أسعار الأدوية في بلاده، حتى أعرب كبار مصنعي الدواء في الولايات المتحدة عن مخاوفهم من أن يهدد القرار مستقبل صناعتهم، وتمويل جهود البحث العلمي.

لكن الصورة بدت مختلفة لدى مرضى أميركيين، يتطلعون إلى تخفيف أعباء شراء الأدوية عن كاهلهم.

في ولاية فرجينيا، وأمام كومة من الخطابات البريدية، جلس لويس دان في بيته، يتفقد فواتير علاج طفلته المصابة بالسكري، إضافة لنفقات علاجه هو من أورام سرطانية اكتشفها الأطباء قبل عامين.

كلفة العلاج

ويقول الرجل الخمسيني لـ”الشرق”، إن علاج ابنته وحده “يكلّف حوالي 300 دولار شهرياً، رغم أن التأمين الصحي يغطي الجزء الأكبر من ثمن الأنسولين، والمضخات، وأجهزة قياس الجلوكوز”.

يضطر دان وأسرته لإنفاق مئات الدولارات شهرياً مقابل التأمين الصحي، موضحاً: “إذا فقدتُ عملي، أو خسرنا التأمين، فقد ندفع أكثر من ألف دولار على الأنسولين فقط”، قبل أن يضيف بصوت منخفض: “أنا أيضاً مصاب بالسرطان، وبدون التأمين قد تتجاوز فاتورة علاجي آلاف الدولارات كل شهر، وهو ما لن تتحمله أسرتي”.

وتشير دراسة صادرة عن معهد تكلفة الرعاية الصحية، إلى تضاعف أسعار الدواء في السوق الأميركية خلال السنوات الأخيرة، فمتوسط الإنفاق الشهري على الأنسولين، ارتفع من 271 دولاراً عام 2012، إلى 499 دولاراً في عام 2021، بزيادة قدرها 84% خلال عقد.

كما يكشف تحليل أجرته مؤسسة “راند”، أن متوسط سعر وحدة الأنسولين القياسية في الولايات المتحدة عام 2018، كان أعلى بأكثر من عشرة أضعاف، مقارنة بـ 32 دولة مرتفعة الدخل.

فجوة التسعير

هذه الفجوة، وصفها ترمب في أمره التنفيذي الصادر هذا الأسبوع بـ”الخلل الفادح”، مشيراً إلى أن الأميركيين، ورغم أنهم “لا يشكّلون سوى أقل من 5% من سكان العالم، إلا أنهم يساهمون بنحو ثلاثة أرباع أرباح شركات الأدوية العالمية”.

ويقول كيفن بيشوب، عضو الحزب الجمهوري في ولاية ساوث كارولاينا، إن “الرئيس أطلق تهديداً لفظياً، وفعّل سلطاته التنفيذية، لإجبار شركات الأدوية على تخفيض الأسعار”، بما يضمن تقليص فجوة التسعير بين الولايات المتحدة وغيرها من الدول مرتفعة الدخل.

وعلى الرغم من أن القرار لم يحدد إجراءات بعينها، كما يوضح بيشوب لـ”الشرق”، فإنه دعا مصنعي الأدوية لتسعير منتجاتهم وفقاً لسياسة “الدولة الأكثر تفضيلاً”، والتي تُلزم الشركات بتسعير أدويتها في السوق الأميركية وفقاً لأدنى سعر تُباع به في دول عالية الدخل، مثل فرنسا أو ألمانيا.

لكن أستاذ قانون الصحة في جامعة بوسطن، آلان سيجر، يرى أن “فجوة الأسعار في السوق الأميركية ليست نتيجة لمحاولة الشركات تعويض أسعار الدواء المنخفضة في دول أخرى وحسب”، وإنما تتعلق أيضا ببنية السوق الأميركية، “فبينما لا يُسمح لمشتري الأدوية الأميركيين، سواء البرامج الحكومية مثل ميديكير وميديكيد، ولا حتى شركات التأمين الخاصة، بالتفاوض الجماعي على أسعار الأدوية، فإن تحالفات صيدلانية تمارس ذلك الضغط في دول أخرى”، كما يضيف سيجر في حديثه مع “الشرق”.

وفي يونيو 2024، وقّعت الحكومة الأسترالية “الاتفاقية الثامنة لصيدليات المجتمع”، لتثبيت مساهمة المرضى في سعر الدواء لمدة 5 سنوات. وفي أبريل من العام ذاته، أسهم التحالف الصيدلاني الكندي (pCPA) في خفض أثمان أكثر من 70 دواء شائعاً، بنسب تتراوح بين 25 إلى 40%.

ويستذكر لويس دان، مريض السرطان الأميركي المقيم شمالي فرجينيا، أن إحدى صديقاته، وهي كندية مصابة بداء السكري، “فوجئت من الفارق الكبير في سعر الأنسولين، عندما انتقلت قبل عام للعمل في واشنطن”، ما دفعها للبحث عن بدائل “من بينها شراء احتياجاتها من الأنسولين من كندا أولاً بأول، وهو ما لجأت إليه لاحقاً”.

صناع الأدوية.. اللوبي الأقوى

بينما يعلّق السياسي الجمهوري، كيفن بيشوب، آماله على الخطوة التالية للرئيس ترمب قائلاً: “سنرى ما إذا كان سيتبع الأمر التنفيذي بإجراءات ملموسة، وما طبيعة تلك الإجراءات”، يرى أستاذ قوانين الصحة، آلان سيجر، أن فرص استجابة شركات الأدوية ضعيفة، “نظراً لما تملكه من نفوذ واسع، ولقوتها كمجموعة ضغط (لوبي) تدعم الحملات الانتخابية”، بما يضمن دعماً مقابلاً من صانعي القرار.

ويبلغ حجم سوق الأدوية الأميركية حوالي 634 مليار دولار، ووفقاً لتحليل نشره موقع أوبن سيكرتس، التابع لمركز السياسة المستجيبة، يُعدّ قطاع صناعة الأدوية الأميركي أكثر القطاعات إنفاقاً على جماعات الضغط الفيدرالية، وبفارق كبير عن باقي القطاعات، حيث تجاوز مجموع إنفاقه 6 مليارات دولار بين عامي 1999 و2024، منها 384 مليوناً في عام 2024.

ويقول برودي مولينز، أحد مؤلفيّ “كتاب ذئاب شارع K”، الذي يوثّق إنفاق مجموعات الضغط في السياسة الأميركية، إن “لوبي شركات الأدوية، هو الأقوى على الإطلاق، ونجحوا بكل المعارك التشريعية التي خاضوها، منذ خمسينيات القرن الماضي”.

في عام 2021، قدم الديمقراطيون في مجلس النواب مشروع قانون بعنوان “خفض أسعار الأدوية الآن”، إلا أنه واجه معارضة شديدة من صنّاع الأدوية، الذين “نجحوا في إضعافه بعد إنفاقهم أكثر من 350 مليون دولار” وهو رقم قياسي وقتها، وفق تقرير مؤسسة MMIT، المختصة بتحليل بيانات سوق الرعاية الصحية الأميركية.

وتعد رابطة أبحاث وتصنيع الأدوية الأميركية (PhRMA)، ضمن أكبر 10 جهات إنفاقاً على جماعات الضغط في عام 2024، وتمثل هذه الرابطة كبريات شركات الأدوية في الولايات المتحدة، مثل فايزر، وجونسون آند جونسون، وميرك وغيرها.

ولم تستجب “الرابطة” لطلب “الشرق” بالتعليق على الأمر التنفيذي الذي أصدره ترمب، والجدل حول أسعار الأدوية المرتفعة في السوق الأميركية مقارنة بأسواق أخرى، واكتفت بمشاركة بيان صادر عن مديرها التنفيذي، ستيفن أبل.

وألقى أبل مسؤولية ارتفاع أسعار الدواء في الولايات المتحدة، على الجهات الوسيطة في سلسلة توريد الأدوية، قائلاً إن “الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة التي تسمح لشركات مزايا الصيدليات، وشركات التأمين، والمستشفيات، بالحصول على 50% من كل دولار يُنفق على الدواء”.

وبحسب صندوق الكومنولث، وهو مؤسسة خيرية متخصصة في دعم السياسات الصحية، فإن شركات مزايا الصيدليات (PBMs)، تلعب دور الوسيط بين شركات التأمين ومصنعي الدواء، وتنسق صرف العلاج للمرضى المؤمن عليهم. ووفقاً لبيان المدير التنفيذي لرابطة فارما، فإن “المبالغ التي تحصل عليها الجهات الوسيطة غالباً ما تتجاوز إجمالي سعر الدواء كما يُباع في الأسواق الأوروبية”.

هل يملك ترمب سلطة تحديد الأسعار؟

ولم يكن الأمر التنفيذي الذي أصدره الرئيس ترمب مؤخراً لتقليص أسعار الأدوية في الولايات المتحدة خطوة غير مسبوقة. ففي عام 2020، وقّع ترمب أمراً تنفيذياً مشابهاً، قال إنه “سيُحدث ثورة في سوق الدواء”، عبر السماح باستيراد الأدوية من كندا، وإنهاء دور الوسطاء، وغيرها من الإجراءات.

لكن هذه الخطوة لم تنعكس فعلياً على أسعار الأدوية، وفي عام 2022 أصدر الرئيس السابق جو بايدن، أمراً تنفيذياً حمل عنوان “خفض تكاليف الأدوية الموصوفة للأميركيين”، سعى من خلاله إلى تعزيز وصول العلاجات للمستفيدين عبر برنامجي ميديكير وميديكيد. إلّا أن هذا القرار ألغاه الرئيس ترمب، في اليوم الأول من ولايته الثانية، قبل أن يعاود إصدار أمره التنفيذي الجديد في مايو.

السياسي الديمقراطي توماس بوين انتقد هذه الخطوة، وقال لـ”الشرق” إن “كل ما يفعله ترمب يهدف لصناعة قصة إعلامية، أما التغيرات الحقيقية التي يُحدثها، فغالباً ما يصعب ملاحظتها”، معرباً عن استغرابه من إلغاء ترمب قرار بايدن دون مبرر واضح.

في المقابل، يرى كيفن بيشوب، السياسي الجمهوري، أن خطوة ترمب تمثل استجابة لمطالب المرضى الأميركيين، وأن العبرة في النهاية ستكون “بحجم الضغط الذي يمكن للحكومة أن تمارسه على شركات الأدوية”.

وينتقد بيشوب الإدارات السابقة، قائلاً إن “الرؤساء السابقين كثير ما تحدثوا عن هذا الملف، لكن إجراءاتهم كانت محدودة التأثير”.

من ناحية أخرى، يرى بوين أن صلاحيات الرئيس التنفيذية لا تخوله من فرض تسعيرة على الأدوية “إلا بتمرير تشريعات من الكونجرس تمنحه هذا الاختصاص”.

ويؤيد تلك القراءة، أستاذ تشريعات الصحة آلان سيجر، الذي يقول إن الاقتصاد الأميركي “قائم على السوق الحرة”، وهو ما يحدّ من قدرات الرئيس التنفيذية أمام فرض تسعيرة. ووفقاً لسيجر، فإن هذا هو السبب وراء صياغة قرار ترمب الأخير كـ “دعوة طوعية” لشركات الأدوية، بدلاً من أن يكون أمراً ملزماً.

وحاول الكونجرس في عام 2022، إيجاد حل لأسعار الدواء المرتفعة في الولايات المتحدة، عبر “قانون خفض التضخم”.

وبحسب آلان سيجر، أستاذ تشريعات الصحة، “سمح هذا القانون لأول مرة لبرنامج ميديكير بالتفاوض على أسعار 10 أدوية”، ورغم أن القانون أسهم في إبطاء وتيرة تضخم أسعار الأدوية، إلّا أن سيجر يصف الخطوة “بالتمثيلية، فالأسعار التي تدفعها ميديكير ظلت مقاربة لثلاثة أضعاف الأسعار في ديمقراطيات غنية في أوروبا الغربية”.

أرباح أقل.. ابتكار أضعف

وتعليقاً على قرار ترمب بشأن خفض أسعار الدواء، حذرت روابط مصنعي الأدوية من تداعيات سلبية محتملة على الاقتصاد، من بينها انخفاض الوظائف في القطاع الدوائي، تراجع الاستثمار في مجال البحث العلمي والابتكار.

وبحسب رابطة أبحاث وتصنيع الأدوية الأميركية (فارما)، فقد أنفقت كبريات شركات الأدوية الأميركية نحو 800 مليار دولار خلال العقد الماضي على تطوير علاجات جديدة.

وعشية إصدار الأمر التنفيذي، انتقد ترمب ما وصفه بتحمل الأميركيين وحدهم “تكاليف البحث والتطوير”. فيما أشار الرئيس التنفيذي لرابطة فارما ستيفن أبل، إلى إن “الإدارة الأميركية محقة في أن تتفاوض وتجبر الحكومات الأجنبية، على دفع حصتها العادلة لشراء الأدوية، حتى لا يتحمل المرضى الأميركيون وحدهم عبء تمويل الابتكار العلمي”.

ورغم إصرار السياسي الديمقراطي، توماس بوين، على أن القرار “لا يتضمن آليات تنفيذ ملزمة قانوناً للشركات “إلّا أنه يحذر من أن يتسبب الأمر التنفيذي “في حالة من عدم اليقين لدى المستثمرين أو المجتمع العلمي، وهو ما قد يضر بأنشطة البحث والابتكار والتخطيط طويل الأجل”.

من جانبه، أقر كيفن بيشوب، عضو الحزب الجمهوري بوجود “قلق حقيقي من أن تؤدي هذه السياسات إلى تراجع مصنعي الأدوية عن تمويل الأبحاث “، لكنه وصف المشهد بـ”المعادلة الصعبة”، معتبراً أن “تقديم بعض التضحيات قد يكون ضرورياً، لتحقيق التغيير الجذري، الذي لطالما عبّر الأميركيون عن رغبتهم فيه”.

ويستبعد أستاذ التشريعات الصحية آلان سيجر، أن يتضرر قطاع البحث والتطوير، لكنه يرشح آلية بدلية لتحفيز الابتكار، تقوم على “تخصيص حوافز مالية ضخمة لإنتاج الأدوية الرائدة”، ويرى سيجر أن هذا النموذج قد يشجع شركات الأدوية نحو “تطوير علاجات ثورية، بدلاً من استنساخ أدوية يشبه بعضها البعض”، ويضيف أن “عرض جائزة قدرها 100 مليار دولار لابتكار علاج آمن وفعال لمرضى الزهايمر، يعادل ما تنفقه الولايات المتحدة سنويا على رعاية المصابين بهذا المرض”.

مرضى في انتظار حل

ويقول آلان سيجر، إن القرار التنفيذي الأخير، “لن يكون كافياً ما دامت الولايات المتحدة ليست في وضع سياسي ولا مالي يسمح بتيسير تكلفة الرعاية الصحية بشكل دائم، فمع زيادة نفقاتنا العامة بنسبة 5% سنوياً، أي ما يعادل تريليون دولار كل أربع سنوات، سنشهد مزيداً من الأميركيين بلا تأمين صحي”.

ويرى أستاذ التشريعات الطبية، أن الحل الجذري يكمن في “إيقاف الهدر الناتج عن أسعار الدواء المرتفعة والرعاية غير الفعالة طبياً، وتشديد الرقابة على المنظومة الصحية والدوائية، حتى تتيسر تكلفة العلاج لجميع الأميركيين”.

وفيما يستمر الجدل حول قرار ترمب، يواصل لويس دان، مريض السرطان والأب لطفلة مصابة بالسكري، حساب نفقات بيته بدقة.

ويقول: “عليّ دائماً أن أوازن بين احتياجاتنا الأساسية، وأقساط منزلنا، وعلاج ابنتي، وكذلك جلسات علاجي وأدويتي”، وهي الحسبة التي يصفها دان بالمعقدة، خاصة عندما يواجه خياراً قاسياً، مختتماً حديثه: “أحياناً أضطر للاختيار بين علاج ابنتي، أو أن استكمال علاجي.. وبالطبع، أختار أن أتحمل الضرر لأحمي طفلتي”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *