ليست الصورة في عالم السينما مجرد إطار، بل كون كامل من الدلالات، وقد احتلّ ويحتلّ قمة هذا العالم عددٌ ضئيل من الطاقات، يبرز من بينها اسم الأسترالي ديون بيبي Dion Beebe بوصفه واحداً من كبار صنّاع الرؤية البصرية في عصرنا.
هو ليس مجرد مدير تصوير، فاللقب كما يرى كبير هذه النُخبة، الإيطالي ڤيتّوريو ستورارو، “أضيق من أن يحيط بفن الـ(سينماتوغرافر)، لأنه مُخرج للصورة، ومهندس للضوء، وحارس للشغف الذي يجعل كل لقطة تنبض بالحياة”.
وديون بيبي، من تلك الفئة النادرة التي تفهم أن الكاميرا ليست آلة، بل أداةٌ لإعادة خلق العالم، حيث يلتقي الشكل بالمضمون، وتتجسد الفلسفة في حركة ظل على وجه، أو ومضة نور في زاوية معتمة. ولذا، حين تتأمل الأفلام التي أدار صورتها وضياءها، تدرك أنَّ كلّ مشهد لديه يستقيم على علاقة عميقة بين الإنسان والظروف التي تُحيطه أو تحصره، بين الحلم والواقع، بين القسوة والحنين.
من عدسة الأب إلى فتنة الضوء
“الشرق”، التقت ديون بيبي، في الدورة السابقة لمهرجان كان السينمائي الدولي، بمناسبة منحه جائزة الإنجاز الإبداعي، من قبل مؤسّسة Pierre Angenieux لعدسات التصوير السينمائي، وأقام درساً أكاديميّاً روى خلاله تجربته مع كبار المخرجين والنجوم.
ولد ديون بيبي في أستراليا، ونشأ في بيت يعشق التصوير، كان والده مصوراً فوتوغرافياً شغوفاً، وهو ما أورث الابن ذات الشغف بالصورة مبكراً.
في بداياته، لم يكن يرى السينما في الأفق، بل كان مفتوناً بالأبيض والأسود في مجلات الموضة، وبجماليات الظلال التي تصنعها عدسة المصورين الكبار. عمل مساعداً في مختبرات التحميض، يراقب كيف تتحول الصورة الساكنة إلى حياة، قبل أن تدفعه لحظةٌ عابرة إلى الخروج من الغرفة المظلمة نحو فضاء السينما.
هذه اللحظة جاءت وهو في مقتبل العشرينيات، لتقوده إلى أول تجربة مفصلية عام 1992 في فيلم “Crush” للمخرجة آليسون ماكلين، الذي شارك في مسابقة مهرجان كان السينمائي. حيث كان عمره آنذاك 23 عاماً، ولم يكن يتخيل أن السير على السجادة الحمراء، وسط فوضى مصوري النجوم “Paparazzi”، سيكون الخطوة الأولى نحو مجدٍ بصريّ سيحمله لاحقاً إلى الأوسكار من خلال الترشّح لها عن فيلم “Chicago” للمخرج روب مارشال عام 2003، والفوز بها عام 2006 عن فيلم “Memoirs of a Geisha” للمخرج نفسه.
لقاء جين كامبيون
لكن الانعطافة الكبرى في مسار ديون بيبي، جاءت مع المخرجة النيوزيلندية جين كامبيون، في فيلمها الجريء “Holy Smoke” عام 1999، والذي أنجزته بعد نجاح فيلمها الأول Sweetie، وفوز فيلمها الثاني An Angel To Table بالأسد الفضي لجائزة لجنة التحكيم الكبرى في دورة عام 1990 لمهرجان فينيسيا السينمائي الدولي وترشّحه للأوسكار.
جمع Holy Smoke بين كيت وينسليت وهارفي كيتل، لكنّ بصمته الجمالية برزت عبر معالجة الضوء كعنصر درامي، لا مجرد أداة تقنية.
كان الفيلم قائماً على ثنائية الانجذاب والهيمنة، الروحانية والجسد، وقد استطاع ديون بيبي أن يمنح كل فصل من فصول الحكاية طابعاً بصرياً يعكس الصراع النفسي للشخصيات. لم تكن حرارة الصحراء بوهجها الأصفر المائل إلى الجنون مجرد خلفية، بل جزءاً من الدراما ذاتها. هنا، أثبت بيبي أنه لا يكتفي بنقل الواقع، بل يعيد خلقه ليصبح أكثر عمقاً وأشدّ التباساً.
هذا التعاون فتح له أبواب السينما العالمية، وأكد أن مدير التصوير ليس منفّذاً، بل شريكاً في بناء اللغة البصرية للفيلم، إلى درجة أن فيلم “Holy Smoke” وُصِفَ بأنه “قصيدة ضوء بقدر ما هو فيلم عن الحرية والانكسار”.
الاقتراب من هوليوود
وإذا كان Holy Smoke قد وضعه على الخريطة، فإن انتقاله إلى هوليوود كان عبر مشروع لا يقلّ ثورية: فيلم “Collateral” الذي أنجزه المخرج الكبير مايكل مان.
روى بيبي، كواليس تلك اللحظة قائلًا: “تلقيت اتصالاً هاتفياً عصر يوم جمعة يدعوني للقاء مايكل (مان) فوراً. لم أكن أعلم السبب، لكني ذهبت. أعطاني السيناريو، وقال لي: أراك يوم الاثنين. وكان فيلم (Collateral)”.
وكان هذا الفيلم بالنسبة لديون بيبي مختبراً بصرياً، إذ استخدم فيه التقنيات الرقمية لأول مرة بشكلٍ مكثف لتصوير لوس أنجلوس ليلاً، حيث تتحول المدينة إلى كائن نابض بضياء.