لمع اسمها في السودان كقاصة وروائية بصوت مغاير، يحمل آلام المجتمعات المحلية المحطمة بسبب الحروب. فازت أخيراً بتقدير “بن بنتر” البريطانية، حاصدة جائزة “الشجاعة”، كونها عبّرت في مؤلفاتها أيضاً، عن قضايا مهمة مثل الهوية والهجرة والنزوح. 

الكاتبة السودانية ستيلا قايتانو، تتحدث في هذا الحوار مع “الشرق”، عن العناصر التي شكلت وجدانها “المختلط”: السوداني – الجنوب سوداني. كما تتحدث بجرأة كبيرة عن المسكوت عنه، وعن جذور الأزمات السودانية، وعن تجربتها في الكتابة والهجرة.

كيف أثّرت الطفولة والنشأة على تكوين خيالاتك الأدبية واشتغالك لاحقا على الكتابة؟

نشأت كطفلة عادية لأسرة فقيرة وسط عدد كبير من الأخوة . كان بيتنا أيضاً مكتظاً بالأهل الهاربين من أتون الحرب في الجنوب في ذاك الوقت . فوجدت نفسي أتحوّل لأذن كبيرة تسمع وتنصت لكل الحكايات بشغف . ومعروف أن  السودانيين يحكون القصص بصوت عال ، تحوي الجمل والأصوات الصارخة والأغنيات بدراما ممتعة، وحركات جسدية مفعمة بالحيوية والوصف، وكان هذا كافياً لإشعال خيال طفلة لها  فضول .

 ما تأثير القراءة عليك، ولمن قرأت باكراً ثم لاحقاً؟

القراءة نوع من النجاة الفردية ، كنت محظوظة لأنها كانت شغفي الوحيد في الطفولة المبكرة والمراهقة. مع كل كتاب أتصفحه، كنت اشعر باتساع العالم وضآلتي . يمرّ على عقلي الصغير الكثير من الفقرات التي لم أكن أفهمها وأتمنى أن افهمها يوماً . كل شعور يأتي بجهل ما اقرأه كان حافزا للاستمرار .

بدأت بالألغاز بالطبع وروايات المراهقين. وفي الثانوية وقع في يدي موسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح. وبين الثانوية والجامعة تعثّرت بمئة عام من العزلة لماركيز . كنت كمن يقف على بوابة كهف مجهول وعميق، وكل ما مشيت قدماً أعثر على جوهرة ثمينة. سأبقى ممتنّة للكُتاب والكتب إلى الأبد.

تبدين كجسر وجداني وروحي وثقافي عميق بين السودان وجنوبه، وكأن طاقتك تتجه لمحو حدود “سياسية”.





هذا ليس سهلاً. أعتقد أن السياسة عاجزة عندنا على الدوام. ولتغطية عجزها فإنها تتغوّّل على الثقافة والفنون وعمق الروابط الاجتماعية وتدمّرها، ثم تُظهر سلطتها بادعاء إعادة الضبط والسيطرة، وإذا وجدت مقاومة تبطش. السياسة تقوى في أجواء الانحطاط والأزمات، لذلك تسعى دائماً لخلقها ثم الانشغال بحلها.

آسف لهذا الكلام المحبط، فهو بسبب ما أوصلنا له فقدان البوصلة السياسية في السودان . ولكن عجز السياسة لم يطغ على التضامن الكبير بين السودانيين. من الملاحظ أن هناك لاجئين جنوبيين في السودان وهناك لاجئين سودانيين في الجنوب بسبب الحروب المتكررة هنا وهناك. 

رغم التاريخ الدموي الذي يقول إنه من الصعوبة أن نتعايش معاً، يأتي السودانيون ويدهشونك بالتضامن مع بعضهم في أوقات الأزمات. وبالرغم من وجود أعمال عنف تندلع من حين لآخر بينهم، ولكن سرعان ما يتذكرون أهمية التضامن في الأوقات الصعبة. 

هذا التضامن يعكس حاجتنا إلى الآخر. و لم يحدث إلا عندما فشلت السياسة في منحنا الأمان والسلام والكرامة . فشل السياسة هو الذي أجبر ملايين الناس على النزوح واجتياز الحدود والبحث عن ملاجئ في أماكن أخرى، لأن السياسة فشلت في جعل الوطن ملاذاً للجميع.

كيف تشكّل “المكانان” في ذاكرتك، مسقط رأسك في جنوب السودان والخرطوم حيث ولدت وعشت؟

لطالما حملا التناقض. وحتى الآن ما زلت أبحث عن إجابة  بطريقة جيدة لمثل هذا السؤال. خلال طفولتي كنت دائماً أسأل نفسي أسئلة غريبة، ولم أتجرأ يوماً على توجيهها لأحد. مثال على ذلك، كيف يتحارب الشمال والجنوب ورغم ذلك ينزح الجنوب إلى الشمال؟ وعندما أرى جنوبيين ممثلين في الحكومة، كنت أقول مَن هؤلاء ، لماذا لم ينضموا لدعم إخوتهم في الحرب ضد الشمال؟

إلى أن تشكلت ثنائية مشاعري تجاه الخرطوم كمدينتي التي ولدت ونشأت فيها وأحبها، وكانت ملاذاً لضحايا عنفها، وفيها درست وتعلمت وشكّلت جزءاً كبير من هويتي . في ذات الوقت لم أتوافق مع جبروتها وصلفها وخوضها حروبا ضد شعوبها في الأطراف. 

أما الجنوب فكان دوما الحلم وأمنية أن يأتي يوم وأعيش هناك، إلى أن حوّل ساسة الجنوب المكان إلى كابوس، وأعادوا إنتاج العنف، وضيّعوا آمال وأحلام شعب لطالما صبر ليعيش حياة طبيعية.

العديد من الأدباء مثلك، لم يدرسوا الآداب بل علوماً أخرى مثل الحقل الطبي، هل تشعرين ببعض الندم على عدم دراسة الفلسفة أو الآداب؟

هناك عوامل كثيرة لاختيارنا المجالات العلمية. نحن جيل تمت صياغته بواسطة البيت والمجتمع والظروف المحيطة . وخاصة إذا نشأت في أسرة عادية جداً. ثم توضع في سن مبكر في مسار معين وسيكون في النهاية هو المحدّد للكلية التي تختارها .

كنت طالبة نجيبة وذكية في الرياضيات وعلوم الفيزياء والأحياء، وتلقائياً كان هذا المسار يقود إلى العلوم الطبية والهندسية . تجاهل أساتذتي وأنا أيضاً ذلك، لأنني كنت من أفضل الطالبات في كتابة التعبير وكتابة القصة.

العامل الثاني، هو أن الأسرة كانت تعوّل على أبناءها النجباء، كاستثمار مضمون لزيادة دخلها. لذا درست الصيدلة لكني لم اتخل عن قراءة الأدب والفلسفة بطريقة غير نظامية. وكنت أكتب في الوقت نفسه .

الندم يأتي من أن دراسة الصيدلة ومن ثم الماجستير والعمل في المجال الطبي لسنوات ، قلّل من التركيز لصقل الموهبة، وألقى بظلاله على الإنتاج الأدبي كماً وكيفاً. 

موضوعات الهوية إلى جانب النزوح والهجرة حاضرة بقوة في أعمالك. ما هي فلسفتك؟

دعنا نقول أثر النزوح والهجرة القسرية على الهوية. موضوع الهجرة والنزوح القسري بسبب الحرب أو الغزو أو حتى لعوامل بيئية يتسبب فيها الإنسان، يؤلمني بشكل خاص ، لدرجة أن شعوري بأن الأرض المهجورة تموت.

هذه الهجرات الجماعية أعتبرها أكبر جريمة يمكن أن تحدث للناس . لأنها ليست مجرد حركة من مكان لآخر، ولكنه تجريف اجتماعي وثقافي وبيئي ونفسي . خاصة في هذا العصر ، إنه أمر غير مسبوق. كأن هناك أيد خفية تزلزل الخارطة العالمية لإعادة ترتيب كل شيء من جديد .

كل تلك الحروب والإفقار وانتشار السلاح، هذا عار سياسيي اليوم. وتسبّبت قراراتهم غير الحكيمة في زعزعة الاستقرار والسلام العالمي، وخصوصاً في جنوب الكرة الأرضية. النزوح والهجرة الجماعية هي جريمة كبرى. وصول النازحين والمهاجرين  بهذه الأعداد الكبيرة يؤدي إلى الخوف، وبالتالي استعداد الآخر ليحمي نفسه وثقافته ومعتقده من الوافد .

فالجماعة المهاجرة اضطراراً، تفرض نفسها على الجماعة المستضيفة . لذلك ارتبطت الهجرة والنزوح في كثير من الاحيان بتنامي خطابات الكراهية وإلقاء اللوم على الوافدين في زمن الأزمات واعتبارهم سبب البلاء. هذا يحدث في كل مكان، مهما حاول البعض تذليل ذلك  بخطابات دبلوماسية.

لذلك أحاول إبراز أسباب النزوح في قصصي، لرؤية الوجه الإنساني فيه، وربما إيجاد نوع من التعاطف.

تجيدين الإنجليزية وتكتبين بالعربية، هل اللغة التي نفضّل الكتابة بها هي وعاء أكبر يحتمل الوجدان والمعارف أكثر من كونها مجرد أداة؟

  أقرأ وأكتب بالعربية والانجليزية. لم أفكر مرّة أن أكتب الأدب بالإنجليزية. دائماً أشعر بأني لا أجيدها بشكل متمكن . أعتقد أن اللغة تتجاوز في بعض الأحيان أداة التواصل اللفظي والكتابي، إلى مرحلة الشعور بالأمان والإشباع . فكل تلك اللغات لا تعطيني شعور المعنى الكامل  كاللغة العربية، كتابة وقراءة، لأنها كانت لغة التعليم الوحيدة بالنسبة لي.

كان لديك مع آخرين مشروع طموح لإنشاء مكتبات عامة في مدن السودان. ماذا جرى وما الفكرة من وراء المشروع؟

نعم مشروع “اصنع فرقاً بكتاب”. لقد أوقفته الحرب كما أوقفت الكثير من المشاريع التنموية الأخرى. وهذه ضمن الخسائر الثقافية بالطبع . نجحنا في إنشاء 14 مكتبة في مدن مختلفة في السودان . وكانت هذه المكتبات أماكن آمنة للشباب لممارسة عدد من الأنشطة المرتبطة بالقراءة وإقامة ندوات ثقافية واجتماعية لمناقشة مشكلات تخصّ كل منطقة . ومن الجميل أن بعض هذه المكتبات استمرت تعمل حتى أثناء الحرب .

كيف انعكست الحروب السودانية، والحرب الأخيرة على الكاتبة فيك؟ وكيف تصفين الآلام والانكسارات التي تخلّفها الحروب؟

وصلت إلى حد الاعتراف بأنني أعاني من صدمات متراكمة. بعد أن وجدت الوقت الكافي لمراقبة نفسي وأفكاري وسلوكي. لم يكن سهلاً الوصول لهذه الحقيقة. احتاج الأمر الكثير من القراءة والاستماع للمتخصصين. ومنها بدأت رحلة التعافي بذهن واع .

 كانت الكتابة واحدة من طرق التعافي التي سلكتها. بعد أن عرفت أن آلاما لم نُشف منها ربما يرثها أبناؤنا، وهذا ما لا أريده لأولادي . فما بالك أن لدينا مجتمعات بكاملها لم تكتشف أنها مصدومة ويجب أن تحل هذه المشكلة، أو على الأقل تطلب المساعدة لحلها. 

في حالتي ، قررت أن يتوقف كل هذا عندي . وأعتقد هذه  مهمتنا الآن كآباء وأمهات في هذا الوقت حماية أطفالنا من وراثة هذه الآلام. كما يجب أن نعترف بأننا شعب يعاني من صدمات متراكمة. وعلى كل فرد أن يصل لهذا الوعي ، لأنها خطوة نحو السيطرة على ما نقوله ونسمعه ونفعله ونظهر بعض التعاطف.  

الحرب الأخيرة في الخرطوم أكدت ما كنت أردده ، أن الحرب بدأت من قبل أكثر من 40 سنة وتخللتها اتفاقات لم تكن تُحل المشكلات  بل تقوم بتخديرها فقط. كانت الحروب في السابق بعيدة في الأطراف، ولكن وصولها الخرطوم كان تتويجاً لاكتمال خارطة العنف الكبيرة ليس إلا. 

اختلف الزمان والمكان ونوع القنابل فقط . وهذا ألم كبير بالطبع . الأحزان بفقد الأعزاء وتشرّدهم والقلق الدائم على المحاصرين والعجز عن  مد يد العون، هذا كله يصيبني بالاكتئاب، والخوف من متابعة الأخبار. كإنسانة وكاتبة، أتمنى أن تقود كتاباتي الناس لاكتشاف ظلمات ذواتهم، ومعالجة الندوب المختبئة فيها.

الحروب هي قرارات سياسية يروّج لها المستفيدون من استمرارها. ولكن حق أنفسنا علينا هو حمايتها من التورط في أتون الحروب ومحاولة النجاة منها بكل السبل .

جرّبت الهجرة مؤخراً، ماذا وجدت بين عالمين وأي جسور إنسانية يمكن صناعتها بينهما؟

الهجرة تجربة مذهلة رغم قسوتها . إنها تضع كل شيء في حجمه الطبيعي . في الماضي لم أفكر قط في ترك السودان . كانت هذه الفكرة كواحدة من المستحيلات. لأني كنت أُعرف نفسي من خلال وجودي وأنشطتي ومشاركاتي في السودان . كنت أشعر بأن إنسانيتي لن تكتسب معناها إلا من خلال وجودي داخل حدود الوطن. أعتقد أني كنت متطرّفة جداً في هذا الأمر. عندما هاجرت تضاءل كل ذلك. الإنسان يوجد لنفسه معنى في أي مكان .

في أوروبا اتخذت المبادئ التي أؤمن بها شكلها الصلب، لأنها مدعومة بنظام ديموقراطي ومساحة من الحريات العامة والشخصية. هناك حدود واضحة ما بين حرية التعبير وخطاب الكراهية. وحدود واضحة بين التعبير عن الرأي والخوض في التجريح الشخصي.

بالطبع توجد تجاوزات ولكن القانون حاضر وفوق الجميع. هنا نشعر بالدولة حاضرة وتحاول ما تستطيع، من أجل المساواة والعدالة وإشاعة الأمن ودعم المواطنين وتوفير الخدمات لهم . تذكّرك الشركات الخدمية بحقوقك في كل لحظة إذا تضررت بشكل ما. وأسأل نفسي كل يوم، هل كان من الصعب تحقيق ذلك في السودان؟

بالرغم من تنامي اليمين المتطرف بشكل كبير وكراهية الأجانب، متخذين من المهاجرين سبباً للمشكلات التي يعانون منها اليوم. ولكن من ناحية أخرى، ككُتّاب وفنانين وجدنا بيئة احتضنتنا وجعلتنا فاعلين ثقافيين نثري الساحة الثقافية بالتنوّع. كل فرد منا يُعتبر سفيراً لبلده. أشعر بالامتنان أني كنت خلال هذه الحرب صوتاً يتحدث عن قسوة الحرب في السودان، في ظل التجاهل المتعمد من العالم تجاه ما يحدث، وتركيزه على الحرب الروسية الأوكرانية وغزة .

أصبحت في قلب المشهد الثقافي الغربي بالترجمة والجوائز، إلى أي درجة يساعد ذلك في فهم الآخر للسودان وتفاصيله المبعثرة في الفنون والآداب؟

ذكرت سابقاً، بأن الهجرة تضع كل شيء في حجمه الصحيح.  في البدء كنت أشعر بالإحباط عندما أجد أن لا أحد يعرف السودان وما يحدث فيه الآن. الناس يعرفون النيل ولا يعرفون السودان . وكانت حيلتي لتعريف الناس به أن أسألهم، هل تعرفون النيل؟ يقولون نعم، فأقول نهر النيل يجري في الأراضي السودانية. أو أن السودان واحد من الدول التي يشقّها النيل. كان محبطاً عدم معرفة أغلب الناس بالسودان، بالنسبة لشخص يحمل تلك الفكرة عن عظمة بلده.

 هناك أدب وأدباء مسيطرون من دول شمال وغرب أفريقيا، بالإضافة لدول عربية. بينما يغيب أدب شرق افريقيا وجنوب الصحراء بشكل لافت . هنا يسألني الناس دائما هل أنت من غانا أو نيجيريا أو غينيا. وعندما أقول جنوب السودان يحتارون ، ثم أقول السودان يقولون: لا نعرفه. حتى الأخوة من الدول العربية يندهشون بأن السودانيين يتحدثون العربية، والأخوة الأفارقة أيضاً لا يعرفون عنا. 

أن تجد نفسك منتم لبلد غير معروف في العالم ،أو حتى في الإقليم فهذا أمر مؤسف. هل آن الأوان أن نسأل لماذا ؟ دعنا من مسألة رمي الآخرين بالجهل. إننا أيضا مسؤولون عن تعريف أنفسنا وقول أننا هنا.

لا يمكن طبعا لنوع واحد من الفنون والكتابة أن يُعرّف الناس بالسودان . نحتاج ككتاب وفنانين أن نعزز حضورنا العالمي من خلال الإنتاج الفني بأنواعه وتعزيز الترجمة أيضاً.

ما هي علّة السودانيين برأيك، أعني على مستوى العقل أو العقول الجمعية. ولأي درجة تسهم الفنون والآداب في طرح الأسئلة عن أسباب الأزمات؟

أعتقد أننا شعب يرفض التعلم من تجاربه الماضية. ويفضّل رؤية الأزمات كأحداث معزولة عن بعضها. رغم أن الحقيقية تقول إنها مترابطة. 

 اذا اخذنا شريحة الحكام من قادة سياسيين وعسكرين، فهذا الأمر واضح. عناد صبياني في استخدام ذات الأدوات التي تؤدي إلى الكارثة في كلّ مرة، لكنهم لا يترددون في إعادتها على أمل الحصول على نتائج مختلفة وفوق ذلك يحتفون. 

الشعب السوداني شمال/ جنوب تكالبت عليه المصائب بسبب الفشل السياسي. هذه المصائب اذا كانت حروب أو فساد أو دكتاتوريات عسكرية، أقعدته عن التعليم والتنمية والتطوير. أعتقد أن الشعوب التي يتم تجهيلها عمداً، ستكون خط الدفاع الأول للدكتاتوريات، والأيدولوجيات الشمولية. وكلما كثر عددهم كلما كانوا قوّة منيعة ضد التغيير. منهم من يتم تجنيدهم وزجهم في أتون الحروب، ومنهم من يعلو صوته بضرورة الانتقام وتأجيج الفتن . 

إن الانظمة التي نرزح تحتها تحتاج إلى شعوب غير واعية سهلة القيادة، ليطول أمد بقاءها في الحكم دون مقاومة . الآداب والفنون قد لا يكون لها تأثير كبير اذا تم إنتاجها في بيئة فيها الكثير من القمع والقهر والتجريم وعدم الحريات . وهي تحتاج كي تزدهر، إلى تفاعل من جمهور له ذائقة فنية وحس نقدي، يمكنه أن يحاور هذه الفنون ويُخضعها للقراءة المتأنية ويستمتع بها.

أعتقد أن الفنانين والكُتّاب والشعراء طرحوا الكثير من الأسئلة في كل حقبة، وقدّموا أطروحات قد تكون حلولاً لأزمات الهوية والتنمية غير المتوازنة وضرورة العيش معاً في دولة عادلة. ولكن ظل صوتهم منخفضاً وضعيفاً بسبب قمع الأنظمة. وحالة الأمّية الكبيرة أيضاً، تجعلهم غير مؤثرين أو قادرين على إحداث التغيير السريع.

كيف تسير حياتك بعد الهجرة، وهل من عادات جديدة أو طقوس مرتبطة بالاكتشاف الفهم القراءة والكتابة؟

الغربة تنظم الوقت وتجبرك على توزيع طاقتك بشكل جيد، وخصوصاً إذا وصل أحدنا لحقيقة أنه محدود في كل شيء. وأنه أيضاً مازال بحاجة إلى التعلم والاكتشاف ومراقبة ما يحدث حوله دون إطلاق الأحكام المسبقة. 

هذه المحدودية هي التي جعلتني أتواضع وأتأمل كل ما أمر به، كحدث يحمل وجها واحداً من الحقيقة وهناك الكثير الذي لا أعرفه . كثيرا ما أردد “هذا جزء من الحقيقة وليس الحقيقة الكاملة كما يتراءى لي”.

كذلك أقرأ بانتظام وأتعلم لغة جديدة وأكتب وأحاول الاندماج في الجغرافية الجديدة.

ماذا تمثل لك جائزة بن بنتر وإلى أي درجة تعتقدين أنك شجاعة ومن أين تستمدينها؟ ألا تنطوي النفس البشرية دائما على هشاشة؟

أريد أن أهنيء ليلى أبو العلا على فوزها بـ “بنتر 2025” وأشكرها على اختياري ككاتبة شجاعة لهذا العام. تأثّرت جداً بذلك، وأعتقد أن مشاركتنا جائزة بنتر، تحمل رمزية تتجاوز كونها احتفاءً أدبيا، إلى الاحتفاء بإمكاناتنا أن نعمل معا وننجح. وبالطبع إنه تقدير للأدب السوداني عموماً.

يقولون الشجاعة هي أن تتخذ موقفاً رغم خوفك. أحيانا رغم خوفي أختار ان أكتب في قضايا مسكوت عنها، أو أعبّر عن رأي مختلف في قضايا حساسة يتوقع مني الكثيرون أن انحاز لفئة محددة بحسب تصنيفهم لي. 

الشجاعة تأتي من الإحساس بالمسؤولية وربما وصلت لفهم واستيعاب ما يحدث في السودان، وقدرة نسبية على تحليل ردود الأفعال تجاه أحداث معينة . استجابتي لكل ذلك ومعرفتي المسبقة بعدم قبول ما سأقوله ورغم ذلك أفعل . فالشجاعة هي الاستمرار في الفعل رغم معرفة العواقب .

هل يمكن وصف النساء السودانيات بالجسارة، كونهن يناضلن منذ عقود على جبهات مختلفة؟

بلا أدنى شك. المرأة السودانية جسورة وهي مجبرة أن تكون قوية في بلد غير مستقر كالسودان. 

متى تعودين إلى السودان وما تصوّراتك بشأن مستقبله؟

أتمنى حقاً أن يكون ذلك ممكناً يوما ما. أريد الاستمرار بمشروع المكتبات ودعم التعليم حتى ولو عن بعد.  في صميم قلبي سأبقي هذه الرؤية حيّة، أنا وأعضاء المبادرة . هذه هي مساهمتنا  كجزء من الحل لمستقبل البلاد. القراءة كفرصة للنجاة، الوعي كقارب للعبور نحو مستقبل آمن .

مستقبل السودان يحتاج إلى أن نسمع بعضنا ونجد حلولاً مشروعة تسهم في بناء سودان المستقبل .

شاركها.