شهدت الساعات القليلة الماضية تطورات دراماتيكية سريعة على حدود مصر الجنوبية، بعدما نجحت قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو الشهير بـ«حميدتي»، في السيطرة بالكامل على مدينة الفاشر وإحكام قبضتها على ولاية دارفور بالكامل.
وتشير عملية سيطرة «الدعم السريع» على الفاشر وانسحاب الجيش السوداني بقيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان، إلى دخول السودان مرحلة «اللا عودة» في طريق تقسيم الدولة الموحدة بعد بسط «حميدتي» نفوذه في إقليم دارفور بالكامل.
وحاصرت قوات «حميدتي» مدينة الفاشر لفترة طويلة دامت لأكثر من 18 شهرا، التي كانت تعد آخر مركز رئيسي للجيش السوداني في إقليم دارفور.
وفي هذا الصدد، قالت قوات الدعم السريع في بيان لها، إنها نجحت في بسط سيطرتها على مدينة الفاشر، ووصفت ما فعلته في الفاشر بالمعارك البطولية التي تخللتها عمليات نوعية وحصار أنهكت العدو ومزقت خطوط دفاعه وأوصلته إلى الانهيار التام.
إعادة الترسيم وورقة تفاوض
وبحسب الخبراء والمراقبين، نجحت قوات الدعم السريع في السيطرة على الفاشر وإجبار الجيش السوداني بقيادة «البرهان» على الانسحاب وإغلاق المنافذ الإنسانية، مما يهدد بتحول استراتيجي كبير يمهد لإعادة رسم النفوذ داخل السودان.
وبخلاف ما تمثله الفاشر لـ«حميدتي» من نقطة تحول في محاولات بسط سيطرته على إقليم دارفور تمهيدا لتقسيم السودان، إلا أنه يرى أن «الفاشر» ورقة ضغط مثالية لاستخدامها في التفاوض في حال إقامة أي مفاوضات سياسية.
إجراء تكتيكي أم انسحاب؟
على الجانب الآخر، قال الفريق أول عبدالفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة السوداني، إن القيادة التابعة له في مدينة الفاشر، كانت ترى ضرورة مغادرة المدينة لوقف قتل المدنيين وتقليل الخسائر والدمار الذي لحق بها خلال فترة حصار المدينة.
ووصف «البرهان» ما حدث خلال الساعات الماضية بـ«الحركة التكتيكية»، رافضا وصف مغادرة المدينة بـ«الانسحاب».
وأكد رئيس مجلس السيادة السوداني، أن الجيش قادر على العودة للفاشر وتحقيق النصر، معقبا: «وافقنا على أن تغادر قواتنا المدينة والذهاب إلى مكان آمن حتى يجنبوا بقية المواطنين وبقية المدينة الدمار الممنهج».
واستكمل: «هذه محطة من محطات العمليات العسكرية التي فرضت على البلاد، والقوات المسلحة ستنتصر لأنها مسنودة بالشعب ويقاتل معها كل أبناء الشعب، وهذه المعركة ستحسم لصالح الشعب السوداني».
وتابع: «سنقتص لكل أهل الفاشر من الجرائم التي ارتكبت الآن في الفاشر، وارتكبت قبل ذلك في كل بقاع السودان على مرأى ومسمع من العالم، ووجهت بالصمت من المجتمع الدولي».
مستقبل دارفور
وفي سياق متصل، قال مني أركو مناوي، حاكم إقليم دارفور ورئيس حركة جيش تحرير السودان، إن سقوط مدينة الفاشر بيد قوات الدعم السريع لا يعني التفريط في مستقبل دارفور لصالح جماعات العنف.
وأكد «مناوي» أن كل شبر سيعود لأهله، مطالبا بضرورة التدخل لحماية المدنيين من الانتهاكات الجسيمة التي تحدث في إقليم دارفور.
وحذر أنطونيو جوتيريش، الأمين العام للأمم المتحدة، من تصعيد مروّع في مدينة الفاشر.
وقال «جوتيريش» إن مستوى المعاناة التي نشهدها في السودان لا يمكن تحمّله ويشكّل ذلك تصعيدًا مروّعًا في النزاع.
موقف ترامب
على الجانب الآخر، كشف مسعد بولس، المستشار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للشؤون الإفريقية، إن الإدارة الأمريكية قدمت مقترحا يتضمن هدنة إنسانية لمدة 3 أشهر.
وأوضح «بولس»، أن هذا المقترح حظى بترحاب شديد من طرفي الصراع وهو ما يمهد لإمكانية الوصول إلى اتفاق شامل إذا توفرت الإرادة السياسية لدى الجانبين.
وأكد مستشار الرئيس الأمريكي، أنه لا بد من فتح ممرات إنسانية فورًا لتمكين المدنيين في الفاشر من الوصول إلى مناطق آمنة، مشيرا إلى أن العالم يراقب أفعال قوات الدعم السريع في الفاشر بقلق بالغ.
وبحسب تقديرات الأمم المتحدة، يعيش نحو 300 ألف شخص في أوضاع مأساوية بمدينة الفاشر.
وترى الأمم المتحدة الوضع في السودان أكبر أزمة إنسانية في العالم؛ إذ نزح أكثر من 12 مليون شخص، وهناك أكثر من 26 مليون شخص يواجهون خطر المجاعة، أي ما يقارب نصف سكان البلاد.
وتشير إحصاءات الأمم المتحدة إلى فرار أكثر من مليون مواطن من الفاشر خلال الحصار الذي فرضته قوات الدعم السريع منذ 18 شهرا، وبقاء ما يقرب من 250 ألف مدني وسط أزمة غذائية طاحنة وانهيار كامل للخدمات الصحية بسبب نقص الأدوية والمستلزمات وقصف المستشفيات.
خطر على الحدود المصرية
يرى المراقبون والخبراء، أن سيطرة قوات الدعم السريع على مدينة الفاشر يشكل تهديدا صريحا على الأمن القومي المصري، لقرب إقليم دارفور من المثلث الحدودي مع ليبيا ومصر، وسط تحذيرات من تسلل عناصر إجرامية والمرتزقة للحدود، علاوة على انتشار تجارة السلاح بالإقليم وتداوله وترويجه بالأسواق كسوق أبشوك وسوق المواشي.
ويخشى المراقبون للأوضاع في السودان، من عودة موجات جديدة من اللاجئين إلى مصر بعدما كانت مصر تسير رحلات للعودة الطوعية للسودانيين لبلادهم عقب هدوء الأوضاع بشكل نسبي خلال الأشهر القليلة الماضية.
وفي هذا الصدد، ترى الدكتورة هبة البشبيشي، أستاذ العلوم السياسية وخبيرة الشؤون الإفريقية، أن تصاعد الأحداث وتدهور الحالة الأمنية في دارفور يشكل خطرا حقيقيا ومقلقا على الأمن القومي المصري.
وأكدت أن ما حدث في الفاشر ليس مجرد عملية عسكرية وانسحاب للجيش بل خطوة نحو تقسيم السودان إلى 3 دويلات صغيرة بانفصال دارفور كدولة مستقلة كما حدث في الجنوب.
وأوضحت «البشبيشي»، أن قوات الدعم السريع بقيادة «حميدتي» حاصرت الفاشر بكل قوة بغرض السيطرة على دارفور وإجهاض جهود مصر الإيجابية خلال الشهور الماضية في تهدئة الأوضاع بالمنطقة وما حققته من نجاحات على صعيد القضية الفلسطينية ووقف إطلاق النار في قطاع غزة.
وتابعت: «مصر استعادت حجمها الطبيعي في المنطقة وهو ما يقلص من حجم أطراف أخرى لذلك كانت التطورات في الفاشر لتهديد الأمن القومي المصري، ومحاولة بعض الأطراف الإقليمية إحداث الفوضى لتحقيق مكاسب سياسية».
واستكملت: «لا بد من متابعة دقيقة لما يجري في الفاشر وإقليم دارفور لضمان عدم التسلل عبر الحدود لليبيا».
وأوضحت أن الدعم السريع بادر بقطع الاتصالات والإنترنت عن إقليم دارفور لعزله عن القيادة المركزية السودانية بل والعالم أجمع في خطوة خطيرة نحو تهيئة الأوضاع للإعلان عن دولة جديدة وتقسيم السودان.
مشروع تقسيم السودان
على الجانب الآخر، قال العميد الركن جمال الشهيد، الخبير العسكري والمحلل الاستراتيجي السوداني، إن الجيش السوداني لم يتعرض للهزيمة في مدينة الفاشر بل اختار الانسحاب التكتيكي المنظم.
وأكد «الشهيد»، أن انسحاب الجيش السوداني جاء مدروسا وبشكل منظم ما يعني أن المعركة لم تنتهي بعد، بل هي هدنة لإعادة التموضع والانتشار مرة أخرى.
وأشار إلى أن ما يحدث داخل إقليم دارفور، يؤكد ما تسعى إليه بعض الأطراف الإقليمية والدولية من أجل تقسيم السودان.
وشدد «الشهيد»، على أن الجيش السوداني لا يمكن بأي حال أن ينسحب تماما من مدينة الفاشر، مؤكدا أن الجيش لا يزال يتواجد في مواقع عسكرية عدة بالمنطقة.
وتابع: «تواصلت بنفسي مع بعض قيادات وضباط الجيش وأكدوا وجودهم في الفاشر واستمرار الاشتباكات مع عناصر الدعم السريع».
ولفت الخبير العسكري والمحلل الاستراتيجي السوداني، إلى أن الجيش السوداني وأهالي مدينة الفاشر سطروا ملحمة وطنية عظيمة بالصمود لأشهر طويلة أمام الحصار، معقبا: «الجيش لا يحارب ميليشا متمردة على الدولة بل يحارب مشروعا فوضويا مدعوما من الخارج بإمكانات وأموال هائلة».
وأضاف: «يجب أن يعلم العالم كله أن هذه الميليشيا تمردت على الدولة، ولا تملك مشروعًا وطنيًا، بل تتبنى مشروعًا خارجيا لهدم السودان».
وأوضح العميد الركن جمال الشهيد، أن قوات الدعم السريع، تستخدم الحرب الإعلامية في تصوير المشهد وكأنه انتصارا عسكريا كبيرا وهزيمة للجيش السوداني، إنما الواقف مخالف تماما.
وتابع: «الواقع على الأرض لا يقول إن الدعم السريع يسيطر تماما على الميدان، بل يستغلون تصوير بعض الفيديوهات لإيهام الأطراف الإقليمية والمجتمع الدولي بإحكام السيطرة في دارفور».
