اخر الاخبار

“ساعة القيامة” لم تحن بعد.. لماذا الحرب النووية مستبعدة؟

“قبل أكثر من مليوني عام، جلس الإنسان البدائي، بشعره الطويل ولحيته الكثّة، على ضفاف وادي أولدوفاي في تنزانيا. فكّر، قرّر، ثم شرع في نحت أحجار الصوان ليصنع منها رؤوساً حادةً وحراباً. أرادها لإعانته في الصيد، وتقطيع الفرائس، والدفاع عن النفس. كانت تلك الأدوات أولى الأسلحة التي استخدمها أسلافنا، لكنها لم تكن قادرة على قتل الكثيرين أو الوصول إلى أقرانهم خلف المحيطات.

هبّت رياح التطور، وامتدت لمئات آلاف السنين، ثم جاء عصر السيوف حوالي 3 آلاف قبل الميلاد، وأصبحت قدرة البشر على شن الحروب أكثر فاعلية من ذي قبل. استمر هذا الحال حتى القرن الـ13، عندما وُظِّفَ البارود للمرة الأولى في المعارك بعد 4 قرون من اكتشافه في الصين. خلال القرون اللاحقة تطورت الأسلحة وازدادت قوة وتدميراً: بنادق، ودبابات، وصواريخ، وطائرات، وغيرها الكثير، إلا أن اللحظة الفاصلة حلّت في أربعينيات القرن الـ20، عندما ظهر سلاح لم يسبق له مثيل في الإبادة وشدّة التدمير.

بذقون حليقة، وبزات رسمية، وأحذية لامعة، اتخذ البشر العقلاء القرار. القنبلة النووية تُدشّن عصراً جديداً في تاريخ الحروب!

اليوم.. بعد نحو 80 عاماً.. يطل شبح الخطر النووي من جديد، حيث يخشى العالم من تصعيدٍ مفاجئ في أوكرانيا، بينما يقول المسؤولون إن الحرب الروسية تدخل أحلك مراحلها.

فهل المواجهة النووية مصيرٌ حتمي تسير إليه البشرية؟ أم أنها خيارٌ مستبعدٌ أو مستحيل؟

في الحلقة السادسة من برنامج “سؤال المليار” على “الشرق بودكاست”، استضافت ميراشا غازي الدكتور جيسين كاستييو، أستاذ العلوم السياسية في كلية بوش للخدمات الحكومية بجامعة تكساس. وهو متخصص في الصراعات النووية ومتطلبات الردع، وعمل سابقاً كمستشار لدى وزارة الدفاع الأميركية، وكان أيضاً باحثاً في مركز “رند” للدراسات والأبحاث السياسية.

فتح الصراع المسلح في أوكرانيا أبواب الجحيم على العالم. مضى أكثر من عامين ونصف العام على الحرب. بدأ الصبر ينفذ. يتوق القيصر إلى نصرٍ يُريد خصومُه انتزاعَه أمام عينيه. يقودهم الأميركيون، يدفع الغرب بأسلحته وأمواله لنجدة حليف يطلب النجدة. الضوء الأخضر لضرب العمق الروسي قيد البحث والقرار.

يزداد التوتر توتراً.. قد يكون السلاح النووي حلاً إذ ما فرغت الحلول. “هذه خطوطي الحمراء”: هدّد بوتين بصوت هادئ وحاسم. قُرع ناقوس الخطر منذ حين، ليست المرة الأولى التي يتم التلويح فيها بالورقة النووية، لكن اللهجة هذه المرة بدت أشد عزماً وحِدّة، إذ لا هزيمة، على ما يبدو، في قاموس سيّد الكرملين.

بوتين يُلوّح بالنووي

لطالما ترددت واشنطن في إمداد أوكرانيا بأسلحة بعيدة المدى، خشية تصعيد الحرب إلى مستويات خطيرة، لكن في العاشر من سبتمبر، أعلن الرئيس الأميركي جو بايدن أن إدارته “تعمل على هذه المسألة” حين سئل عن احتمال رفع القيود المفروضة على استخدام كييف لصواريخ مثل “أتاكمز” تستطيع الوصول إلى العمق الروسي.

وسرعان ما حذّر الكرملين من مغبّة هكذا خطوة، واعتبر بوتين أن منح أوكرانيا مثل هذه الصواريخ يعني أن دول “الناتو” ستكون في حالة حرب مع روسيا.

وقال بوتين: “لا يتعلق الأمر بالسماح للنظام الأوكراني بضرب روسيا بهذه الأسلحة أم لا، بل يتعلق بشأن ما إذا كانت دول الناتو متورطة بشكل مباشر في الصراع العسكري أم لا. إذا تم اتخاذ القرار، سيساهم  ذلك في تغيير جوهر الصراع وطبيعته، وهذا يعني ببساطة أن الولايات المتحدة والدول الأوروبية يشاركون بشكل مباشر في الحرب داخل أوكرانيا”.

كرّر الزعيم الروسي في أكثر من مناسبة أن الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة التي استخدمت السلاح النووي من قبل، لكن منذ بدء الحرب الأوكرانية عام 2022، لوّح مراراً بالسلاح النووي، وازدادت الشكوك حول تهديداته بعد إعلانه تعديل العقيدة النووية.

في ضوء هذا المتغيرات، يتحدث جيسين كاستييو عن الظروف التي قد تؤدي إلى اندلاع مواجهة نووية، وهو يرى أن “السيناريو الأكثر احتمالاً حالياً هو نوع من التصعيد بين الناتو وروسيا. ما يقلقني أن الأميركيين كانوا غير واقعيين للغاية بشأن قدرة أوكرانيا على تحقيق النصر في الحرب، متجاهلين حقيقة أنها تخوض حرب استنزاف، ولا يمكنها التنافس مع بلد مثل روسيا يمتلك الكثير من المدفعية والقوى البشرية، وقد نشرت (وول ستريت جورنال) مقالاً حول الخسائر التي بدأت فعلاً بتقويض إرادة أوكرانيا للقتال، ومقال رأي آخر في (واشنطن بوست) يُجادل بأن أوكرانيا تتعرض للاستنزاف. ولهذا ما يقلقني هو أن الجيش الأوكراني قد ينهار في مرحلة ما، وتتقدم روسيا إلى غرب أوكرانيا، ليجد الناتو نفسه مائلاً إلى التدخل بطريقة ما”.

وأضاف كاستييو: “عندما يتدخل الناتو، يمكن تصور سيناريو حيث ترسل بولندا قوات إلى أوكرانيا حتى وإن قالت ألمانيا والولايات المتحدة لا تفعلوا ذلك. وفجأة، سنجد حلف الأطلسي في أوكرانيا يُقاتل روسيا، سواء أحببنا ذلك أم لا. بالطبع، لا أشك في أن قوة الحلف الجوية سيكون لها تأثير مدمر على القوات الروسية التقليدية، وهذا قد يدفع موسكو لاستخدام الأسلحة النووية”.

السيناريو الآخر الذي يقلق كاستييو هو أن “بوتين أعرب بوضوح عن قلقه من الأسلحة ذات المدى الطويل التي ترغب بريطانيا والولايات المتحدة في إرسالها إلى أوكرانيا. لست متأكداً من التأثير العسكري الذي قد تحدثه تلك الأسلحة لو ضربت في العمق الروسي. قد تكون مرضية كردٍّ على الهجمات الروسية المدمرة في أوكرانيا، لكن ذلك قد يستدعي استجابة ربما تكون نووية”.

في 26 سبتمبر، استعرض الزعيم الروسي خلال اجتماع مع مستشاريه وثيقة تعديلات على العقيدة النووية التي تحدد ظروف استخدام هذا السلاح، لافتاً إلى أن المبدأ الأساسي لاستخدام الأسلحة النووية، هو إجراء استثنائي للدفاع عن سيادة البلاد، واستطرد: “نرى أن الوضع العسكري والسياسي الحالي يتغير بشكل ديناميكي، ويجب أن نأخذ هذا في الاعتبار، بما في ذلك ظهور مصادر جديدة للتهديدات والمخاطر العسكرية لروسيا وحلفائها. تتضمن النسخة المحدثة من الوثيقة اقتراحاً بأن العدوان ضد روسيا من قبل أي دولة غير نووية، لكن بدعم أو بمشاركة دولة نووية، يجب اعتباره هجوماً مشتركاً على الاتحاد الروسي”.

وتابع: “سنأخذ بالاعتبار هذا الاحتمال، بمجرد أن نتلقى معلومات موثوقة حول إطلاق مكثف لوسائل الهجوم الفضائية واجتيازها لحدودنا، بما في ذلك الطائرات الاستراتيجية أو التقنية، وصواريخ كروز، والصواريخ الأسرع من الصوت، والمسيّرات، وغيرها من الطائرات. نحتفظ بالحق في استخدام الأسلحة النووية في حالة العدوان على روسيا، وبيلاروس الحليفة لموسكو”.

مع ذلك، يرى كاستييو أن احتمالات استخدام روسيا للسلاح النووي ضيقة جداً “أعتقد أن شيئاً واحداً يمكننا أن نعرفه عن روسيا منذ عام 2014، هو أن فلاديمير بوتين يحب التلويح بالأسلحة النووية. وهذا يشمل تهديدات ضمنية وأخرى صريحة. وهي إشارة إلى أن الاهتمام الكبير لروسيا بأوكرانيا. لكني أعتقد أن الظروف التي قد تضطر فيها روسيا لاستخدام الأسلحة النووية ضيقة جداً، وتشمل خسارة جيشها الحرب أو إذا تدخل الناتو وقلب موازين القوة”.

وأضاف: “لذلك، عتبة المواجهة النووية مشابهة لما كانت عليه التهديدات خلال الحرب الباردة. أي أننا إذا خسرنا حرباً تقليدية حول شيء نعتز به بشدة، فإننا سنخاطر باستخدام الأسلحة النووية. وهذا يضع الغرب أمام معادلة غير مرضية في أوكرانيا، حيث كلما تحسن أداء الجيش الروسي، انخفضت احتمالية استخدامه الأسلحة النووية. وكلما تدهور أداء الجيش الروسي، زادت احتمالية استخدام الأسلحة النووية”.

بالنسبة للبعض، قد تبدو الحربُ النووية مجردَ مبالغات لإثارة الرعب ونشر الفزع. سيراها آخرون تهديداً وجودياً للبشرية جمعاء. في كلتا الحالتين، من الواضح أن هذه القضية تمسّنا جميعنا. نحن سكان الأرض. لكن، كيف بدأت حكاية هذه الأسلحة، ومنذ متى تلاحقنا؟

مشروع مانهاتن 1942

في ثلاثينيات القرن الماضي، اكتشف العلماء الألمان عملية الانشطار النووي، ومع حلول الحرب العالمية الثانية كان النظام النازي يسعى إلى تطوير قنبلة ذرية. بلغت الأنباء دول الحلفاء، فحذر علماؤها من العواقب: “هتلر المتعطش للغزو، إذا ما وقع السلاح النووي بين يديه، لن يتردد في تدمير خصومه”. فَزِعَ الأميركيون، فدخلوا في سباقٍ مع الزمن، لإجهاض مساعي الزعيم الألماني. نجحوا باستهداف منشآته النووية. وبدؤوا في تطوير برنامجهم الخاص.

سرعان ما أطلقت إدارة فرانكلين د. روزفلت مشروع مانهاتن النووي، وبحلول يوليو 1945، نجح أول اختبار للقنبلة النووية في موقع يبعد حوالي 200 كيلو متر جنوب ولاية نيو مكسيكو. في الشهر التالي كانت تلك القنابل تدكُّ الياباينيين الأبرياء في هيروشيما وناجازاكي، لتنتهي بذلك تراجيديا الحرب العالمية الثانية.

كارثة هيروشيما

كان مساء الثاني من أغسطس عام 1945، هادئاً في هيروشيما المطلة على بحر سيتو. السماء صافية، والسكان يمارسون حياتهم الاعتيادية. لم تكن المدينة ساحة حرب، لكنها كانت مركزاً صناعياً وعسكرياً مهماً، ولهذا، أرادت الولايات المتحدة إحداث أكبر تدمير ممكن، ودفع الإمبراطورية اليابانية إلى الاستسلام.

اتخذ الرئيس الأميركي هاري ترومان القرار بتنفيذ العملية وضح النهار. الساعة تدق عند الثامنة والنصف صباحاً بالتوقيت المحلي. ألقى الطيارون الأميركيون “Little Boy “الطفل الصغير” وهو الاسم الذي أُطلق على تلك القنبلة النووية.. لم تكن صغيرة ولا بريئة كطفل، كانت زلزالاً غير متوقع وشراً انقض على المدينة بلمحة البصر، حيث سُحقت الأبنية كأنها رمال، وانقلبت الحياة إلى رماد وموت.

وخطفت الضربة النووية حياة 80 ألف إنسان في نفس اللحظة، ولحقهم 60 ألفاً بفعل الإشعاع الذي فاق سطوعه ألف شمس، كما يُقال.

أنواع القنابل النووية

استخدمت الولايات المتحدة ضد اليابان قنبلتين نوويتين ذريتين هما “Little Boy” التي استهدفت هيروشيما وتعتمد على انشطار اليورانيوم، و”Fat Man” التي ضربت ناجازاكي وتعتمد على انشطار البلوتونيوم.

في التعريف العلمي القنبلة الذرية هي سلاح يعتمد على الانشطار النووي لعنصر ثقيل مثل اليورانيوم أو البلوتونيوم، بينما تشمل القنبلة النووية جميع أنواع الأسلحة التي تستخدم الطاقة النووية، بما في ذلك القنابل الذرية والهيدروجينية، ولذلك، كل قنبلة ذرية هي قنبلة نووية، لكن ليست كل القنابل النووية ذرية.

أما القنبلة الهيدروجينية، التي طُّورت في فترة لاحقة، فتعمل من خلال الاندماج النووي، وهي أكثر تدميراً من القنابل النووية التقليدية التي تعتمد على الانشطار. 

على سبيل المثال، القنبلة التي ضربت هيروشيما كانت تعادل نحو 15 كيلوطن من مادة “TNT”، بينما بعض القنابل الهيدروجينية يمكن أن تصل قوتها إلى ميجاطن (أي مليون طن أو أكثر من  TNT).

الشعور بالذنب يلاحق أوبنهايمر

روبرت أوبنهايمر “أبو القنبلة الذرية”، والعقل المدبر لمشروع مانهاتن النووي، عالم أميركي من أصل ألماني يهودي، وأحد أبرز فيزيائيي الولايات المتحدة في القرن الـ20.

عندما شهد أوبنهايمر بعينيه أول تجربة نووية في نيو مكسيكو، شعر بالذعر من القدرة التدميرية لهذه الأسلحة التي كان له المساهمة الأكبر بتطويرها، وبعد إبادة هيروشيما وناجازاكي، لاحقه الشعور بالذنب طيلة حياته. وفي العام 1949، أوصت اللجنة الاستشارية للطاقة الذرية التي ترأسها بعدم بناء قنبلة هيدروجينية، ذلك أن قوة انفجارها ستفوق ألف مرة قوة القنبلة الذرية.

إلا أن هذا الموقف خلق له الكثير من الأعداء السياسيين، ودفع ثمنه شخصياً ومهنياً خلال ما تبقى من حياته، فباعتباره شيوعياً سابقاً، جعلته المشاعر المعادية للشيوعية التي ارتبطت بمكارثية ذلك العصر، متهماً بالعمالة للسوفييت وهدفاً لمضايقة الاستخبارات الأميركية، ليتم إبعاده عن كافة المشاريع النووية الحكومية.

وفي العام 1965، تحدث روبرت أوبنهايمر في وثائقي عن تأملاته لما صنعت يداه، قائلاً بصوت تخنقه العبرات والإحساس بالندم: “كنا نعلم أن العالم لن يكون كما كان. بعض الناس ضحكوا. بعض الناس بكوا. وكان معظم الناس صامتين. تذكرت السطر من الكتاب المقدس الهندي “البهاغافاد غيتا”، حيث يحاول فيشنو إقناع الأمير بأنه يجب عليه أداء واجبه، ولإقناعه، يتخذ شكلاً متعدد الأذرع ويقول: الآن أصبحت الموت، مدمّر العوالم. أعتقد أننا جميعًًا فكرنا في ذلك، بطريقة أو بأخرى”.

السباق النووي

بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، انطلقت العديد من البلدان في سباق محموم لامتلاك السلاح النووي. حاول بعضها، لكنه فشل، بينما نجح آخرون.

وهكذا، في نهاية المطاف، امتلكت 9 دول حول العالم أسلحة نووية، هي: الولايات المتحدة، وروسيا، والصين، وبريطانيا، وفرنسا، والهند، وباكستان، وكوريا الشمالية، وإسرائيل. كما تستضيف ألمانيا، وإيطاليا، وبلجيكا، وهولندا، وتركيا، رؤوساً نووية أميركية تتحكم بها واشنطن.

أما اليوم، تُقدر المخزونات النووية للدول مجتمعة بنحو 13 ألف و500 رأس نووي، يملك الروس والأميركيون 90% منها.

أنظمة الإنذار المبكر

في ذروة الحرب الباردة مطلع ثمانينات القرن الماضي، قُدّر عدد الرؤوس النووية في الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي مجتمعين بحوالي 60 ألف رأس نووي، حيث كانت الدولتان العظمتان تتنافسان على تطوير ترسانات نووية ضخمة كجزء من استراتيجيات الردع.

ومع مرور الوقت، انخفض العدد إلى حد كبير، بفعل معاهدات الحد من انتشار الأسلحة، وتغيّر الاستراتيجيات، والضغط الدولي، ما أدى إلى خفض التهديد بنشوب حرب نووية، إلا أن تقريراً نشره مركز “رند”  للأبحاث عام 2016، بعنوان “الإنذارات الكاذبة، أخطار حقيقية؟”، حذّر من مغبّة وقوع صراع نووي غير متعمد بين الولايات المتحدة وروسيا، نتيجة خطأ في تأويل حدث ما، كالمناورات التدريبية أو الأعطال التقنية أو الظواهر الطبيعية، بحيث يبدو الإنذار مؤشراً على استفزاز أو هجوم نووي.

لدى كلا البلدين أنظمة للإنذار بوقوع هجمات صاروخية، تشمل الأقمار الاصطناعية والرادارات، غير أن هناك ثغرةً خطيرة في أجهزة استشعار النظامين، وهي أنها قد تكون عرضة لإنذارات كاذبة، فإذا ما بدا أي مؤشر على وقوع هجوم مقنعاً بما يكفي، يتم الاتصال بالقادة وإطلاعهم على الموقف، ثم يكون عليهم اتخاذ قرار الرد بإطلاق صواريخهم أو عدم إطلاقها.

تحدث التقرير عن 3 سيناريوهات يُحتمل فيها نشوب صراع نووي غير متعمد، الأول في حالة الإنذار الكاذب الصادر عن أي نظام للإنذار المبكر، والثاني تصعيد أي صراع تقليدي قرب روسيا (أي في أحد بلدان الاتحاد السوفييتي سابقاً، أو أي بلد حليف وقريب منها، أو أي منطقة قريبة تمس بعمق مصالح أمنها القومي)، أما السيناريو الثالث، فيتمثّل في إشارة كاذبة بهجوم نووي تصدر عن منظومة الصواريخ الروسية المسماة “اليد الميتة”، وهي نظام آلي يسمح بإطلاق نووي دون رقابة أو أوامر آنية من القيادة.

وبينما يؤدي سيناريو الإنذار الكاذب في أي نظام إلى إطلاق سلاح نووي من قبل القوات الأميركية أو الروسية على السواء، فإن كلا السيناريوهين الآخرين يقتصران على احتمال إطلاق نووي من قبل القوات الروسية فقط.

لماذا تبدو روسيا أكثر عرضة للوقوع بالخطأ؟

يقول تقرير “رند” إن نظام الإنذار المبكر الروسي شهد تدهوراً كبيراً منذ الحرب الباردة، حيث وقف عند مستوى متدنٍّ في نطاق تغطيته.

وحتى وقت قريب نسبياً، كانت روسيا تقوم بتشغيل 3 أو أكثر من أقمار الإنذار المبكر الاصطناعية في مدار إهليلجي مرتفع حول الأرض، وقمر اصطناعي وحيد في مدار ثابت بالنسبة للأرض، لكن اعتباراً من نوفمبر 2015 ، لم يعد لدى روسيا، ضمن منظومة الإنذار المبكر، سوى قمر اصطناعي واحد عامل في المدار الإهليلجي المرتفع حول الأرض، وبدون أي أقمار اصطناعية في المدار الثابت بالنسبة للأرض.

هذا الوضع، وفقاً للتقرير،  يُقلل من احتمال طمأنة القادة الروس بشكل مستمر بعدم وقوع ضربة أميركية، ويزيد المخاطر المرتبطة بتقدير التهديدات النووية.

حوادث كادت تشعل حرباً نووية

في 1979 وقعت حادثة في الولايات المتحدة أظهرت بوضوح خطورة الإنذارات النووية الكاذبة. في 9 نوفمبر من ذلك العام عرضت أجهزة الحاسوب في نظام الإنذار المبكر للقيادة الفضائية الأميركية (NORAD) شريط تدريب بشكل غير متعمد، أشار إلى وجود هجوم صاروخي سوفييتي كبير ضد الولايات المتحدة، ما أدى إلى حالة من الذعر والارتباك في القيادة العسكرية الأميركية.

لكن، لحسن الحظ، تم اكتشاف الخطأ بسرعة.

بعد عام واحد فقط تكرر سيناريو مشابه. نظام (NORAD) نفسه تلقى إنذاراً كاذباً بهجوم سوفيتي. تم رفع حالة التأهب، قبل أن يتبيّن سريعاً أنه خلل في النظام.

وفي 1983، أوشك العالم أن ينزلق إلى مواجهة نووية كبرى، عندما أعطت منظومة الإنذار السوفيتي المبكر بلاغاً كاذباً بهجوم 5 صواريخ نووية أميركية، إلا أن حسن تصرف الكولونيل الروسي ستانيسلاف بيتروف حال دون الرد الانتقامي الفوري. الغريب والطريف، أن سبب الإنذار الكاذب، لم يكن سوى انعكاس ضوء الشمس على السحب، والذي فُسّر بشكل خاطئ على أنه صواريخ نووية عدائية.

حادثة أخرى وقعت عام 1990، حينما رصدت الأقمار الصناعية الأميركية انفجاراً هائلاً فوق المحيط الهادئ، ظنّت بداية الأمر أنه هجوم نووي محتمل، لكن بعد المراقبة والتحليل، ظهر أن الانفجار ناتج عن سقوط نيزك كبير واحتراقه داخل الغلاف الجوي للأرض.

تكررت حوادث الإنذارات الكاذبة في السنوات اللاحقة، ورغم التعامل معها بحكمة، إلا أنها كشفت مكامن الضعف في هذه الأنظمة، ما يدعو إلى التساؤل: هل اندلاع حرب نووية نتيجة خطأ تقني أو بشري لا يزال أمراً محتمل؟

أشار جيسين كاستييو إلى أن هناك العديد من الأمثلة التاريخية التي تُشير إلى احتمال وقوع حوادث نووية، موصياً بـ3 كتاب مفيدة في هذا الخصوص، الأول هو  (The limits of safety) “حدود الأمان” لسكوت ساجان، ويصف الحوادث في برنامج الأسلحة النووية الأميركي خلال الحرب الباردة، أما الثاني، فهو كتاب (Command and control) “القيادة والسيطرة” لإيريك شلوسر، ويتناول الحوادث خلال الحرب الباردة، في حين الكتاب الثالث هو (The logic of accidental nuclear war) “منطق الحرب النووية العرضية” لبروس بلير.

وقال كاستييو “رغم أن جميع هذه الكتب ليست مثالية، لكنها تعطي فكرة أنه في نهاية المطاف، بغض النظر عن قدراتك التقنية، هناك بشر يديرون هذه الأنظمة. وكبشر، نرتكب أحياناً أخطاء”.

وتابع: “البشر يرتكبون الأخطاء، وكذلك الآلات. حتى الآن، تمكنا من تجنب الحرب النووية العَرَضِية، ومع ذلك، ما يقلقني هو عندما تكون هناك دولتان، بما في ذلك مثلاً الدول المتقدمة مثل روسيا والولايات المتحدة، تخوضان حرباً تقليدية، أعتقد أن احتمال وقوع الحوادث يرتفع، لأن كلاهما سيكونان تحت ضغوط كبيرة، وقلقين بشأن امتصاص هجوم نووي، خاصة إذا كان الهدف هو نزع قدرات الآخر. وهذا قد يكون وصفة للحوادث أو ما يسميه باري بوزين في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (التصعيد غير المقصود)، أي أن الطريقة التي تقاتل بها الولايات المتحدة قد تبدو كأنها مقدمة لهجوم نووي، حتى وإن كانت النية فقط القتال تقليدياً”.

سيناريوهات الحرب النووية

سيناريوهات عديدة حاولت تقديم محاكاة للآثار والعواقب المحتملة في حال وقعت ضربات نووية متبادلة. أحدثها قدمته الصحافية الاستقصائية الأميركية آني جاكوبسن في كتابها الصادر عام 2024 “الحرب النووية: سيناريو – Nuclear War: A Scenario “.

وفقاً لهذا السيناريو، تبدأ الحرب بهجوم مباغت من كوريا الشمالية، حيث تستهدف قنبلة نووية حرارية بقوة 1 ميجاطن مقر وزارة الدفاع الأميركية “البنتاجون”، مُخلِّفة دماراً هائلاً في قلب العاصمة واشنطن، وإشعاعاً يصيب كل مَن ينظر إليه بالعمى، وحرارة أعلى من تلك المنبعثة عن الشمس، تقضي على الجميع، ثم تسيطر حالة من الرعب والذهول.

سيكون أمام سيّد البيت الأبيض 6 دقائق فقط لفتح الحقيبة المسماة (Nuclear Football) “الكرة النووية”، التي ترافقه دائماً مع مسؤول عسكري، ثم سيصدر أوامر الرد عبر شيفرات محددة مسبقاً، مقرراً أي ذراع سيستخدمه من الثالوث النووي الأميركي الذي يشمل (الصواريخ البالستية الأرضية والبحرية والقاذفات الإستراتيجية) لتوجيه ضربة نووية قاصمة لبيونج يانج.

وخلال طريقها إلى العاصمة الكورية، ستعبر تلك الصواريخ فوق روسيا مباشرة، سيظنّ الكرملين أن البلاد تتعرض لهجوم أميركي، لتسارع القوات الروسية بالرد على مصدر الهجوم، مستخدمةً صواريخ نووية تسمّى “منظومة الشيطان”.

في المرحلة الأخيرة، سيؤدي القصف النووي المتبادل خلال 72 دقيقة فقط، وفقاً لسيناريو آني جاكوبسن، إلى وفاة 5 مليارات إنسان، بينما “سيبقى الباقون يتضورون جوعاً على أرض مسمومة، حيث لم تعد الشمس تشرق ولا الغذاء ينمو”.

جيسين كاستييو الذي ألّف العديد من الكتب في المجالات العسكرية، وقدّم أبحاثاً عن الصراعات النووية، يُقسّم التأثيرات المتوقعة في حال وقع هجوم نووي إلى 3 أنواع هي الانفجار، والنيران، والإشعاع.

يشرح ذلك “كان المدربون الذين تعلمت منهم في مؤسسة (رند) دائماً يقولون إنه من المؤسف أننا لم نعد نختبر الأسلحة النووية في العلن، لأننا كنا نستطيع أن نأخذ قادة العالم إلى نيفادا لنظهر لهم كيف يبدو السلاح النووي عند ما يتم تفجيره في الهواء الطلق. نحن نعرف أنها أسلحة مروعة، ونُدرك تقنياً ما تفعله، لكننا قطعنا شوطاً طويلاً منذ زمن التجارب العلنية. هؤلاء الأشخاص الذين قاموا بتوجيهي وتعليمي قالوا إنه يجب عليك مشاهدة فيلم مثل (the day after – اليوم التالي) الذي يعود إلى الثمانينات. وعندما أعرضه على طلابي، يضحكون بداية، لكن بمجرد أن تنفجر الأسلحة النووية في بيئة حضرية، تتغير المشاعر، حيث يقوم الفيلم بعمل جيد في تصوير كرة النار، والانفجار، ثم، إذا كانت نقطة الانفجار قريبة من الأرض، سيحدث الاشعاع النووي”.

وتابع كاستييو: “أعتقد أن هناك تأثير نووي آخر لا يُقدّر حق قدره، وهو أنه في حال حدوث تبادل واسع النطاق بين الدول، قد تندلع حرائق ضخمة. هناك عالمة اجتماع كانت تعمل في ستانفورد، تدعى لين إيدن، ذكرت أن نماذجنا لتأثيرات الأسلحة النووية في حالات الضربات الكبيرة تتجاهل هذه الحرائق الهائلة التي ستنشأ. المؤرخ أليكس والرستين لديه موقع إلكتروني يمكن من خلاله رؤية تأثيرات أسلحة مختلفة، بما فيها النووية، وأعتقد أن ما يقدمه دقيق جداً”.

الدفاعات الجوية

معظم السيناريوهات التي حاولت محاكاة الحرب النووية افترضت أن الضربات المتبادلة ستنجح بالوصول إلى أهدافها. وهذا يدفع إلى التساؤل عن قدرة الدفاعات الجوية على ردع هجماتٍ كهذه.

وأشار كاستييو إلى أن الولايات المتحدة وروسيا والصين، لديهم أنظمة دفاع جوي، بعضها فعالة في اعتراض الصواريخ الموجهة مثلاً، لكنها أقل كفاءة ضد الصواريخ الباليستية، أما عندما يتعلق الأمر بالدفاع الصاروخي، فإن الأنظمة الأميركية على الأرجح، كما يعتقد، ستؤدي مهامها بشكل جيد ضد الإطلاقات غير المقصودة، لكن “بالنسبة لخصم مصمم على اختراق هذه الدفاعات، هناك طرق للتغلب عليها”.

وأردف: “يمكن تلخيص الأمر بأننا نملك أنظمة دفاع جوي وأنظمة دفاع صاروخي، وهي جيدة ضد الهجمات الفردية أو عدد قليل من الأسلحة، كما حدث عندما هاجمت إيران إسرائيل في الربيع الماضي، حيث أعلنت عن طريقة الهجوم وموعده ونوع الأسلحة المستخدمة. في مثل هذه الظروف الخاضعة للسيطرة، يمكن أن تكون الدفاعات الصاروخية مفيدة، لكن المخاوف تكمن في حالة النزاع الحقيقي، حيث يمكن للخصم التغلب على تلك الدفاعات. ولذلك، هي ليست مضمونة تماماً، وليست فعالة بنسبة 100%. علاوة على ذلك، تعمل دول مثل الصين وروسيا على تطوير أسلحة تفوق سرعتها سرعة الصوت. ومن المهم الإشارة إلى أن الصواريخ الباليستية عند دخولها الغلاف الجوي تتبع مساراً منحنياً وتكون أيضاً فوق صوتية. لكن الصينيين والروس يطورون أسلحتهم لتجاوز الدفاعات الأميركية الجوية والصاروخية”.

كثيراً ما يدور الحديث عن المناطق الأكثر أماناً في العالم إذا ما اندلعت حرب نووية. هل هذه الأماكن موجودة فعلاً؟

لا يعتقد كاستييو ذلك “لقد تحدثنا عن الولايات المتحدة وروسيا لأنها الحالة التي أعرف عنها أكثر من غيرها، وهي الأكثر قلقاً بالنسبة لي نظراً للحرب الجارية في أوكرانيا. مع ذلك، إذا كان هناك حرب نووية في جنوب آسيا بين الهند وباكستان، يمكنن الإشارة إلى أبحاث اطّلعت عليها أجراها زملائي في أماكن مثل مختبر (ليفرمور) تُشير إلى إمكانية حدوث ما نطلق عليه (الشتاء النووي)، وهو أمر قد يتحقق بعتبة منخفضة جداً”.

وتابع: “لنتخيل حدوث تبادل نووي بين الهند وباكستان، حيث يمتلك البلدان أسلحة بحجم قنبلتي هيروشيما وناجازاكي، ولنفترض أن 20 منها انفجرت، سيؤدي ذلك إلى انتشار الكثير من الرماد النووي. وهذا الرماد سيؤثر على الكرة الأرضية، وبعض هذه التقديرات تقول إنه في سيناريو الشتاء النووي، قد تحدث مجاعة عالمية. لذلك، أعتقد أنه لا يمكن لأحد الهروب من تأثيرات الحرب النووية”.

“منازلة الأزرار النووية”

في العام 2018، تبادل الزعيم الكوري الشمالي كيم جونج أون والرئيس الأميركي آنذاك دونالد ترمب مبارزة نووية كلامية، ولوح كل منهما للآخر بقوة بلاده، وسهولة الضغط على الزر الذي سيدمر الأخرى.

قال كيم في كلمة بمناسبة رأس السنة: “لن تتمكن الولايات المتحدة أبداً من بدء حرب ضدي وضد بلادي. فالولايات المتحدة بأكملها تقع في مرمى أسلحتنا النووية، وزر السلاح النووي موجود دائماً على مكتبي. هذه حقيقة وليست تهديداً”.

لم يتأخر سيّد البيت الأبيض الذي يهوى المشاكسات، ليرد في تغريدة: “هل يمكن لشخص من النظام الكوري الشمالي المُنهَك والجائع، أن يُخبر كيم جونج أون، أن لدي أيضاً زر نووي، لكنه أكبر بكثير، وأكثر قوة”.

لاحقاً، سيُكرر ترمب هذه العبارة في العديد من المقابلات: “تذكر أنه (كيم) قال: لدي زر نووي أحمر على مكتبي وله قوة كبيرة جداً. قلت لا، لدي زر أكبر بكثير من الزر الذي لديك، وزري يعمل”.

لطالما ساد اعتقاد أن الزعيم الكوري الشمالي كيم جونج أون قد يقرر في لحظة تهور الضغط على الزر النووي الذي هدد به مراراً. هل الأمر بهذه البساطة فعلاً مجرد زر يضغط عليه شخص أحمق وينتهي الأمر بحرب نووية عالمية؟

ليس لدى جيسين كاستييو معلومات كافية عن نظام القيادة والسيطرة في كوريا الشمالية، لكنه يأمل أن يكون لديهم نظاماً ذكياً، قادراً على إيجاد حلول للمشكلة التي يُطلق عليها “The Always Never ” (دائماً وأبداً)، وتعني كما يقول أن “النظام يعمل عندما تريد منه أن يعمل، ولا يعمل أبداً في ظل أي ظروف أخرى”.

وأردف: “في الواقع لدي شكوك حول ما إذا كانت جودة الأنظمة في كوريا الشمالية بمستوى الأنظمة الأميركية والروسية، لا سيما أن البلدين لديهما تاريخ طويل من التفاعل ومحاولة الحفاظ على أمان هذه الأسلحة. ويمكنني أن أُخمّن أن كوريا الشمالية تهتم بشدة ببقائها، وأعتقد أن هذا هو سبب حصولهم على الأسلحة النووية في المقام الأول. ورغم أنهم على الأرجح يحترمون بشكل كبير قدرة الولايات المتحدة على الرد بقوة، لكني لطالما اعتبرت أن القيادة في بيونج يانج تتسم بالجنون، إنها غير عقلانية”.

ثمّة أمر آخر يُثير القلق بالنسبة للباحث الأميركي، وهو التعثر بحرب تقليدية في شبه الجزيرة الكورية “إذا حدث ذلك، لا أعتقد أن كوريا الشمالية ستؤدي في القتال بشكل جيد، وهنا يكمن الخطر النووي، لأنها ستضطر لاستخدامه للتأمين على حياتها. نحن دائماً نتحدث عن فصل الأسلحة التقليدية عن النووية كما لو أنها مختلفة، لكن في تفاعلها يكمن الخطر، لاسيما أن كوريا الشمالي ضعيفة من الناحية العسكرية التقليدية، مقارنة بالولايات المتحدة وكوريا الجنوبية”.

أميركا فعلتها من قبل!

عندما يتم الإشارة إلى احتمال نشوب حرب نووية سرعان ما تُوجه الولايات المتحدة وحلفاؤها فوراً أصابع الاتهام نحو موسكو أو بيونج يانج، لكن التاريخ يُشير إلى أن الأميركيين فقط من استخدموا هذا السلاح حتى الآن. أليسوا إذن في موضع الشبهات أيضاً؟

وفي رده على هذا الطرح، ردَّ كاستييو: “خلال الحرب الباردة، كانت الولايات المتحدة وحلف الناتو يشعران بالقلق من أنهما أقل عدداً وأضعف من حيث القوة التقليدية مقارنة بالمحور الاشتراكي. لذلك، تم اتخاذ خطوات لوضع خيارات تحدد استخدام الأسلحة النووية. أولاً كان السيناريو التقليدي أنه في حال تعرضنا للهزيمة في غرب ألمانيا، سنستخدم الأسلحة النووية لمنع حدوث ذلك، لكن منذ نهاية الحرب الباردة، أصبح من الواضح أن نقص القوة التقليدية لم يعد مشكلة تواجه الولايات المتحدة، ويمكن القول إن الأوضاع قد انقلبت. نحن الآن أقوى من الناحية التقليدية، وبالتالي لا نفكر في استخدام الأسلحة النووية، إلا في ظروف ضيقة جداً. على سبيل المثال، إذا كنا نعتقد أن هناك هجوماً نووياً وشيكاً ضدنا، قد نشهد سيناريوهات تضطرنا لبدء الضربات، لكن بشكل عام، التفوق العسكري الأميركي يحول دون استخدامها للسلاح النووي”.

وأضاف: “على مدار 20 عامًًا، يمكن أن نتخيل حالات في شرق آسيا، حيث قد تكون الصين في موقع تفوق تقليدي، وعندها قد تحتاج الولايات المتحدة للعودة إلى وضع خيارات موثوقة لاستخدام الأسلحة النووية، أما في الوقت الراهن، من الصعب بالنسبة لي تصوّر سيناريو تضطر فيه لاستخدام الأسلحة النووية أولاً، حيث الولايات المتحدة في موقف يُركز على ردع الهجمات النووية ضد قواتها العسكرية، وعلى الأرجح ستحقق التفوق في معظم الظروف”.

التدمير المتبادل

عندما كانت التوترات بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي في ذروتها خلال الحرب الباردة (1947-1989)، شاع استخدام مفهوم “التدمير المتبادل” (Mutually Assured Destruction)، الذي تتلخص فكرته في أن وجود أسلحة نووية لدى الدول المتنازِعة، يمنعها من البدء في حرب نووية، لأنها تعلم أن ذلك سيؤدي إلى دمار شامل لأطراف القتال.

كانت أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962، منعطفاً حاسماً في تجسيد هذا المفهوم، عندما أدركت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي أن أي تصعيد نووي قد ينقلب إلى كارثة كبرى، ما أسهم آنذاك في التوصل إلى اتفاق لتجنب الصراع.

وفق هذا المنظور، يعتقد كاستييو أن الأسلحة النووية تجنّب العالم الحروب الكبرى.. بل قد تجعله أكثر سلاماً “بعد قصف هيروشيما وناجازاكي، عُقد مؤتمر في جامعة شيكاغو الأميركية، حيث خلص أحد المشاركين وهو برنارد برودي، الذي يعتبر من أبرز المفكرين، أن هناك ثورة نووية في الشؤون العسكرية، والسبب في ذلك هو القوة التدميرية لهذه الأسلحة النووية. حقيقة أنه يمكن لدولة إلحاق الأذى بدول أخرى وقتل شعبها بسرعة دون هزيمة جيوشها على الأرض، جعلت العالم أكثر سلاماً”.

وأضاف: “برودي وجميع من تبعوه في هذا الاتجاه يُجادلون أنه في عالم يحتوي أسلحة نووية، من الصعب تصور تكرار الحرب العالمية الثانية. العالم ليس آمناً للحروب التقليدية بين القوى العظمى، وما كان يجب أن نراه، لكننا لم نرَه، هو تراجع الصراعات العسكرية بين الدول الكبرى أو الأزمات التي تطلب فيها قوة كبرى شيئاً من أخرى باستخدام التهديدات، وكان من المفترض أن نرى سباقات تسلح أقل. جميعنا نعلم أنه خلال الحرب الباردة شهدنا سباق تسلح تنافسي للغاية والكثير من الأزمات، لكن لم نشهد الحرب العالمية الثالثة، وهذا ربما يرجع إلى حقيقة أن امتلاك أسلحة نووية جعل الدول مترددة في استخدام القوة ضد بعضها البعض”.

وتابع كاستيييو: “لنفكر في الولايات المتحدة والصين أو الولايات المتحدة وروسيا. ما الذي يمنعهم من استخدام هذه الأسلحة في أي صراع؟ أعتقد أن هناك 3 أسباب على الأرجح. أولاً، الأسلحة النووية مدمرة للغاية، بإمكانها قتل الكثير من الناس. يمكن جعلها أكثر دقة وتقليل قدرتها التدميرية، لكنها ستظل فعالة جداً في تدمير الأهداف ذات القيمة الكبيرة. ثانياً، هناك نوع من المحرمات في النظام الدولي ضد استخدام الأسلحة النووية، إذ تُعتبر مرعبة وغير مشروعة. ثالثاً، الولايات المتحدة تعيش في حالة من الضعف المتبادل مع روسيا والصين، بمعنى أن ما يمكنها فعله لهم، يمكنهم فعله لها، لذلك، هذه العوامل الثلاثة: الكلفة التي يمكن فرضها، والمحرمات، والضعف المتبادل، تعني أننا تعيش في ظل أحد أشكال الردع”.

المستقبل النووي للشرق الأوسط

في الشرق الأوسط تمتلك فقط إسرائيل رؤوساً نووية، ولدى تركيا رؤوساً نووية أيضاً في قاعدة إنجرليك، لكنها تحت السيطرة الأميركية، وتسعى إيران، كما تُتهم، إلى تطوير برنامج نووي غير سلمي، وهو ما تنفيه دائماً.

إذن، كيف يبدو مستقبل الشرق الأوسط في ظل الانتشار النووي في المنطقة؟

يعتقد الباحث في شؤون الدفاع جيسين كاستييو أن قدرة إيران على تطوير أسلحة نووية أصبحت شبه حتمية، وقال: “أعتقد أن إيران ستطور نوعاً ما من القدرات النووية. هذا منطقي، ذلك أنها تعيش في منطقة خطرة، وهي جارة لباكستان التي تمتلك أسلحة نووية، ولديها طموحات إقليمية. كما أن إحدى طرق مواجهة الولايات المتحدة وقواتها التقليدية المتفوقة هي امتلاك أسلحة نووية. لذلك، لدى الإيرانيين حوافز قوية للحصول على هذه الأسلحة”.

وفي ما إذا كان حصول إيران على أسلحة نووية سيؤدي ذلك إلى مزيد من الانتشار النووي في المنطقة، يرى كاستييو أن الولايات المتحدة، اتخذت خطوات لمنع إيران من زيادة تخصيب اليورانيوم بدلاً من السماح لدول أخرى بتطوير قدراتها النووية الخاصة لمواجهة إيران، ويبدو أن أي إدارة أميركية ستلتزم بشكل أكبر بحماية الدول في المنطقة”.

وتابع: “في الستينيات، كان المحللون قلقين من أنه بحلول عام 2024، قد يكون هناك 30 إلى 40 دولة نووية، لكن لم يحدث هذا. ويعود ذلك باعتقادي إلى أن الحصول على قدرات نووية أصعب مما يظنه معظم الناس. لقد عملت القوى الكبرى، مثل الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي ثم روسيا والصين، بجد على هذا الأمر، حيث يتعاونون على منع الدول الأخرى من الحصول على الأسلحة النووية. كما أن هناك معاهدة عدم الانتشار التي تعترف بها القوى النووية وغير النووية، وتعهدت بموجبها الدول غير النووية بعدم السعي للحصول على هذه الأسلحة مقابل تلقي المساعدة في الطاقة النووية السلمية، وبالمقابل، وعدت القوى الكبرى بتقليل ترسانتها النووية. أما مدى الالتزام بهذا الوعد أعتقد أنه موضوع قابل للنقاش”.

معاهدات الحد من الأسلحة

على الرغم من وجود معاهدات للحد من انتشار الأسلحة النووية، إلا أنها تفتقر إلى الالتزام الجدي من الدول النووية، فما الذي يمنع من التوصل إلى اتفاق لإنهاء جميع البرامج النووية غير السلمية حول العالم؟ لا سيما أن الحقبة التي تلت نهاية الحرب الباردة، شهدت الكثير من جهود السيطرة على التسلح.

أشار كاستييو إلى أنه في نهاية الحرب الباردة، عقدت الولايات والمتحدة وروسيا سلسلة من الاتفاقيات، بما في ذلك معاهدة “نيو ستارت” الحالية، التي تنص على الحد من الأسلحة النووية الاستراتيجية المنتشرة لدى البلدين إلى حوالي 1550 رأساً نووياً، لكن منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا، أصبح تنفيذ هذه المعاهدة والتحقق من الالتزام بها ضحية لهذا الصراع. ورغم أن البلدين يلتزمان بالاتفاقية، كما يبدو، لكن هناك إشارات تصدر من موسكو بعدم الرغبة في الستمرار بالمعاهدة”.

ويرى الخبير في شؤون الدفاع أن “ما يزيد تعقيد قضية انتشار التسلح مساعي الصين لتحديث قواتها النووية واللحاق بركب الولايات المتحدة وروسيا، حيث من المحتمل أن يستغرق ذلك حوالي 10 سنوات. وفي غضون هذا الوقت قد نعيش في عالم تكون فيه الترسانة الأميركية والروسية والصينية بنفس الحجم. وفي ظل المنافسة الاستراتيجية بين الدول الثلاث من غير المرجح أن يحدث تحكم في التسلح”.

ويعتقد كاستييو أنه “سيكون من الحماقة أن تبدأ الولايات المتحدة وروسيا سباق تسلح جديد، نظراً لأن البنية التحتية التي تمتلكها الدولتان لإنتاج الأسلحة النووية ليست كما كانت في السابق. لذلك، حتى لو كان هناك اختلاف حول أوكرانيا، قد يستمر البلدان في الالتزام بمعاهدة (نيو ستارت). إلا أنني لا أعتقد أن الصين تواجه نفس القيود، إذ لديها حوافز متنوعة على الأقل لتلحق بالولايات المتحدة”.

“عالم بدون نووي”

قد تبدو حاجة أي دولة للقنبلة النووية أمراً بدهياً بالنظر إلى قوة الردع والحماية التي توفرها هذه الأسلحة الخطيرة، لكن لنتخيل العالم بدون هذه الأسلحة.. كيف سيكون؟

قال جيسين كاستيلو: “هذا سؤال رائع، أحب طرحه على طلابي بعد دراسة الحرب العالمية الثانية، حيث أسألهم: هل ستعيدون تجربة الحرب الباردة مع أو بدون أسلحة نووية؟ أعتقد أن هذا يقودنا إلى قيمة الردع الكبيرة التي توفرها الأسلحة النووية. وهذا لا يعني أنه لن تكون هناك حروب تقليدية بين القوى الكبرى، لكن هذه الأخيرة ستأتي بتكاليف كبيرة، وهو ما يجعل الدول مترددة في خوض صراعات على غرار الحرب العالمية الثانية”.

وأضاف: “لذلك، إذا عشنا في عالم يمكننا فيه استخدام عصا سحرية للتخلص من الأسلحة النووية، أعتقد أننا سنرى المزيد من الحروب التقليدية. وإذا أردنا مثالاً حياً، لننظر إلى الحرب في أوكرانيا. أعتقد أن الأسلحة النووية الروسية هي التي منعت حلف (الناتو) من التدخل لصالح كييف. نعم، الغرب يزودهم بالأسلحة، ويُقدم لهم المساعدات الاقتصادية، لكن الحلف ومن خلفه الولايات المتحدة متردد جداً بشأن إرسال قوات عسكرية إلى أوكرانيا. وأعتقد أن احترام القدرات النووية الروسية هو الذي جعل قرار إدارة بايدن ومعظم أعضاء الناتو حاسماً. وهكذا، إذا تخلصنا من الأسلحة النووية، سنعيش في عالم يكون فيه وقوع الحرب التقليدية أكثر احتمالاً”.

“ساعة القيامة”

مع بداية الحرب الباردة عام 1947، وارتفاع مخاطر المواجهة النووية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، أنشأت جمعية علماء الذرة الأميركية مؤشر “ساعة القيامة”، وضبطته عند 7 دقائق قبل منتصف الليل، لتحديد مدى قرب العالم من الإبادة النووية.

في مطلع العام الحالي، أعيد ضبط الساعة عند 90 ثانية قبل منتصف الليل، في إشارة إلى التهديدات الوجودية على الأرض وسكانها.

ربما من المستبعد أن تستخدم الدول النووية سلاحها المدمّر، لأنها قد لا تضطر إلى ذلك أو تخشى أن تتجرّع السمّ ذاته، لكن الماضي غير البعيد يقول لنا إن البشر استخدموا القنابل النووية بالفعل. هل يمكن أن يتكرر هذا؟ من يدري ماذا يُخبئ مكرُ التاريخ وفق فلسفة هيجل؟ أليس عالمنا مليء بالمفاجآت! كم من أحداث وقعت في غفلة ولم تكن في الحسبان. للتاريخ منطقه الخاص أحياناً.

على الأقل، ما نعرفه حتى الآن، أن مستقبل البشرية سيبقى دائماً على المحك، ما دامت الأسلحة النووية على كوكبنا. ألن يكون العالم أفضل بدونها؟

*الحلقة السابقة من “سؤال المليار”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *