مع اقتراب انتخابات بلدية نيويورك، يواصل المرشح الديمقراطي زهران ممداني صعوده في استطلاعات الرأي، حاملاً برنامجاً تقدمياً يسعى إلى إعادة توزيع الثروة وتوسيع الخدمات العامة ووضع سقف للإيجارات. لكن لفهم ممداني، كما يقول الخبراء، لا بد من فهم المدينة التي أنجبته سياسياً، لأن “نيويورك ليست خلفية قصته، بل مسرحها”.

وتشهد الانتخابات البلدية في نيويورك، احتداماً متزايداً مع محاولة المرشحين حشد مزيد من الناخبين واستمالة المترددين قبل الاقتراع المقرر في 4 نوفمبر الجاري.

في أحدث استطلاع أجرته جامعة كوينيبياك، الجمعة، حصل ممداني البالغ من العمر 38 عاماً، على 43% من أصوات الناخبين المرجّحين، بينما نال كومو 33%، وسليوا 14%، في حين قال 6% إنهم لم يحسموا موقفهم بعد، ورفض 3% الإجابة.

وقالت ماري سنو، نائبة مدير استطلاع جامعة كوينيبياك، إن “المرشحين عرضوا برامجهم، والتصويت المبكر بدأ بالفعل. زهران ممداني يتقدم بفارق عشر نقاط عن أندرو كومو، فيما يأتي كيرتس سليوا في مركز متأخر، لكن هناك عامل مجهول واحد: نسبة الناخبين الذين لم يقرروا بعد زادت قليلاً منذ بداية الشهر، ما يشير إلى إمكانية حدوث تغيّر في اللحظات الأخيرة من السباق”.

قلب الولايات المتحدة

تُعدّ نيويورك قلب الولايات المتحدة النابض ومختبرها السياسي والاقتصادي الأبرز، فهي ليست مجرد مدينة، بل مرآة تنعكس فيها تناقضات الولايات المتحدة كلها،  بين الغنى الفاحش والفقر المدقع، وبين الرأسمالية والطموحات الاجتماعية. 

وتضم نيويورك المقرات الكبرى للشركات العالمية ومركز الأمم المتحدة، وفي الوقت نفسه يعيش فيها ملايين العمال والمهاجرين الذين يكافحون لتأمين أبسط متطلبات الحياة. 

البروفيسور تيد بيلت، أستاذ السياسات في جامعة جورج تاون، أشار في تصريحات لـ”الشرق”، إلى أنه “حين يعمل أشخاص في وظيفتين فقط كي يتمكنوا من العيش، بينما يعيش غيرهم في ثراء فاحش، يصبح الناس مستعدين لسماع صوت جديد يعيد التوازن الاقتصادي.. وهذا ما يفسر صعود ممداني”.

تبدو نيويورك كما لو كانت العالم مضغوطاً في مساحة لا تتجاوز 300 ميل مربع. ففي مانهاتن ينبض قلب المال والثقافة بناطحات السحاب وسنترال بارك والأمم المتحدة، بينما تحولت بروكلين من منطقة صناعية إلى موطن للفنانين وشركات التكنولوجيا، فارتفعت إيجاراتها من دون حدود.

أما كوينز، التي فاز فيها ممداني بعضوية مجلس البلدية، فتُعد أكثر مناطق المدينة تنوعاً، إذ يتحدث السكان فيها أكثر من 180 لغة.

وفي المقابل، تحمل البرونكس إرث موسيقى الهيب هوب، إلى جانب تهميش اقتصادي واضح، بينما تميل ستاتن آيلاند ذات الطابع المحافظ إلى الجمهوريين.

في هذه المدينة المتكدسة، تتجاور المكاتب الزجاجية الفاخرة مع الشقق الضيقة التي يعيش فيها مهاجرون، وطبقة عاملة تكافح من أجل البقاء.

ووفق مجلة “فوربس” فإن نيويورك تضم 123 مليارديراً و384 ألف مليونير، ويستحوذ أغنى 5% من سكانها على نحو 40% من إجمالي الدخل، في حين يضطر كثيرون للعمل في ثلاث وظائف لتغطية نفقات المعيشة.

تحولات فكرية داخل الحزب الديمقراطي

يرى البروفيسور تيد بيلت، أستاذ السياسات في جامعة جورج تاون، أن ممداني، يؤمن أن الدولة يجب أن تلعب دوراً أكبر في إعادة توزيع الثروة، خلافاً للتيار الوسطي الذي مثله الرئيس الأميركي السابق، بيل كلينتون، والذي يؤمن أن السوق الحرة قادرة على خلق فرص للجميع.

وأضاف أن “ممداني لم يأت من خارج الحزب الديمقراطي، هو يمثل تحولاً في داخل الحزب”.

ويشير تقرير صادر عن مؤسسة روبن هوود لعام 2023، إلى أن واحداً من كل أربعة من سكان نيويورك، يعيش في فقر مدقع بعد احتساب كلفة المعيشة، إذ تصل كلفة حضانة طفل واحد إلى نحو 26 ألف دولار سنوياً، وهو رقم يعادل تقريباً خط الفقر الفيدرالي لأسرة كاملة.

وما يزيد المشهد تعقيداً، أن 37% من سكان نيويورك وُلدوا خارج الولايات المتحدة، ما يجعل المدينة مهد المهاجرين الذين يطاردون أحلامهم، بينما يكافحون تكاليف الحياة المرتفعة.

إحياء الاشتراكية الديمقراطية

هذا المزيج بين الطموح والاحتياج، أعاد الحياة إلى فكرة الاشتراكية الديمقراطية، التي بدت يوماً ما غريبة عن الأذن الأميركية، لكنها تقترب في جوهرها من نموذج “دولة الرفاه” الأوروبية: اقتصاد رأسمالي خاضع للضرائب والضوابط، يوفر خدمات عامة قوية.

تعود الجذور الفكرية لهذا التيار إلى المفكر مايكل هارينجتون، مؤلف كتاب “أميركا الأخرى” الصادر في عام 1962، الذي كشف عن تفشي الفقر وسط ازدهار ما بعد الحرب، وأسّس لاحقاً منظمة “الاشتراكيين الديمقراطيين في أميركا” في عام 1982.

وظلت الحركة هامشية، حتى أحياها عضو مجلس الشيوخ الأميركي عن ولاية فيرمونت، بيرني ساندرز، خلال حملاته الرئاسية في 2016 و2020.

وارتفع عدد أعضاء “تيار ساندرز” من بضعة آلاف إلى عشرات الآلاف، وبرزت أسماء مثل ألكساندرا أوكاسيو كورتيز في برونكس، وجوليا سالازار في بروكلين كقادة لما سمي بـ”الديمقراطيين التقدميين”.

برنامج ممداني وتحدياته القانونية

مع صعود ممداني، تحول السؤال من “هل يستطيع الاشتراكيون الديمقراطيون الفوز؟”، إلى “كيف سيؤثر فوزهم؟”. 

يقول مارك هاركنز، مدير قسم الشؤون الحكومية في جامعة جورج تاون، لـ “الشرق”، “ما يراقبه الجميع الآن ليس فقط ما إذا كان ممداني سيفوز، بل حجم هامش الفوز، لأن هذا الفارق سيحدد مدى تحرك الحزب الديمقراطي نحو اليسار”. لكن هاركنز يضيف أن نيويورك “ليست عينة من أميركا، وما يحدث فيها لا يُترجم بالضرورة إلى باقي أنحاء البلاد”.

أما المستشار السياسي ريتشارد جودستين، الذي عمل مع بيل وهيلاري كلينتون، فيقول لـ”الشرق”، إن نيويورك حالة خاصة شديدة الديمقراطية، وفوز ممداني لا يعني أن الحزب سيتحول يساراً على المستوى الوطني”.

يطرح ممداني وعوداً طموحة تتضمن زيادة الضرائب بنسبة 2% على من تتجاوز دخولهم المليون دولار سنوياً، وتوجيه العائدات إلى رعاية الأطفال والبنية التحتية للنقل وتوسيع الخدمات الاجتماعية، إلى جانب تجميد الإيجارات.

لكن تطبيق هذه الوعود يواجه عائقاً قانونياً، إذ تعود صلاحيات الضرائب إلى حكومة ولاية نيويورك لا إلى بلدية المدينة، ما يجعل تنفيذها مرتبطاً بموافقة الحاكم في العاصمة ألباني.

في المقابل، يحذر خصوم ممداني من أن رفع الضرائب قد يدفع الأثرياء إلى مغادرة المدينة، إلا أن دراسات اقتصادية تشير إلى أن هذا الاحتمال ضعيف، لأن ثروة النخبة في نيويورك مرتبطة بنظامها المالي وفرصها الفريدة.

تظل نيويورك، كما يصفها الخبراء، مدينة تقوم على توازن دقيق بين المال والسياسة؛ فهي تعتمد على ضرائب الأثرياء لتمويل خدماتها، لكنها أيضاً موطن الطبقة العاملة والمهاجرين الذين يشكّلون نسيجها الحقيقي.

ويرى بيلت أن ممداني يمثل “صوت الناس المتعبين اقتصادياً الذين يقولون إن المدينة يجب أن تخدم الجميع، لا أن تكون نادياً للأثرياء فقط”. أما ممداني نفسه، فيقول في أحد خطاباته: “يمكننا أن نوفر الكرامة للجميع إذا جعلناها أولوية”.

وفي النهاية، تبقى نيويورك، المدينة التي تأسست على موجات الهجرة والمصانع والمرافئ، تعيد التفكير في نفسها من جديد.

شاركها.