لقرون طويلة، تمتعت مدينة ستراسبورج الفرنسية بالشهرة، باعتبارها واحدة من أكثر المدن إثارة للاهتمام في التاريخ الأوروبي.

ولا تعود شهرة المدينة التي تحتضن مقر البرلمان الأوروبي منذ عام 1979، إلى الصراع السياسي حولها فحسب، بل أيضاً إلى كونها المدينة التي لجأ إليها يوحنا جوتنبرج، مخترع الطباعة عام 1434، ويقال إنه خلال إقامته فيها، بدأ بتطوير تقنيته للطباعة، قبل أن يعود إلى مسقط رأسه الألماني في مدينة ماينتس، لإكمال مشروعه، وطباعة الكتاب المقدس عام 1455، الذي عُرف باسم “إنجيل جوتنبرج”.

كانت المدينة في الأصل قرية صغيرة، تحوّلت إلى حامية عسكرية رومانية حتى استولى عليها الفرنجة، وتغيّرت هويتها السياسية مرات عدّة، وأصبحت في وقت ما مدينة حرة وسط الإمبراطورية الرومانية، قبل أن يبدأ حولها الصراع الفرنسي الألماني، لتعود بعد الحرب العالمية الثانية إلى السيادة الفرنسية.

تشتهر ستراسبورج بكاتدرائية نوتردام، التي أصبحت تُعرف باسم كاتدرائية ستراسبورج، للتمييز بينها وبين نوتردام باريس، وهي تعتبر مركز المدينة، والبناء الأطول في أوروبا لمدة قرنين وحتى عام 1874. 

وتعدّ الكاتدرائية التحفة المعمارية القوطية، والمكان الذي استقطب المفكرين والأدباء العالميين الذين زاروها وحفروا أسماءهم على جدران سطحها، مثل المفكر الهولندي إيراسموس روتردام، الذي  قال عنها “لا يُوجد عمل قوطي بمثل هذه الروعة أو الطموح “، والأديب الألماني يوهان جوته الذي قال “كلما تأمّلت واجهتها تأكد انطباعي الأول عنها؛ فهنا يتّحد في تناغم السمو بالجاذبية”.

 كما استلهم بعض الفنانين والكُتّاب أعمالهم منها، مثل فيكتور هوجو وفولتير.

كل الطرق تؤدي إلى الكاتدرائية 

في ستراسبورج يقول الجميع إن “كل الطرق تؤدي إلى الكاتدرائية”؛ فنوتردام التي تتوسط المدينة، ويرتبط تاريخ بناءها بتاريخ ستراسبورج السياسي والاجتماعي.

بدأ بناء الكاتدرائية الرومانية الأصلية عام 1015، لكن هذا المبنى لم يتبق منه سوى أساس الكاتدرائية الموجودة حالياً، والتي بدأ العمل عليها في القرن الثالث عشر، وكان من المفترض أن يعلو سطحها برجين شاهقين، لكن البناء الذي اكتمل عام 1439، أصبح يحمل برجاً واحداً فحسب، بارتفاع 142 متراً، ويلزم الوصول إليه صعود 330 درجة سلّم، تمثّل نحو 66 متراً  حتى السطح، وهو البرج الذي وصفه الأديب فيكتور هوجو بأنه ” الانتصار الحقيقي لهذه الكاتدرائية، فهو تاج حجري ومعجزة تجمع بين الضخامة والرقة.”

ولأن البرج الثاني للكاتدرائية لم يكتمل، فقد خصّصت المساحة الموجودة له لبناء ما يعرف باسم “La maison des gardiens” أو “بيت الحراس”، الذين تولوا مراقبة المدينة من على هذا الارتفاع الشاهق لحمايتها من الأعداء، أو من اشتعال النيران في المنازل، التي كانت كلها مصنوعة من الخشب في ذلك الوقت.


كان “حراس البيت” يُطلقون صافرات الإنذار في حال وجود أي خطر، أو يستخدمون مكبّرات الصوت، وهو ما يعيد للأذهان ما كتبه الأميركي جي أر أر مارتن، مؤلف سلسلة روايات “لعبة العروش”، التي بدأ نشرها عام 1996، ووصلت حتى الآن إلى خمسة كتب، حول  “Night’s Watch”، أو حراس الليل، التي استقاها من حراس حاميات الحدود الرومانية، وأخوية فرسان الهيكل في العصور الوسطى.

منزل الحراس

تؤكد المراجع التاريخية، وجود الحراس على سطح كاتدرائية نوتردام ستراسبورج منذ القرن الخامس عشر، وأصبح لهم غرف فوق سطح الكاتدرائية منذ القرن السادس عشر، ويعود تصميم الغرف الحالية التي نفّذها المعماري جون لوران جوتز إلى عام 1782.

 لم تكن مهمة الحراس فوق سطح الكاتدرائية تقتصر على الدفاع عن المدينة ضد الخطر فحسب، لكن أيضاً تولي مسؤولية الساعات الشمسية الموضوعة في الاتجاهات الأربعة للبوصلة، التي تساعدهم على ضبط الوقت وقرع أجراس الكنيسة، وضبط الساعات الميكانيكية التي صمّمها صانع الساعات الشهير جون باتيست شفيلجي عام 1843، وجرى استبدال ماكيناتها بواسطة شركة “أونجريه” عام 1924، وهي الساعة الموجودة حتى اليوم، وتحتل ماكينتها جزءاً من بيت الحراس على سطح الكاتدرائية. 

وفي القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، اجتذب سطح كاتدرائية ستراسبورج، بإطلالته على أهم المعالم الأثرية وقصور المدينة، الزوّار من جميع أنحاء العالم، وفي الصيف، كانت العائلات تصعد إليه في عطلة نهاية الأسبوع، وفي بعض المناسبات الاحتفالية، وكانت الفرق الموسيقية تنظّم عروضاً فوق سطحها، ويطلق الحراس أحياناً طلقات المدافع.

كما يحرص المشاهير على نقش كلمات الذكرى على أحجار السطح، وهو الأمر الذي جرى منعه منذ أوائل القرن التاسع عشر، واستبدل النقش على الحجر بسجلات ورقية. 

إلى جانب بيت الحراس، تتوسط السطح الذي يمكن مشاهدة أهم معالم المدينة منه، مثل فرنسا الصغيرة منه، وقصر روهان، وميدان جوتنبرج، وكنيسة القديس توما، ودار الجمارك القديمة، ومؤسسات الاتحاد الأوروبي الهامة وغيرها، بوصلة ضخمة تشير إلى اتجاهات أهم العواصم العالمية والمسافة التي تفصلها عن ستراسبورج، والعجلات الدوّارة التي تعود إلى القرن الخامس عشر وكانت تستخدم أثناء أعمال بناء الكاتدرائية لرفع المواد البنائية، إلى جانب عروض تقدم بطريقة الجرافيك مراحل وتاريخ بناء الكاتدرائية والدور المهم الذي لعبه بيت الحراس في الدفاع عنها، إلى جانب صورة عملاقة لمجموعة من حراس السطح تعود إلى عام 1900.

شاركها.