اخر الاخبار

“ذكاء الأزهار “.. حياة سرية وأقدار متشابهة مع البشر

يروي الفيلسوف والكاتب البلجيكي موريس ماترلينك (1862-1949)، الحاصل على جائزة نوبل للأدب عام 1911، في كتابه “ذكاء الأزهار”، حكاية تجذّر الأزهار العميق بالأرض، والتعلق الأعمق بالنور الآتي من السماء.

 إنها الأزهار التي تستمدّ غذاءها من جذور النباتات، ثم تكلّلها وتزيّنها، كما تستلف مقوّمات الحياة من ضوء الشمس، بذكاء فريد لا يبدو واضحاً في جمود النبات.

يشرح ماترلينك في كتابه الصادر عام 1907، وما زال يصدر منذ ذلك الحين في طبعات متتالية بلغات عدّة، كان آخرها العربية سنة 2023، سيرة الحياة السرية للزهور، مدبّجة بأسلوب أدبي ممتع، يكشف خلاله عن البراهين التي تثبت ذكاء الأزهار، “ولجوء معظمها إلى الحيل، والتركيبات، والآليات، والفخاخ التي سبقت في كثير من الأحيان اختراعات ومعارف الإنسان”.

يقول الكاتب إن الزهور تسعى لتحقيق هدف واحد “هو الهروب من القدر السفلي، والارتقاء نحو الأعلى والتحرّر، وكسر القيد الضيق، واختراع أو استدعاء أجنحة، والفرار إلى أبعد مديات ممكنة، والتغلب على الفضاء الذي يسجنها فيه القدر، والاقتراب من مملكة أخرى، والولوج إلى عالم متحرك وحيّ”.

يشبه الأمر سعياً نحو الحرية ومعانقة الطبيعة الخارجية، التي لولاها لما وُجدت هذه الأخيرة، كما لو أن النباتات تقول للعالم بأنها هي الأصل لكل حياة أخرى، سواء بالنسبة للبشر أو الحيوانات.

تلك هي الفكرة الفلسفية الأساس الكامنة في مديح الكاتب للأزهار، التي تسهم وهي تتحرّر، في التكاثر وديمومة الحياة، وهي تسمح بالتلاقح، الكفيل بولادة أو خروج البذرة. 

يسترعي انتباه موريس ماترلينك التشابه الكبير بين السبل التي تتبعها الأزهار لتحقيق مرادها، وما يتبعه الإنسان حين يكون بصدد اختراع ما.

ويثبت أنه من خلال تفاصيل صغيرة، ومن خلال التكرار والتنقيح المتتابع، يبدو أن الأفكار تأتي إلى الأزهار بالطريقة نفسها التي تأتي بها إلينا. إنها تتحسس طريقها في الظلام، وتواجه العقبات، وتحذر من المجهول نفسه، بل تخضع للقوانين نفسها، وتواجه خيبات الأمل ذاتها، وتحقّق الانتصارات البطيئة والصعبة مثل البشر تماماً”.

سلطة الأبوّة 

يقف الكاتب عند عملية انبثاق البذرة، ويصفها “بالشاقّة والمعقّدة وتتطلب الكثير من الحنكة. لأن الثبات المطلق يفرض عجزاً من لدن النبات، لا يمكّن البذرة من الحياة، “فأوّل وأخطر أعداء البذرة هو الأصل الأبوي”. 

إنه لأمر غريب أن يسعى النبات ما أمكنه إلى أن يُبعد ما يلده، وهو البذرة إلى أكبر نقطة ممكنة، على عكس الحيوانات التي تتكاثر بسهولة، وتحضن وترعى مواليدها حتى يشتد عوده.

 يرى الكاتب “أن أيّ بذرة تسقط عند قاعدة الشجرة أو النبات، تصير مفقودة أو تنبت بظروف صعبة جداً. من هنا يأتي الجهد الهائل للتخلص من هذا السجن وغزو الفضاء”. 

وهو ما يحصل عبر أنظمة كثيرة كالطيران والتشتت والاندفاع والالتصاق بزغب الحيوانات أو أجنحة الحشرات. أي تدبر طريقة خاصة للسكن والاستقرار، إن صح التعبير. 

يذكر ماترلينك على سبيل المثال، المروحة الهوائية أو الجناح الدوّار لشجرة القيقب، الزهرة الجناحية لشجرة الزيزفون، آلية الطيران لنبات الشوك والهندباء،  الكمثري المدهشة التي تقذف الماء.

عواطف الزهور

الحقيقة أن هذا التدبر الذي يبدو عملياً وسلوكاً عجيباً، هو مرحلة نهائية في مسار سابق عليه، يتطلب تدبّراً مثيراً أكثر للدهشة، ويتعلق بالخروج إلى الحياة ذاتها، و يبرز ذكاءً أكبر للزهور. 

فهذه الأخيرة هي ما يعطي البذرة إثر عملية التلقيح ما نسميه “العواطف”، وتتضمن التجاذب والإغواء والاتصال والمصاحبة، كما الصدّ والهجر والبعد، وقد خصّها الكاتب بفصول كثيرة. 

يصف ماترلينك الزهرة بشاعرية مبدعة قائلاً : ها هي وحيدة على المسرح، مثل أميرة رائعة تمتلك العقل والإرادة، ثابتة على ساقها، تحمي داخل مزار متألق، أعضاء التكاثر في النبات. يبدو أنه ليس عليها سوى ترك الاتحاد الغامض بين السداة (العضو الذكوري) والميسم (العضو الأنثوي)، يتم في أعماق هذا المزار المفعم بالحب”. 

وكما أن تلبية عاطفة الحب بين بني الإنسان تتسم  بالتعقيد أحياناً، إلى حد استدعاء عنصر خارجي لتأجيجها وتحقيقها، تقوم الأزهار التي لا تلقّح نفسها بالأمر نفسه، وذلك حين تنتج الرحيق المعطّر بصفته حيلة لجذب النحلة مثلاً.

هذه الأخيرة، وهي في طريقها إلى امتصاص الرحيق، لا تصل إليه بكل يسر، بل تضطر إلى الخضوع، فيما يشبه “دراما” حقيقية، لحواجز مذبّبة ومتاريس وفتحات ومضايق تبثّها الزهرة، لتتيقن بالكامل أن النحلة تمكّنت أخيراً من رجّ الميسم الحامل لحبوب اللقاح بأجنحتها، الذي تنثره فيما بعد، في رحلاتها الراقصة من زهرة إلى أخرى. 

عبقرية السحلب أو الأوركيد 

يستغرب ماترلينك لهذه الملكات العملاقة دقّة إنجازها، التي تتوفر عليها الأزهار في آليات متقنة جداً، لم يعرف الإنسان إنجازاً مثلها إلا بعد أزمنة طويلة. وهو عين ما لاحظه في زهرة الأوركيد أو السحلب، التي يعتبرها أذكى الأزهار إطلاقاً.

يقول إن الأوركيد “تتفوّق بقدرتها على إجبار النحلة أو الفراشة على القيام تماماً بما تريده، بطريقة بطولية محددة وفي زمن مضبوط ومتحكم فيه، وذلك باتباع نظام دقيق يجعل التلقيح ممكناً، وأشبه بعملية إدخال خيط في إبرة”. 

روح العالم الكبير

إن الكاتب وهو يلحّ في موضوعات كثيرة على ربط ملاحظاته عن الزهور بالإنسان، فذلك كي يظهر للبشر ضآلتهم أمام الخلق، ويجعلهم أقلّ غروراً وعنجهية، مذكّراً البشر بأن الذكاء ليس محصوراً بهم دون سائر الكائنات، وهو ما يسميه “الكبرياء الأحمق، الذي عشش قروناً طويلة، حتى ظننا أننا كائنات معجزة، فريدة ورائعة بشكل عجيب، لكن من الأجدر لنا أن نلاحظ أننا نسير في الطريق نفسه، مع روح هذا العالم الكبير، وأن لدينا الأفكار والآمال والتجارب نفسها”.

هكذا فإن الإنسان لم يخترع جمالاً خاصاً به، وكل أشكال البناء في المعمار والألحان الموسيقية العذبة أو الصاخبة، وكل التناغم في الألوان والضوء، مستمدة مباشرة من الطبيعة. 

تتجلى أهمية هذا الكتاب، بأنه يفتح بصيرتنا على الثراء الهائل والخفي الموجود حولنا في الطبيعة، حيث يستند عملها على عبقرية كونية موجودة في صلبه، تعطينا الأزهار تصوّراً عنه. والكاتب فعل ذلك بوسائل الأدب، في زمن لم تكن الأفلام الوثائقية موجودة فيه، كي تسبر أغوار الطبيعة وأسرارها. 

إن  الكاتب واستعاراته وتشبيهاته، تلعب دور الصور العالية الجودة، لجهة الإثارة والإدهاش. كما يذكرنا بثيمة التفكّر في القرآن الكريم: “يُنبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات، إِن في ذلك لآية لقوم يتفكّرون”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *