يبدو أن الحكومة البريطانية برئاسة كير ستارمر، وجدت نفسها في مواجهة غير متوقّعة مع واحدة من أبرز الأصوات الأدبية في العالم اليوم، هي الكاتبة الإيرلندية سالي روني (31 عاماً).
فالمؤلفة التي أصبحت رمزاً لجيل الألفية من خلال أعمالها التي لاقت نجاحاً عالمياً، قرّرت أن تحوّل منصّتها الأدبية إلى مساحة للمواجهة السياسية، متحدّية الدولة البريطانية، عبر إعلانها أنها ستخصّص عوائد حقوق مؤلفاتها وأعمالها الدرامية، لدعم منظمة “أكشن فلسطين” أو “Palestine Action”، التي حظرتها وزارة الداخلية البريطانية.
كتبت روني في مقالها المنشور في “أيريش تايمز”: “أريد أن أوضح أنني أنوي استخدام هذه العوائد من أعمالي، وكذلك منصّتي العامة ككاتبة ناجحة، لدعم “أكشن فلسطين”، وكل أشكال العمل المباشر ضد الإبادة الجماعية بكل ما أستطيع”.
أضافت: “إذا كان هذا يُعدّ إرهاباً بنظر الدولة البريطانية، فربما عليها أن تحقّق مع المؤسسات التي لا تزال تروّج لعملي وتموّل أنشطتي، مثل مكتبات “WH Smith”، وهيئة الإذاعة البريطانية (BBC)”.
هذا القرار لم يأتِ من فراغ. فمنذ بروزها كصوت أدبي شاب، عُرفت روني بمواقفها النقدية الواضحة تجاه السياسات الغربية والإسرائيلية، وكان سبق لها عام 2021، أن رفضت بيع حقوق الترجمة لروايتها “أيها العالم الجميل، أين أنت؟” إلى دار نشر إسرائيلية، في خطوة اعتبرها الكثيرون اصطفافاً مع حركة المقاطعة، وسحب الاستثمارات (BDS)، لكن إعلانها الأخير رفع منسوب التوتر بين الأدب والسياسة، ليضعها في قلب معركة حول حرية التعبير، وحقّ المثقف في الاعتراض، وخصوصاً في زمن الحرب على غزة.
لم يكن هذا الموقف السياسي الجريء هو ما صنع شهرة روني أولاً، فالكاتبة الشابّة حظيت بلقب “صوت جيل الألفية” بسبب مسيرتها الأدبية اللافتة.
ومنذ ظهورها الأول، شكّلت أعمالها علامة بارزة في الأدب المعاصر، بدءاً من رواية “أحاديث مع الأصدقاء” (2017)، التي تناولت فيها علاقات الحب والصداقة المعقّدة في أوساط شبابية، مروراً برواية “أناس عاديون” (2018)، التي رسّخت حضورها عالمياً وحوّلتها إلى أيقونة ثقافية، بعد أن حُوّلت إلى مسلسل تلفزيوني ناجح، ثم رواية “أيها العالم الجميل، أين أنت؟” (2021)، التي ناقشت فيها بأسلوب تأملي أزمات جيلها الفكرية والوجودية، وأخيراً روايتها الأحدث “إنترمتزو” (2024).
لكن الأهم أن الكاتبة الإيرلندية لم تكتفِ بأن تكون “كاتبة الجيل”. فقد صارت أيضاً صوتاً احتجاجياً يستخدم سطوة الأدب والانتشار العالمي لتوجيه رسالة سياسية. فإعلانها الأخير، المنشور في صحيفة “The Irish Times”، جاء بلغة صريحة: “إذا اعتبرني القانون البريطاني إرهابية بسبب دعمي لفلسطين، فليتحمّل مسؤوليته أيضاً أمام المكتبات”.
هذا الموقف يؤكد تحوّل الكتابة عند سالي روني إلى فعل مقاوم للاحتلال، يتداخل فيها الخاص بالعام، والجمالي بالسياسي، والنص بالواقع المشتعل.
حكومة في مأزق
خطوة روني أربكت حكومة ستارمر لسببين: الأوّل لأنها تأتي من كاتبة جماهيرية ذات قاعدة قرّاء ضخمة في بريطانيا والعالم. والثاني لأنها تضع المؤسسة الثقافية البريطانية وخصوصاً هيئة الإذاعة البريطانية (BBC) في موقع حرج.
فالمسلسلات المقتبسة من أعمالها، وعلى رأسها “أناس عاديون” التي حصدت نجاحاً هائلاً، ما زالت تُعرض عبر منصّات رسمية، ما يثير أسئلة قانونية حول مدى مشروعية الاستمرار في ترويج أعمال كاتبة، تعلن دعمها العلني لمنظمة محظورة.
الحكومة، عبر وزارة الداخلية والادعاء العام، شدّدت على أن “دعم منظمة محظورة يُعدّ جريمة بموجب قانون مكافحة الإرهاب، وأن الشرطة ستطبّق القانون على كل من يعلن دعمه”.
لكن المفارقة تكمن في أن الحشود التي تظاهرت أخيراً في لندن دعماً لـ”أكشن فلسطين”، لم تكن شبابية متمرّدة فحسب، بل ضمّت آلاف المثقفين والمتقاعدين والمسنين، في مشهدٍ هزّ صورة الرواية الرسمية عن “التطرّف”.
المثفقون بين الخطاب والفعل
لم يبقَ صوت سالي روني وحده في مواجهة القرار الحكومي البريطاني، إذ عبّر عدد من أبرز المثقفين والفنانين عن تضامنهم معها، معتبرين القرار خطوة تهدّد الحقوق المدنية وحرية التعبير.
على مستوى المؤسسات، وقّع مفكرون وأكاديميون بارزون، بمن فيهم نعومي كلاين وأنجيلا ديفيس وجوديث بتلر، رسالة مفتوحة إلى رئيس الحكومة، مطالبين فيها بوقف ما وصفوه بـ”الاعتداء على الحريات الأساسية”. كما أعلنت نحو 300 شخصيّة يهودية مرموقة، من بينهم المخرج مايك لي والكاتب مايكل روزن، معارضتهم لهذا التصنيف، واعتبروه “غير أخلاقي وغير شرعي”.
أما على مستوى الفعل العام، فخرج المخرج السينمائي البريطاني العريق كين لوتش، في مسيرة احتجاجية بإدنبرة ضد تجريم “أكشن فلسطين”، واصفاً ذلك بـ”فظاعة قانونية”. وفي تصريحات إعلامية، اتّهم حكومة ستارمر بانتهاك القانون الدولي، وبدعم إسرائيل رغم ما يُرتكب بحق الشعب الفلسطيني من “إبادة جماعية”، مؤكّداً أن “قمع الحراك المدني بموجب هذا القرار تحوّل إلى حالة قانونية همجية يجب مواجهتها”.
لا شك أن هذه التحركات التضامنية تحمل أبعاداً متعددة، من إصدار بيانات فكرية، إلى المشاركة المباشرة في الاحتجاجات الميدانية، مروراً بتوظيف رمزي للسماء الثقافية عبر رؤساء فرق سينمائية، وإشارات دعم علنية من قامات فكرية بمكانة عالمية.
وفي عالم تُختزل فيه أحياناً المواقف الأدبية في شعارات إنسانوية عابرة، تبدو سالي روني نموذجاً مختلفاً: كاتبة تضع شهرتها على المحك، وتغامر بانتشارها العالمي من أجل قضية تؤمن بها. قد يراها البعض “متهوّرة” أو “منفعلة”، لكن لا شك أن موقفها الأخير يعيد طرح سؤال قديم متجدد: هل يستطيع الأدب أن يغيّر العالم، أم أن أقصى ما يمكن أن يفعله هو أن يعكسه بمرآة أكثر وضوحاً؟