يبرز اسم رشيد بوشارب، الذي يكرمه مهرجان البحر الأحمر في دورته الحالية، كواحد من أهم السينمائيين الذين منحوا السردية العربية، شمال الإفريقية، والجزائرية تحديداً، صوتاً وصورة وجسداً، كان في وقته جديداً وغريباً، ولكنه قوياً وواضحاً بشكلٍ يصعب تجاهله أو نسيانه.

مأزق الهوية الهجينة

بوشارب، المولود في باريس 1953 لأبوين جزائريين، ويحمل الهويتين الجزائرية والفرنسية، جاء وعاش في مكان وزمان استثنائيين من عمر العلاقة العريقة المعقدة بين ضفتي المتوسط. وهو، إذ يحتفل هذا العام بنصف قرن على دخوله مجال السينما، ومرور 40 عاماً على صنعه لأول أفلامه الروائية الطويلة Bâton rouge، يظل رائداً ورمزاً لهذه العلاقة العميقة الملتهبة، المتقلبة بين الكره والولع، بين الشرق والغرب، والشمال والجنوب، والعرب وأوروبا.

من الطرائف ذات الدلالة أن بوشارب حين بدأ يعي خصوصيته الثقافية كفرنسي اللغة والإقامة، ولكن ليس بالجينات أو التاريخ، وجزائري الأصل والقضية، ولكن ليس بالتعليم أو طريقة التفكير، كان واحداً من جيل وتيار يشبهه، يتكون من شباب في مثل عمره وظروفه، منهم موسيقيين مثل رشيد طه وسينمائيين مثل بوشارب، وجدوا أنفسهم عالقين بين ثقافتين متصارعتين، متصالحتين، تحملان الشيء ونقيضه في الوقت نفسه.

هذا الجيل الذي أطلق عليه تعبير beur، أو “بر”، وهو تعبير عامي ضمن مصطلحات تقلب نطق بعض الكلمات عمداً لتعبر عن التناقض الكامن فيها، وأصله كلمة “عربي” أو “أرب” حسب النطق الغربي، ويشير إلى أبناء الجيل الثاني من المهاجرين العرب في فرنسا، الذين يشعرون بالانتماء إلى جنسيتين وثقافتين، وفي الوقت نفسه يشعرون بالاغتراب عن الاثنين. وهذا بالتحديد كان موضوع فيلم رشيد بوشارب الثاني الذي حمل اسم “شاب” Cheb.

العيش على الحدود

إذا كان “باتو روج”، الذي يروي قصة 3 شباب فرنسيين، اثنان منهم من أصل عربي، يسافرون إلى أميركا بحثاً عن مستقبل وهوية تستوعب التناقضات، فإن “شاب” يدور حول صبي فرنسي جزائري الأصل لا يستطيع أن يجد نفسه لا في فرنسا ولا في الجزائر، كما لو كان واحداً من العالقين في “الأعراف” أو الحدود الفاصلة بين الجنة والجحيم!

أثار الفيلم، الصادر في 1991، ضجة في كل من فرنسا والجزائر، وتعرض للهجوم من اليمين في الجانبين: الفرنسيون يتحدثون عن “عروبة” الصبي التي لا يمكن لها أن تذوب في مجتمعهم، والجزائريون يتهمونه بالخيانة وتشويه سمعة الجزائريين بإظهارهم متخلفين!

الفيلم الذي شهد عرضه الأول في مهرجان “برلين” سبق بأسابيع قليلة فيلم “القاهرة منورة بأهلها” ليوسف شاهين الذي شهد عرضه الأول في “كان”، وأثار ضجة مماثلة. إنها التسعينيات ما بعد سقوط اليسار وحرب الخليج الثانية وصعود الإرهاب وظهور الساتالايت!

جدير بالذكر أن “شاب” حمل الجنسية الجزائرية (والفرنسية)، ومثل الجزائر في كل من “برلين” والأوسكار، وهو تقليد سيمتد إلى كل أفلام بوشارب اللاحقة، وهنا يجب التوقف قليلاً أمام الظرف الإنتاجي لهذه الأعمال: من ناحية أسس بوشارب مع صديقين فرنسيين شركة إنتاج سينمائي أطلقوا عليها 3B Production، وقد تلقى “شاب” دعماً كبيراً من الحكومة الجزائرية (مفارقة عربية معتادة أن يدعم الفيلم حكومياً ويتهم بالخيانة!). في الوقت نفسه شهدت هذه الفترة العصر الذهبي للدعم الفرنسي المقدم إلى دول “المستعمرات السابقة” الفرانكوفونية، وخاصة إفريقيا.

في فيلمه التالي “غبار الحياة” Poussières de vie، 1994، يواصل بوشارب استكشاف موضوع “الهوية الممزقة” ما بعد الكولونيالية، ولكن هذه المرة في فيتنام، من خلال صبي ولد لأم فرنسية وأب إفريقي أمريكي، يعامل بعد خروج الاستعمار الأميركي كما لو كان “غباراً”، وهو التعبير الذي يطلقه الفيتناميون على هجيني الجنسية. فكرة سيعيد بوشارب طرحها بطريقة مختلفة في فيلمه التالي Little Senegal، 2001، من خلال قصة موظف متحف للعبيد في السنغال يسافر إلى الولايات المتحدة الأميركية ليبحث عن أحفاد أسلافه من الأفارقة الذين خطفوا ليتحولوا إلى عبيد في أميركا.

أيام المجد السينمائي

مع ذلك، فكل ما سبق يمكن اعتباره تمهيداً وإعداداً لفيلم رشيد بوشارب التالي “بلديون” Indigènes، أو Days Of Glory بالإنجليزية، 2006، وهو الأكثر جرأة وأصالة وشهرة وتأثيراً من بين أعماله.

يدور الفيلم، الذي يعتمد على وقائع تاريخية، حول الجزائريين والأفارقة الذين جندهم الجيش الفرنسي للمشاركة في دحر النازيين خلال الحرب العالمية الثانية، والذين مات منهم عدد كبير خلال القتال، بجانب تعرضهم للعنصرية والتفرقة قبل وأثناء وبعد الحرب.

وفيما يكشف الفيلم عن فصل مجهول من التاريخ (يتعلق بحوالي نصف مليون عربي وإفريقي تم تجنيدهم واستغلالهم ونسيانهم)، فهو أيضاً أكثر أعمال بوشارب طموحاً فنياً، في مزيج من نوع الفيلم الحربي على الطريقة الهوليوودية والفيلم التاريخي الأوروبي بألوانه الداكنة ونبرته الإنسانية السوداوية.

وقد أثار الفيلم عاصفة من الجدل في فرنسا، فبينما كرم الرئيس جاك شيراك صناعه، وأصدر قراراً بصرف كل المعاشات المتأخرة للجنود “الأجانب”، والتي كانت قد توقفت عقب حصول هذه البلاد على الاستقلال، فقد أثار بعض “المؤرخين” الفرنسيين اعتراضات على “الدقة التاريخية” للفيلم، متهمينه بالمبالغة والانتقائية.

“بلديون” يتميز أيضا بتوظيف ممثلين فرنسيين من أصل عربي، أصبحوا نجوماً في السينما والتليفزيون الفرنسيين، وقد حصلوا، معاً، على جائزة أفضل تمثيل عن أدوارهم في الفيلم في مهرجان “كان”، كما حصل الفيلم على العديد من الجوائز الأخرى ورشح ليمثل الجزائر في الأوسكار.

ما بعد الاستعمار.. وقبل التحرير

بعد “استراحة” قصيرة من الشأن الجزائري بفيلم London River، 2009، الذي يتناول أحداثاً عصرية حول إحدى العمليات الإرهابية التي ضربت لندن في بداية الألفية، دون أن تفرق بين إنجليزي وأجنبي أو مسيحي ومسلم، يدور الفيلم حول امرأة إنجليزية تفقد ابنتها ورجل إفريقي مسلم يبحث عن ابنه، يكتشفان أن الابنة والابن كانا حبيبين.. بعد هذه “الهدنة”، إذا كان يمكن اعتبارها كذلك، يعود رشيد بوشارب لاستكشاف التاريخ الجزائري الفرنسي عقب الحرب العالمية الثانية وحتى استقلال الجزائر في فيلمه التالي “خارج على القانون، الذي يدور حول ثلاثة أخوة يجدون أنفسهم في فرنسا: أحدهم تم سجنه بسبب مشاركته في مظاهرات المطالبة بالاستقلال، والثاني تم تجنيده للمشاركة في الحرب الفرنسية في آسيا، والثالث هرب عقب قتله للإقطاعي الفاسد الذي سرق أرض عائلتهم.

الثلاثة يمثلون الجيل الأول من المهاجرين (الذين ينتمي إليهم والد رشيد بوشارب، والذي تم ترحيله للعمل في فرنسا في 1947)، ما بين الثوري المتشدد والأكثر اعتدالاً وإنسانية واللامبالي الذي يفضل الصعود الفردي والنجاح المادي.

مثل “بلديون” يستخدم “خارج على القانون” المواد الأرشيفية التاريخية وأسلوب الحكي الملحمي (مستخدماً عناصر من نوع أفلام “العصابات” الأميركي على طريقة “العراب” و”حدث ذات مرة في أميركا”). يبدو “خارج القانون” وكأنه استكمال لـ”بلديون” وتاريخ العلاقة الجزائرية الفرنسية، ويظهر ذلك في التوظيف الذكي للممثلين: فهو يستعين بالممثلين أنفسهم سواء العرب أو الفرنسي بيرنار بلانكا الذي لعب في “بلديون” دور السيرجنت الفرنسي الذي يقود المقاتلين من أصل عربي، بينما يلعب في “خارج القانون” دور ضابط المباحث الذي يطارد الثوريين ويقتلهم، في استعارة واضحة لموقف فرنسا نفسها قبل وبعد الحرب العالمية، والتراجع عن وعودها بالحرية للبلاد التي استعمرتها.

رسالة باقية

من المدهش أن “خارج على القانون” يبدو الآن أكثر صلة بالواقع العربي، ولكن في مكان محتل آخر هو فلسطين. وبينما تبدو الممارسات القمعية الوحشية التي ارتكبها الاستعمار الفرنسي شبيهة بما تفعله دولة الكيان الصهيوني، وبينما يتبدى على مدار الفيلم صعوبة، بل استحالة الانتصار على هذه القوة الاستعمارية الغاشمة، إلا أن النهاية التي حدثت في الواقع تثبت ما قاله الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي: “إذا الشعب يوماً أراد الحياة، فلا بد أن يستجيب القدر، ولا بد لليل أن ينجلي، ولا بد للقيد  أن ينكسر”.

رسالة يؤكدها، مرة تلو الأخرى، السينمائي الأكثر التزاماً، رشيد بوشارب. وفي أعماله اللاحقة، مثل Just Like A Woman و Two Men In Town و Road To Istanbul، والتي يحلق فيها في بلاد وموضوعات أخرى أكثر قد تكون أكثر خفة ولطفاً، إلا أنها تظل تحمل الإيمان نفسه بإمكانية السلام والتعايش وصعوبة وروعة الهويات المختلطة.

* ناقد فني 

شاركها.