– بيسان خلف
في قلب مدينة السويداء، لا يمر يوم على ساحة “الكرامة”، كما أطلق عليها المحتجون في السويداء عام 2021، إلا وتتسلل ألحان أغاني الثورة السورية إلى أزقة وبيوت المدينة القديمة في السويداء.
“رجع الخي” “يا حيف” لسميح شقير، والكثير من أغاني تراث جبل العرب، يتردد صداها بشكل شبه يومي في ساحة “الكرامة” التي لم تعد تشهد اعتصامات يومية بعد سقوط نظام الأسد، إلا بعض الاحتجاجات على الواقع الخدمي وفصل الموظفين في عهد سوريا الجديدة.
“لا نخرج اليوم إلى الساحة حتى نسقط نظامًا إنما لنحمي الحلم السوري بالحرية والديمقراطية، والأصوات الشعبية التي أسقطت نظام الطاغية”، يقول عصام الشوفي، ل، والذي كان أحد المشاركين في حراك السويداء عام 2021.
ويرى عصام أن ساحة “الكرامة” هي ذاكرة أهالي السويداء، وبوصلة الثورة التي لا يريد أن تتحول إلى ساحة صامتة، كما كانت في سابق عهدها، إذ تركوا في الساحة ذكريات بعضها “مؤلم” وبعضها الآخر “انتصارات أمام الطغيان”.
“هنا شيعنا الشهيد جواد الباروكي، وأطلق علينا الأمن السوري (في عهد النظام السابق) رصاصًا حيًا، وهنا أيضًا هتفنا لنحيي كل المحافظات السورية التي ساندتنا ووقفت جنبًا إلى جنب من حراك السويداء الشعبي عام 2012، نريد أن تبقى الساحة حرة وحية بأغاني الثورة والحرية”.
ويعتبر عصام أن “أغاني ساحة الكرامة لا تمجد الزعماء، بل تمجد الإنسان”، فأصل حراك السويداء قام لأجل الإنسان السوري، المغيب سواء في المعتقلات أو المكافح الذي يعمل ليلًا نهارًا حتى يؤمّن قوت يومه وأولاده، إذ “أصبحت الثورة بأغانيها جزءًا من وجدان أهالي السويداء”، وكلما سمعوا الأغاني شعروا بأنهم يعيدون بناء سوريا من تحت ركام منازل من ماتوا من أجل سوريا حرة.
لو تركنا الساحة تنسى، سنترك تاريخنا يسرق، الثورة ليست حدثًا عابرًا في تاريخ سوريا، إنما قيم ومبادئ يجب أن يعيشها السوري كل يوم.
عصام الشوفي
ناشط في حراك السويداء
وكان أهالي السويداء يعرفونها باسم ساحة “السير”، التي صار اسمها ساحة “الكرامة”، بعد أن شهدت مظاهرات منتظمة تنادي بإسقاط نظام الأسد، احتجاجات على ما شهدته سوريا آنذاك من واقع اقتصادي متردٍّ، بحسب الشوفي.
تحويل الساحة إلى مركز نشاطات
تأمل ربى عزام، الناشطة في المجتمع المدني بمحافظة السويداء، بألا تتحول ساحة “الكرامة” مستقبلًا إلى مجرد معلم تذكاري، إذ تُصر ومجموعة من الناشطين في السويداء على إبقائها مسرحًا للأنشطة، وإقامة حلقات نقاش سياسي وفكري، ومعارض فنية، ومهرجانات موسيقية.
وقالت ربى، خلال حديث إلى، “اليوم لم يعد هناك طاغية في سوريا”، مضيفة، “نريد من خلال التجمعات في الساحة أن نكسر ثقافة الخوف عند الشعب السوري المغيب سياسيًا نتيجة تسلط حزب البعث لسنوات على مناحي السياسة في سوريا، الشعب لم يكن يقرأ ليس لأنه غير مثقف، إنما لأن القراءة خارج إطار حزب البعث كانت خيانة عظمة، ونيلًا من هيبة البعث”.
نريد من خلال التجمعات في الساحة أن نكسر ثقافة الخوف عند الشعب السوري المغيّب سياسيًا نتيجة تسلط حزب البعث لسنوات على مناحي السياسة في سوريا.
ربى عزام
ناشطة مدنية
وتابعت ربى أن الشعب السوري متنوع عرقيًا وطائفيًا، ونتيجة تغييب “البعث” للشعب، أصبحت ثقافته عن الآخر من أبناء بلده ضعيفة، “يجب أن تصبح الساحة مساحة للتعارف فيما بين مكونات الشعب السوري، حتى يتضاءل الشرخ بين أبناء الشعب، ويختفي الخطاب الطائفي في المجتمع”.
الساحة لا تنتمي إلى حزب أو تيار سياسي، مهما حاول البعض إلصاقها بتبعية، إنما مفتوحة لجميع مكونات الشعب السوري، وهذا ما شهدته في الأشهر الأولى لسقوط النظام، “إذ شهدنا زيارات لناشطين من حلب وإدلب ودرعا إلى الساحة للاحتفال بسقوط النظام مع أبناء السويداء”، وفقًا لربى.
وقالت إنه بعد نظام الأسد، لم تبحث ساحة “الكرامة” عن دور جديد لأنها لم تفقد دورها يومًا، ولا تزال تغني حتى الآن بأن الثورة لا تنتهي بسقوط مستبد بل تبدأ من لحظة بناء وطن جديد، يرفع فيه الصوت لا ليموت هذه المرة بل ليحيا.
وبحسب الأهالي، فإن لساحة الكرامة خصوصية تاريخية في تطور التاريخ السوري.
خصوصية ساحة “الكرامة” التاريخية
كانت ساحة “السرايا” أو “السير” سابقًا، “الكرامة” حاليًا، في العهد العثماني، مستطيلًا فارغًا يُسمّى الميدان، يقع بالقرب من السوق التجاري القديم للمدينة، وكانت تقام فيه ألعاب الفروسية، ثم بنى فيها العثمانيون السرايا العثمانية، لذلك سميت بساحة “السرايا”، ثم تحولت إلى ساحة للتدريب العسكري في عام 1956، لتدريب طلاب المدارس على حمل السلاح واستخدامه.
مع وصول حافظ الأسد للسلطة عام 1970، بدأت تماثيله تظهر على الأماكن العامة والساحات في أنحاء سوريا، إذ زرع تمثاله في وسط ساحة “الكرامة” بالسويداء بارتفاع ثلاثة أمتار، لينافس تمثال قائد الثورة السورية الكبرى سلطان باشا الأطرش في القريا، والذي يعتبره أهالي المحافظة شخصية رمزية لها تاريخ طويل بالنضال ضد الاستعمار.
وفي قصة تاريخية مع تمثال حافظ الأسد تتناقلها الأجيال في مدينة السويداء، استفاق الأهالي على تنكة سمن فارغة معلقة في يد تمثال حافظ الأسد وسط ساحة “الكرامة”، احتجاجًا على الأزمة الاقتصادية التي شهدتها سوريا في الثمانينيات.
وفي عام 2015، مع اغتيال الشيخ وحيد البلعوس، مؤسس حركة “رجال الكرامة” المناهضة لنظام الأسد، بتفجير، ثم تفجير ثانٍ استهدف مصابي التفجير الأول ومسعفيهم على باب المستشفى “الوطني” في المدينة، أسقط بعض من المحتجين تمثال حافظ الأسد، ليكلف ذلك السويداء 26 قتيلًا.
وفي نهاية عام 2020، ومطلع عام 2021، شهدت محافظات السويداء احتجاجات شعبية ضد رفع أسعار المحروقات، واختارت ساحة “السير” (سابقًا) نظرًا إلى رمزيتها وإسقاط تمثال الأسد منها، لتتحول الاحتجاجات إلى حراك ثوري ضد نظام الأسد يطالب بإسقاطه، لتتحول الساحة إلى رمز للثورة السورية.
المصدر: عنب بلدي