رحّبت روسيا بمضمون الاستراتيجية الأميركية الجديدة للأمن القومي، والتي تجنبت وصف موسكو بـ”التهديد المباشر”، فيما أثارت انتقادات من حلفاء أوروبا الغربيين، خصوصاً بعد تحذيرات واشنطن بإمكانية “زوال الحضارة الأوروبية خلال 20 عاماً”.

وقال المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف، الأحد، إن روسيا ترحب بالخطوة التي اتخذتها إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب لمراجعة استراتيجية الأمن القومي، والتوقف عن وصف روسيا بأنها “تهديد مباشر”.

وأشار بيسكوف، في تصريحات لوكالة “تاس” الرسمية، إلى أن “الوثيقة المحدثة حذفت الكلمات التي تصف روسيا بأنها “تهديد مباشر”، وحثت بدلاً من ذلك على التعاون مع موسكو في قضايا الاستقرار الإستراتيجي”. وأضاف: “نعتبر ذلك خطوة إيجابية”.

وتلقي الاستراتيجية الأميركية باللوم على المسؤولين الأوروبيين لعرقلة الجهود التي تدعمها الولايات المتحدة لإنهاء الصراع مع روسيا، كما تعتبر أن إنهاء “الأعمال العدائية” خطوة ضرورة لإعادة الاستقرار مع روسيا وإنهاء الحرب.

كما تشدد الاستراتيجية الجديدة، على أنه “من مصلحة الولايات المتحدة التفاوض” من أجل إنهاء الحرب، و”من أجل وإعادة إرساء الاستقرار الاستراتيجي مع روسيا”.

“السلام عبر القوة”

وخفّضت الاستراتيجية الأميركية من التركيز على مواجهة الصين وروسيا الذي ميّز إدارة جو بايدن، كما حذفت وصف بكين وموسكو بـ”القوى التعديلية” (Revisionist Powers)، الوارد في استراتيجية الأمن القومي لولاية دونالد ترمب الأولى.

وأعلنت الاستراتيجية الثانية لترمب عن “مبدأ ترمب الملحق” بـ”مبدأ مونرو”، الذي اعتبر عام 1823 أن نصف الكرة الغربي مجال نفوذ أمريكي، واقترحت إمكانية زيادة عدد القوات والقواعد والعمليات العسكرية في نصف الكرة الغربي، مع تغيير في كيفية نشر القوات المسلحة الأميركية عالمياً للتصدي لـ”التهديدات العاجلة” في المنطقة.

وتعهّد وزير الحرب الأميركي بيت هيجسيث بإعادة “هيمنة الولايات المتحدة العسكرية” في نصف الكرة الغربي، مع شروع واشنطن رسمياً في تغيير سياستها للأمن القومي نحو ساحتها الجغرافية الخلفية.

وقال هيجسيث إن “مبدأ مونرو”، “ساري المفعول” و”أقوى من أي وقت مضى”، وإن البنتاجون سيجعل “الدفاع عن الوطن الأميركي ونصف الكرة الغربي” جهده الأساسي”.

وجاءت كلمته في منتدى رونالد ريجان للدفاع في كاليفورنيا السبت، بعد يوم من إصدار البيت الأبيض لاستراتيجيته للأمن القومي.

وتملك الولايات المتحدة حالياً أكبر انتشار لسفنها الحربية في منطقة الكاريبي، مع أكثر من اثنتي عشرة سفينة وما يزيد على 14 ألف جندي. ونفذت واشنطن 22 ضربة ضد قوارب يُزعم أنها تهرّب المخدرات في الكاريبي وشرق الهادئ، ما أدى إلى سقوط ما لا يقل عن 87 شخصاً، بينما تدرس شن هجمات على الأراضي الفنزويلية.

وفي كلمته، قال هيجسيث أيضاً إن وزارة الحرب مستعدة لضمان “الوصول العسكري والتجاري الأميركي إلى مواقع استراتيجية مثل قناة بنما، ومنطقة الكاريبي، وخليج أميركا، والقطب الشمالي، وجرينلاند”.

وأكد أن على “جيران أميركا أن يقوموا بدورهم” أيضاً. وأشاد بتقدم المكسيك في هذا الجانب، لكنه قال إن الولايات المتحدة تريد رؤية المزيد وبسرعة أكبر، وفق ما أوردت صحيفة “فايننشيال تايمز”.

أما نهج الولايات المتحدة تجاه الصين، فسيكون “غير موجه للهيمنة، بل لتحقيق توازن قوى”، مع سعي واشنطن لإظهار القوة، دون أن تكون “تصادمية”.

وقال: “وظيفتنا أن نضمن أن ترى بكين القوة العسكرية الأميركية التي لا يمكن التشكيك فيها”، وأن نحمل الصين على احترام مصالح أميركا في منطقة المحيطين الهندي والهادئ.

وأشار هيجسيث إلى أن هناك تهديدات في أوروبا والشرق الأوسط. “لا يمكننا تجاهلها، ولا ينبغي لنا ذلك”، لكنه قال إن دول تلك المناطق لم يعد بإمكانها “الاعتماد مجاناً” على الدفاع الأميركي.

لحظة صعبة لأوروبا

أثارت الاستراتيجية الأميركية انتقادات ومخاوف أوروبية، فالوثيقة المكونة من 33 صفحة، والموقّعة من الرئيس الأميركي دونالد ترمب، تقول إن أوروبا مهددة بـ”زوال الحضارة” خلال 30 عاماً إذا لم تغيّر ثقافتها وسياساتها.

وبالنسبة لرئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر، والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والمستشار الألماني فريدرش ميرتس، يعتبر توقيت الهجوم الأخير من حليفهم الرئيسي، والذي جاء على غرار خطاب نائب الرئيس جي دي فانس الشهير في ميونيخ في فبراير الماضي، لافتاً، بحسب ما أوردت “بلومبرغ”.

ويأتي بيان الاستراتيجية الأميركية بالتزامن مع دخول الحرب الروسية الأوكرانية مرحلة قد تكون حاسمة.

ويُبدي القادة الأوروبيون قلقاً بالغاً من جهود الولايات المتحدة للتوصل إلى اتفاق صيغ بمشاركة روسيا، والذي قد يعدّ بمثابة استسلام من جانب الغرب.

وقال ستارمر في أكتوبر لـ”بلومبرغ”، إن حلفاء كييف كانوا يأملون أن تكون أوكرانيا “في وضع أفضل”. فقد تجاوزوا لقاء ترمب الصاخب في المكتب البيضاوي مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، وقمّة ألاسكا مع فلاديمير بوتين، كما فرضت واشنطن عقوبات على شركات الطاقة الروسية.

ومع ذلك، كان المسؤولون الأوروبيون يدركون دائماً أنه ستكون هناك تذبذبات جديدة. وحدثت واحدة في الشهر الماضي، بعد ظهور خطة سلام جديدة، ما اضطر الأوروبيين للعودة إلى استراتيجيتهم المعتادة، الترحيب العلني بالجهود الأميركية، وتوقعات فشلها بسبب موقف بوتين.

وفي الوقت نفسه، قالت الولايات المتحدة في وثيقة استراتيجيتها إن المسؤولين الأوروبيين “يحملون توقعات غير واقعية بشأن الحرب”، وأعربت عن أسفها لافتقار القارة إلى “الثقة بالنفس”، وخصوصاً في علاقتها مع روسيا.

بالنسبة لبريطانيا، فإن التحدي أكثر حدّة؛ فقد سعى ستارمر لتقديم بريطانيا كأقوى حليف لأوكرانيا، والدولة الأوروبية الأقرب إلى الولايات المتحدة. وبالنظر إلى الشراكة الفريدة بين البلدين في المجالين العسكري والاستخباراتي، فإن حدوث شرخ في “العلاقة الخاصة” أمر غير وارد بالنسبة للندن.

لهذا السبب، ترى بريطانيا نفسها أكثر هدوءاً في التعامل مع تحركات ترمب مقارنة بنظرائها الأوروبيين. ويقول مسؤولون بريطانيون إن الادعاءات بشأن صفقة وشيكة لم تكن صحيحة، وإن بوتين يبدو أنه رفض المقترحات الأميركية في اجتماع مع مبعوثي ترمب هذا الأسبوع، وإن الخطة جرى تعديلها قليلاً لمصلحة أوكرانيا، بحسب ما أوردت بلومبرغ”.

لكن الأوروبيين يرون تحركات مختلفة محتملة هذه المرة. إذ يعتبر الدبلوماسيون الأوروبيون أن التواصل مع الجانبين الأميركي والأوكراني لم يكن يسير بسهولة في الآونة الأخيرة. كما أنهم باتوا أكثر استعداداً لسيناريو انسحاب ترمب من الملف في حال عدم قدرته على إبرام اتفاق.

وفي الوقت نفسه، يتعرض زيلينسكي لضغط من الولايات المتحدة ومن فضيحة فساد داخلية أدت إلى تغييرات في فريقه الأعلى، ما قد يضعف قدرة كييف على مقاومة أي اتفاق سيئ، وفق ما صرح مسؤول أوروبي لـ”بلومبرغ”.

ولا يزال من غير الواضح ما إذا كانت أوروبا ستنجح في وضع خطة قابلة للتطبيق لاستمرار تمويل الدعم لأوكرانيا. فالمقترح الأوروبي باستخدام الأصول المجمّدة للبنك المركزي الروسي لتمويل كييف لا يزال معلّقاً، بسبب موقف بلجيكا ومعارضة أميركا.

وفي تعليقها على ما جاء في الاستراتيجية الأميركية، قالت مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، كايا كالاس، في ندوة ضمن فعاليات “منتدى الدوحة 2025” في قطر، السبت، إن “هناك الكثير من الانتقادات، ولكنني أعتقد أن بعضها صحيح أيضاً، إذا نظرتم إلى أوروبا، تجدون أنها تستهين بقوتها أمام روسيا”.

 وأضافت: “يجب أن نكون أكثر ثقة بالنفس”، مؤكدة أن “الولايات المتحدة لا تزال أكبر حليف لنا”. وتابعت كالاس: “أعتقد أننا لا نتفق دائماً في الرأي إزاء مواضيع مختلفة، لكن أعتقد أن المبدأ العام لا يزال قائماً. نحن أكبر حليفين وعلينا أن نتكاتف دوماً”.

وتمثل استراتيجية الأمن القومي الأميركي الجديدة “تحولاً غير مسبوق” في التاريخ الحديث لواشنطن، إذ تعكس الوثيقة، التي تمتد لنحو 30 صفحة، انقلاباً جذرياً في نظرة واشنطن التقليدية لأوروبا، من شريك استراتيجي إلى طرف يُنظر إليه باعتباره عقبة أمام المصالح الأميركية.

شاركها.